الصومال تسقط فى الفوضى.. هواجس أمنية للعمق المصري بالبحر الأحمر
لحقت الصومال بقائمة الدول الأفريقية التى طالتها الفوضى خلال الأيام الماضية، فى مؤشر على تسارع الأحداث خصوصا فى منطقة القرن الأفريقي، بما يشير إلى انفجار وشيك بهذه المنطقة الحيوية من العالم والتى تحمل أهمية استراتيجية للعمق المصري.
وأفادت تقارير واردة من الصومال بفرار المدنيين من عدة مناطق بالعاصمة مقديشو، في ظل حالة الاستنفار والتحركات الليلية لكل من القوات الداعمة للرئيس محمد عبد الله فرماغو، والمسلحين المعارضين له، ويخشى سكان مقديشيو من تجدد المواجهات بين الفريقين اللذين تمركزا في مواضع مختلفة من العاصمة الصومالية.
قتال عنيف فى الصومال
وكان قتال عنيف وقع يوم الأحد بين القوى الأمنية النظامية في البلاد التي تتناحر بعدما ضرب صفوفها جزئيا انقسام ذو طابع عشائري وسط التصعيد الحاصل بسبب احتجاج قوى معارضة على تمديد ولاية الرئيس محمد عبد الله فرماغو لمدة عامين، بعد انتهائها كما هو مفترض في فبراير الماضي، ورفضها الاعتراف برئاسته.
رفض الرئيس فرماغو
وتسيطر حاليا قوات موالية للمعارضة على أجزاء من المدينة، واشتبكت القوتان مطلع الأسبوع، ما أثار مخاوف من أن تستغل حركة الشباب الإرهابية، التي تربطها صلات بتنظيم القاعدة وداعش، الفراغ الأمني مع انقسام قوات الأمن.
وأقيمت حواجز رملية خارج بعض المدارس التي أغلقت أبوابها، الإثنين، بسبب العنف في اليوم السابق، ووضعت حواجز معدنية على طريق واحد.
كما سيطرت قوات معارضة على بعض الطرق المؤدية إلى تقاطع سيدكا، وهي نقطة تفتيش أمنية قريبة من القصر الرئاسي ووزارة الداخلية والبرلمان، وكتب رئيس الوزراء محمد حسين روبلي الذي عيّنه الرئيس، العام الماضي، على تويتر: “يجب وقف الحرب”.
بداية الأزمة
وطلع شهر أبريل الجاري، صوت مجلس النواب الصومالي لصالح تمديد ولاية الرئيس محمد عبد الله محمد، ومدتها أربع سنوات، لكن مجلس الشيوخ رفض الخطوة ما أثار الأزمة.
وجاءت أحداث الصومال بعد أيام من مقتل رئيس تشاد إدريس ديبي، إضافة إلى الصراعات العرقية المتفجرة فى إثيوبيا مع إقليم تيغراي والأمهرة وبنى شنقول، كما تدخلت إريتريا لصالح إثيوبيا فى هذا الصراع.
القرن الأفريقي
ودفعت المخاوف من تفجر الصراع فى القرن الأفريقي، إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن، لتعيين السفير المخضرم جيفري فيلتمان مبعوثا أمريكيا لهذه المنطقة التى تشير الأوضاع لتحولها إلى ساحة معارك ومعسكر إرهابى كبير على غرار المشهد فى أفغانستان وسوريا وغيرهم من المناطق الملتهبة فى العالم.
أبعاد الأزمة
وفى وقت سابق لتحليل أبعاد الأزمة فى الصومال ومدي خطورتها، نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة دراسة حذر فيها فيه خطورة انتهاء بعثة الاتحاد الإفريقى فى الصومال وتأثير المشكلات الداخلية فى الصومال والتوترات فى إثيوبيا بالإضافة إلى التدخلات الخارجية على استقرار الصومال ومن ثم منطقة القرن الإفريقى.
بعثة أميصوم
وأشار كاتب التحليل، إلى قرب انتهاء بعثة الاتحاد الإفريقى “أميصوم” رسميا مهمتها فى الصومال بحلول نهاية عام 2021، وعدم استعداد الصومال لتحمل التبعات الأمنية لذلك الانسحاب. فإذا استمرت الحرب فى إقليم التيجراى أو امتدت إلى مناطق إثيوبية أخرى فإن ذلك يعنى إمكانية سحب الحكومة الإثيوبية المزيد من القوات العاملة فى الصومال، ومن ثم إضعاف قوة أميصوم لأن القوات الإثيوبية لاعب قوى فى الصومال وثقلها يفوق بشكل كبير ثقل قوات المؤسسة العسكرية الصومالية التى ما زالت تعتمد على مجموعات الميليشيات القائمة على أساس عشائرى فى مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة. وسيكون من المحتمل أيضا أن يقوم الأعضاء الآخرون فى البعثة، مثل جيبوتى وبوروندى وأوغندا، بالانسحاب. وربما تواجه أميصوم مشاكل أخرى بعد قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب سحب قوات أمريكا الخاصة من الصومال فى أوائل عام 2021، لذلك سيكون هناك عبء ثقيل على أميصوم لتحل محل الدعم الأمريكى. ومن ثم يتساءل الكاتب عن مستقبل الصومال وارتباطها بالتفاعلات الإقليمية فى القرن الإفريقى. يطرح ذلك كله التساؤل حول مسارات المستقبل لأزمة الصومال وارتباط ذلك بديناميات التفاعلات الإقليمية فى منطقة القرن الإفريقى.
الأزمات الداخلية
وعرضت الدراسة، أزمتين داخليتين فى الصومال. أولا النظام الانتخابى الذى حاولت الجهات المانحة لسنوات عديدة تغييره، والذى يستند إلى قاعدة عشائرية، والاتجاه عوضا عن ذلك نحو تطبيق الاقتراع العام المباشر بما يسمح بتمثيل سياسى أكثر شمولا وتعزيز المساءلة. إلا أن اتفقت الصومال فى الأخير على العودة إلى نموذج مقديشيو المعدل للانتخابات الذى يعطى فرصا كثيرة للرشوة والمحسوبية. كما أن هذا النظام يعزز هوية العشيرة، وهو ما يفضى إلى انقسام أساسى وإشكالى فى الحياة السياسية والاجتماعية فى الصومال.
الأزمة الثانية، هى التوتر بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الأقاليم، وخاصة إقليم جوبالاند. لقد تدهورت العلاقات بسبب الخلاف السياسى حول تقاسم السلطة. فبينما تريد الأقاليم مزيدا من الحكم الذاتى، تريد الحكومة المركزية تعزيز سلطة المركز على حساب الأقاليم. الحكومة الصومالية الحالية برئاسة محمد عبدالله فرماغو، التى تدعمها إثيوبيا، تريد إعادة مركزية السلطة. ولكن فى ظل التشابكات الإقليمية المعقدة وظروف الداخل الإثيوبى المضطرب من الممكن أن تتخلى إثيوبيا وإريتريا عن دعم الرئيس فرماغو، وهذا من شأنه أن يعزز الديناميات الانقسامية فى الصومال. قد تتفاعل هذه الديناميات حتى لو لم يتم إعادة انتخابه رئيسا للصومال فى فبراير 2021 حسب ما ذكرت الدراسة وقتها.
حرب أهلية
ولفتت إلى أنه يمكن للصومال أن ينزلق بسهولة إلى حرب أهلية معقدة تشمل حركة الشباب والعشائر والأقاليم الفيدرالية، وهو الأمر الذى يتطلب من المجتمع الدولى والجهات المانحة مراجعة الحسابات الخاصة بمستقبل الصومال مرة أخرى.
وتابعت الدراسة، إن المشكلات الداخلية تتزامن مع وجود تحديات كبرى مرتبطة باستقرار الداخل الإثيوبى، والتى تساعد قواتها العسكرية فى محاربة حركة الشباب وبناء قدرات قوات الأمن الصومالية. وعلى الرغم من عدم وجود تأكيد رسمى من إثيوبيا، إلا أن التقارير تقول إنها سحبت نحو ثلاثة آلاف من جنودها من غير قوات الاتحاد الإفريقى. جاء ذلك بعد اندلاع الحرب فى تيغراى، وقد أثار ذلك مخاوف من إمكانية حدوث فراغ أمنى محتمل فى بعض مناطق الصومال. وعلى الصعيد السياسى تحاول إثيوبيا إعادة تشكيل تحالفات القرن الإفريقى عن طريق خلق محور جديد مع كل من إريتريا والصومال، وأعلنت الدول الثلاثة تشكيل كتلة إقليمية جديدة تعرف باسم مجلس “تعاون القرن الإفريقى”.
التحالف الثلاثى
من المرجح أن يؤثر التحالف الثلاثى الجديد فى القرن الإفريقى على الشركاء الإقليميين الآخرين الذين يواجهون خسائر محتملة من حيث التأثير الاستراتيجى فى المنطقة. وعلى سبيل المثال، يمكن أن تؤدى روابط النقل الإثيوبى عبر إريتريا أو الصومال إلى تقويض موقف جيبوتى كمركز اقتصادى ولوجيستى. كما أن التعاون الوثيق بين الجيران الثلاثة يمكن أن يؤدى كذلك إلى تقليص النفوذ الكينى فى المنطقة. وبالفعل تدهورت العلاقات الدبلوماسية بين الصومال وكينيا منذ عام 2019 بسبب نزاع إقليمى بحرى. ومن المرجح أن تؤثر التداعيات الدبلوماسية سلبا على بعثة الاتحاد الإفريقى فى الصومال، خاصة إذا سحبت كينيا قواتها، وفى الوقت نفسه قام رئيس جمهورية صوماليلاند موسى عبدى بزيارة دبلوماسية إلى كينيا وطالب بالاعتراف الدولى بصوماليلاند كدولة مستقلة، وبالفعل أعلنت كينيا عن فتح قنصلية لها فى هرجيسا وإرسال رحلات مباشرة للخطوط الجوية الكينية إليها.. وهو ما يعكس شدة الانقسام بين كينيا والصومال، والذى يؤثر بدوره على أمن واستقرار الصومال.
الدور التركى
وأشارت الدراسة أيضا إلى أهمية تركيا كلاعب فى الإقليم، حيث قامت أنقرة على نحو متزايد بإحياء التقاليد العثمانية التوسعية إما بالتدخل العسكرى أو نشر قوات كما حدث فى الصومال وقطر وليبيا والعراق وسوريا والبلقان.. وأصبحت إفريقيا ركيزة مهمة فى السياسة العسكرية التوسعية التى تنتهجها تركيا. ولعل ما يلفت الانتباه أن شعار الكتيبة التركية المتمركزة فى مقديشو بالصومال هو “النسر الإفريقى”، وهو ما يحمل دلالات رمزية حول القوة السياسية والعسكرية التركية فى مناطق الأطراف النائية. قامت تركيا بالفعل ببناء وجود عسكرى دائم فى كل من الصومال وليبيا، ومن المحتمل قريبا فى النيجر كذلك، لكن الوضع فى الصومال يبدو مختلفا؛ حيث استخدمت أنقرة استراتيجية عسكرية خارجية لا مثيل لها فى أى مكان آخر فى القارة، وقامت فى عام 2017 ببناء أكبر قاعدة عسكرية لها فى الخارج فى الصومال، والأهم من ذلك، أنها تخرج جيلا جديدا من المتدربين، وتبنى هوية عسكرية اجتماعية جديدة تهدف إلى تشكيل مستقبل الصومال.
من غير المرجح حسب الدراسة، أن تقوم تركيا بتقليص طموحاتها فى إفريقيا، ولا سيما الصومال، تشير كتابات الأكاديميات العسكرية التركية إلى أن تركيا تعتبر القرن الإفريقى، وخاصة الصومال، مركزا جيوسياسيا رئيسيا عبر محور الخليج العربى وقارة إفريقيا، مع وجود موارد طبيعية هائلة ونقاط ارتكاز استراتيجية، مثل باب المندب، على طول البحر الأحمر وخليج عدن، ولعل ذلك يمثل الدافع الأساسى لسياسة تركيا العسكرية فى الصومال، والتى تشمل أيضا الاستثمار فى البنية التحتية الوطنية الحيوية.
على سبيل المثال فى الوقت الحاضر تدير الشركات التركية مطار مقديشو الدولى وميناء مقديشو، يعنى ذلك أن سياسة تركيا فى الصومال لا تقتصر على إقامة قواعد عسكرية فحسب، بل تتعلق ببناء حليف طبيعى فى بلد بالغ الأهمية فى منطقة القرن الإفريقى. ومن المحتمل أن يكون توقيع اتفاقية “تدريب وتعاون عسكرى” مع النيجر فى يوليو 2020 يستهدف ربط حزام النفوذ التركى من شرق المتوسط وحتى سواحل البحر الأحمر عبر الصحراء الإفريقية.
النيجر والوجود الفرنسي
بيد أن النيجر سوف تشكل معضلة كبرى بسبب الوجود الفرنسى الذى يهيمن على أجندة النيجر الدفاعية، بالإضافة إلى الأسلحة الصينية والروسية التى تشكل جزءا مهما من ترسانة النيجر العسكرية.
العمق المصري
تعتبر سواحل القرن الأفريقي، ممرا مهما للسفن التجارية العملاقة المتنقلة بين قارات العالم وخصوصا بعد شق قناة السويس في 17 نوفمبر سنة 1879 واكتشاف البترول في الخليج والجزيرة العربية وبدأ تدفق النفط عبر الناقلات العملاقة من الخليج العربي إلى أوروبا والولايات المتحدة، الأمر الذي ساهم في توجيه أنظار الدول الأوروبية إلى أهمية الموقع الإستراتيجي الذي تتمتع به منطقة القرن الأفريقي، وأن يصبح البحر الأحمر وبكل مميزاته وخصائصه الجيوبوليتيكية آخر محاور الصراع الدولي وملتقى أهم نقاط الحكم الإستراتيجي باعتباره حامل البترول ومعبر التجارة الأساسية ومجال تدفق القوى العسكرية ما بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود والمحيط الأطلنطي وبين المحيط الهادي والهندي.
ولهذه المميزات الإستراتيجية ارتبط القرن الأفريقي بالبحر الأحمر جنوبا، مثلما ارتبط قناة السويس شمالا ارتباطا عضويا ومصيريا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا، فإن كلا منهما له مميزاته الحاكمة وخصائصه المميزة المحددة حتى أصبح محط أنظار المخططين السياسين والعسكرين وموضع اهتمام واضعي القرار السياسي، ومحور صراعات معقدة بين القوى الدولية المتصارعة وكذلك القوى المحلية والإقليمية المتنافسة وتحمل أهمية استراتيجية للعمق المصري فى القارة السمراء.