الأزمة المركبة… حين يتحمل الجميع ثمن غياب الدولة

في المقال الأول، حاولنا أن نفتح النقاش حول معضلة معقدة يعيشها المصريون اليوم،
معضلة لا تتعلق فقط باستقبال الأشقاء العرب، بل ترتبط بعمق بسوء الإدارة وغياب الرؤية.
وبالرغم من وضوح الرسالة التي أكدنا فيها أن المسؤولية تقع على كاهل الحكومة، إلا أن بعض القراء شعروا – بحق – بأن هناك التباسًا، أو ربما خشية من أن يُفهم الكلام وكأنه تحميل للضيوف ما لا ذنب لهم فيه ،بالرغم من التأكيد على ذلك بشكل مباشر.
ولهذا، دعونا نضع الأمور في نصابها الحقيقي، وبصراحة لا تقبل التأويل: المشكلة لم تبدأ بقدوم الضيوف،
بل بدأت قبلهم بسنوات، وربما عقود، حين تركت الحكومة السوق بلا تنظيم، والخدمات بلا تطوير، والعدالة الاجتماعية بلا حماية، وجعلت المواطن المصري يعيش في دوامة من الأزمات التي لا تنتهي.
ثم، وبدلًا من أن تسعى الدولة لإصلاح هذا الخلل، او حتى تضع خطط إصلاح تدريجي،
اختارت فتح الأبواب أمام موجات كبيرة من الأشقاء العرب،
دون أن تسبق هذا القرار بخطة، أو إجراءات، أو استعداد حقيقي، فزاد العبء، وتضاعفت الأزمة، ووجد الجميع أنفسهم في قلب معاناة واحدة لا تفرق بين مصري أو ضيف.
المواطن والضيف… شركاء في الأزمة
في الوقت الذي يعجز فيه المواطن المصري عن إيجاد سكن بسعر عادل، يُجبر الضيف أيضًا على التكدس في وحدات بالكاد تصلح لحياة آدمية، وفي الوقت الذي تنهار فيه فرص العمل، ويغيب الحد الأدنى العادل من الأجور،
يضطر الجميع، مصريين وضيوف، للعمل في مجالات لا تليق بهم، في بيئة لا تعرف معنى الكفاءة، ولا تحترم حقوق الإنسان.
هكذا، لا يصبح الضيف مسؤولًا عن الأزمة، بل جزءًا من ضحاياها، أما المسؤول الحقيقي، فهو نظام اختار ترك الأمور للصدفة، والمصالح، والعلاقات الشخصية، دون رؤية، ولا تخطيط، ولا سياسة تحمي المواطن أو الضيف.
حين تُصبح مصر ملاذًا بلا معايير… الجميع يخسر
غياب التنظيم، وسوء الإدارة، حوّل مصر إلى ملاذ مفتوح بلا ضوابط،
فصارت تجتذب في الغالب فئات محددة من الأشقاء العرب،
غالبًا من الطبقات الأكثر فقرًا وهشاشة، ممن لم يجدوا بديلًا،
بينما غابت عن مصر الفئات المنتجة، القادرة على الإسهام في إحداث توازن يخفف من آثار الأزمات المتوقعة بسبب العشوائية، لأن هؤلاء، حين يبحثون عن الأمان، يبحثون أيضًا عن دولة تحترم القانون، وتضمن الحقوق.
والأمر لم يتوقف عند ذلك، بل انسحب على السياحة،
فقد تحوّلت مصر إلى وجهة للسياحة من الدرجات الثالثة والرابعة، بسبب السمعة والعشوائية، بينما عزف السائح الواعي، الباحث عن بيئة منظمة، آمنة، تحترم قواعد اللعبة،
وكأن مصر فقدت تدريجيًا مكانتها كدولة تحتضن الجودة، وتحترم الإنسان.
الخطر الأوسع… حين يتشوّه الداخل وتنهار السمعة في الخارج
هذه العشوائية ليست مجرد أزمة داخلية،
بل كارثة تطال صورة مصر في الخارج، وتنعكس على أبنائها،
فتحولت سمعة العامل المصري إلى عبء، وتراجعت ثقة بعض الأسواق فيه،
لا بسبب كفاءته، بل بسبب صورة بلده كدولة لا تنظّم، ولا تحمي، ولا تحترم القانون.
الخلاصة… والجزء القادم
نحن لا نحمّل الضيف وزر الأزمة، ولا نبرئ الحكومة من مسؤوليتها،
بل نقولها بوضوح سياسي لا يقبل المواربة:
غياب الرؤية، تراكم الإهمال، فتح الأبواب بلا استعداد،
كلها عوامل صنعت هذه الأزمة المركبة التي يدفع ثمنها الجميع،
المواطن، الضيف، الدولة، صورتها، واقتصادها.
وفي الجزء القادم، سنحاول أن نطرح حلولًا واقعية، بعضها عاجل، وبعضها مرحلي،
حفاظًا على ما تبقى من كرامة المواطن، واستقرار الدولة، وسمعتها