مصر على خط النار.. مرساة للسلام في زمن الحرب؟

بينما تشتعل المنطقة من جديد بصدام غير مسبوق بين إسرائيل وإيران، وتغلي العواصم الإقليمية خوفًا من تدحرج الأزمة إلى مواجهة شاملة، تقف القاهرة على مفترق طرق: هل تكتفي بالمراقبة؟ أم تتحرك لتثبيت موقعها كـ”ضامن للاستقرار” ووسيط عاقل في زمن الانفجار؟

ما يجري اليوم ليس مجرد تصعيد عسكري، بل إعادة تشكّل لخريطة التوازنات في الشرق الأوسط. ومن ينجح في إدارة هذه اللحظة، يُعاد تعريفه إقليميًا ودوليًا لسنوات قادمة.

مصر ليست “خارج المعادلة”… بل هي في قلبها
هناك من يرى أن مصر بعيدة جغرافيًا عن مسرح العمليات، وبالتالي ليست طرفًا فاعلًا. لكن هذه نظرة قاصرة تمامًا. فموقع مصر الاستراتيجي، ومصالحها الحيوية، يجعلها في قلب أي تصعيد إقليمي:

قناة السويس، الممر الاستراتيجي للتجارة العالمية، بات مهددًا اليوم في ظل احتمال توسيع رقعة الاشتباك لتشمل البحر الأحمر أو استهداف سفن تجارية. أي اضطراب هنا يعني ارتفاعًا هائلاً في تكاليف الشحن عالميًا، وضربة مباشرة للاقتصاد المصري الذي يعتمد بشكل كبير على إيرادات القناة.
الأمن القومي العربي على المحك، بعد أن تحولت الضربات الإسرائيلية إلى الداخل الإيراني، واستجابت طهران بصواريخ ومسيّرات تخطّت حدود المعقول، مما يهدد الاستقرار الإقليمي برمته.

الوضع الداخلي المصري قد يتأثر بشدة بارتفاع أسعار الطاقة، اضطراب سوق العملات، وتدفقات لجوء محتملة، مما يفرض أعباء اقتصادية واجتماعية ضخمة على بلد يعاني بالفعل من ضغوط اقتصادية. أي تراجع في السياحة أو استهداف الملاحة سيزيد الضغط على الجنيه ويزعزع الاستقرار الاقتصادي الهش.
والأهم، أن غياب دور مصري فاعل في إدارة الصراع قد يفرّغ مكانها على طاولة التفاوض لقوى أخرى أقل قربًا، لكن أكثر جرأة، مما يقلص من نفوذها ومكانتها الدبلوماسية.

سياق بالغ الخطورة: تصعيد عسكري مفتوح ومأزق دبلوماسي
في الأيام الأخيرة، قصفت إسرائيل منشآت نووية وعسكرية في أصفهان وطهران ورشت، في أكبر تصعيد مباشر منذ نشأة الجمهورية الإسلامية. وردت إيران بهجمات صاروخية ومسيّرات على مدن إسرائيلية، أسفرت عن إصابات واضطراب جوي وبحري.

في المقابل، أعلنت واشنطن عن تحريك قاذفات B‑2 إلى جزيرة غوام، وأرسلت إشارات واضحة لإيران بأن التدخل العسكري الأميركي “قيد الدرس”، بينما فشلت محادثات جنيف بين إيران والدول الأوروبية في تحقيق أي اختراق، مما يعكس مأزقًا دبلوماسيًا دوليًا عميقًا. كل ذلك يجعل اللحظة الراهنة فارقة وخطيرة، ويفتح الباب أمام مصر لتأكيد دورها كفاعل مستقل، لا مجرد مراقب متحفظ.

إذن، الحياد السلبي لم يعد كافيًا…
بل يجب أن يكون “حيادًا فاعلًا وقويًا” يعيد تثبيت مصر كمفتاح لحل الأزمات لا متلقٍ لنتائجها. الحياد القوي يعني أن مصر لا تنحاز عسكريًا لأي طرف، لكنها تتحرك بجرأة دبلوماسية، وتُؤمّن حدودها، وتملأ الفراغ الذي خلفه تعثر الأوروبيين وتردد واشنطن، وتبعات الاستقطاب الدولي الذي يشل أحيانًا قدرة القوى الكبرى على التحرك بفاعلية.

دروس من التاريخ: متى لعبت مصر دور “الضامن”؟
لم تكن هذه أول مرة تجد فيها مصر نفسها في قلب الإعصار:

في أزمة الخليج 1990: دعمت الشرعية الدولية لتحرير الكويت، وساهمت بقواتها، وحافظت على استقرار جبهتها الداخلية.
في النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي: لعبت دور الوسيط المقبول في وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس (2014 و2021)، محققة نجاحات في الأوقات التي فشلت فيها أطراف أخرى.
في أزمة البحر الأحمر 2023: أدارت القاهرة التصعيد بهدوء، ومنعت الانزلاق إلى مواجهة تهدد الملاحة الدولية، بالرغم من الضغوط الإقليمية والدولية.
اليوم، ومع تعاظم خطر الانزلاق لحرب إقليمية مفتوحة، تملك مصر ما لا تملكه قوى كثيرة: الشرعية العربية، والعلاقة المتوازنة مع الطرفين (التي تتطلب جهدًا مستمرًا مع الجانب الإيراني)، والخبرة التاريخية في إدارة الأزمات المعقدة.

ما المطلوب اليوم؟ استراتيجية بثلاثة محاور رئيسية
أولًا: التحرك الدبلوماسي الاستباقي
يتوجب على مصر أن تضطلع بدور ريادي فورًا:

إطلاق مبادرة عربية–دولية عاجلة لوقف التصعيد، بتنسيق مع قوى عالمية ذات ثقل مثل الصين وفرنسا، والتي لديها مصالح حيوية في منع حرب شاملة تهدد التجارة العالمية وأسواق الطاقة.
الدعوة لاجتماع طارئ للجامعة العربية، ليس فقط لإصدار بيان، بل لتشكيل لجنة وساطة تضم مصر وقطر والسعودية والعراق والإمارات. الهدف هو تقديم صوت عربي موحد يفرض نفسه على الساحة الدولية، متجاوزًا الانقسامات التي عادة ما تشل فعالية الجامعة.

فتح قنوات اتصال خلفية مع تل أبيب وطهران لتقليل مخاطر سوء الفهم وسوء التقدير، مع الاستفادة من وجود أجهزة مصرية تتمتع بقدر من الثقة مع الجانب الإسرائيلي. وبناء هذه الثقة مع الجانب الإيراني يتطلب دبلوماسية دقيقة وصبرًا، ولكنها ضرورية لتأكيد دور الوسيط.

تفعيل دور مصر في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لطلب وقف إطلاق نار مشروط، أو على الأقل فرض “هدنة إنسانية تفاوضية” عاجلة لتجنب كارثة أوسع. وقد تجلى هذا الدور مؤخرًا في الجمعية العمومية لمجلس الأمن، حيث ألقى ممثل مصر خطابًا قويًا ينتقد الموقف الأمريكي لعدم اتخاذه خطوات حاسمة لوقف التصعيد، مشددًا على ضرورة اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته كاملة لإنهاء هذا التصعيد الخطير. هذا الموقف يعكس إصرار مصر على الضغط باتجاه حلول عملية، حتى لو تطلب الأمر توجيه انتقادات علنية للقوى الكبرى.

ثانيًا: التحصين السيادي الذكي
في ظل هذه الأجواء المتوترة، يجب على مصر أن تعزز قدراتها الدفاعية دون استفزاز:

تشديد الرقابة على الأجواء والمياه الإقليمية المصرية، خاصة في البحر الأحمر وسيناء، لضمان عدم استغلال أي طرف للمجال الجوي أو البحري المصري لأي هجمات.
رفع درجة الجاهزية الدفاعية، مع إبقاء حالة الردع لمنع أي طرف من محاولة التسلل أو استغلال الوضع الإقليمي.
إعلان موقف مصري رسمي وواضح بعدم السماح باستخدام أراضيها أو مجالها الجوي من قبل أي طرف في النزاع، مع توثيقه دوليًا ليكون بمثابة خط أحمر لا يمكن تجاوزه.

ثالثًا: إدارة الرأي العام الداخلي بذكاء
دور مصر القيادي يتطلب دعمًا داخليًا وتوعية مستمرة:

توعية المصريين بأن الحياد لا يعني التخاذل، بل هو حماية لمصالح مصر العليا في ظل وضع لا يربح فيه أحد. هذا يتطلب شرحًا واضحًا وموضوعيًا لتعقيدات المشهد الإقليمي.
دعم الإعلام بخطاب وطني مسؤول يشرح التعقيدات، ويُبرز ما تقوم به مصر من أجل منع تحول الأزمة إلى كارثة إقليمية، بعيدًا عن أي خطاب شعبي أو تحريضي.
تجنب الخطاب الشعبوي أو الانفعالي، والتمسك بلغة العقل والمسؤولية القومية التي تركز على حماية الوطن ومصالحه الاستراتيجية والاقتصادية.

القاهرة لا تراقب… القاهرة تقود
في ظل تعثر أوروبا وتردد واشنطن، وغياب الثقة بين أطراف النزاع، تملك مصر فرصة تاريخية لإعادة تأكيد مكانتها كـ”دولة قائدة” لا “دولة ساحة”. الفشل في استغلال اللحظة سيُفقد مصر كثيرًا:

قد تصبح مجرد “ممر” في حرب أكبر لا تخدم مصالحها.
قد تتقلص مكانتها التفاوضية والدبلوماسية بشكل كبير على الساحة الإقليمية والدولية.
وقد تتلقى ضربات اقتصادية قاسية، مع تراجع السياحة، وخطر استهداف الملاحة، والضغط الهائل على الجنيه المصري الذي يواجه بالفعل تحديات كبيرة.
لكن الفرصة لا تزال قائمة. في لعبة النار هذه، لا يفوز من يملك أقوى الصواريخ فقط، بل من يملك أذكى المبادرات وأسرعها، ومن يستطيع أن يبني جسورًا في زمن تنهار فيه كل الجسور.

وحتى الآن، لا تزال القاهرة قادرة على أن تكون هذه القوة العاقلة، لتثبت أنها مرساة للسلام في بحر متلاطم من الصراعات. هل ستغتنم القيادة المصرية هذه الفرصة التاريخية لتأكيد دورها المحوري؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!