أماني فؤاد: رغم التحجر

كلما نظرتُ إلى الطريق أمامي، وجدته ينتهي بجبل صخري مرتفع، يقف راسخا في مواجهتي، تبحث عيناي عن أي درب جانبي فلا أعثر، لا انفراجة في المدى، ولا وسيلة للرجوع، كأنه لا مفر من الارتطام بجسده. للنهاية غواية تغري بالاستسلام، رفعت يدي عن عجلة القيادة تماما، فصرت أندفع نحو المسافة التي تخف فيها أحمال الذاكرة وتعلو بأجنحتها.

منذ شهور تمنيت أن أتحول تدريجيا للطبيعة نفسها التي أنقب فيها في صحراء “وادي الريان”. قاومتُ حنيني إليكَ كثيرا، أصمد شهرا أو أكثر ثم أعاود الكتابة إليك أو الاتصال بك، عَصيٌّ هو الصمود أمام وطأة هذه القطيعة غير المبررة، وكم هو خانق الشواء الذي يحترق كل آن.

ذكرتني التجهيزات التي تقام بموقع عملي منذ أمس لاستقبال البعثة الجيولوجية المجرية، بوقائع البعثة التي تشاركناها منذ سنوات، شَعرتُ كم كانت بدايتنا أخاذة، شديدة التدفق، لم تقف أمامها أية عقبات. في حفل الختام اخترتَ أن نذهب متأخرين لبعض الوقت، كملكة توجتها بيديك اصطحبتني، وبمجرد وصولنا ألتف حولنا الحضور مرحبين بعد العرض الذي قدمناه صباحا معا. دعاني المنظمون للحديث مرة أخرى دون سابق إخطار، فأعطتني عيناك إشارة تشجيع رغم تهيؤي أنني سأُحلق بين عينيك والموسيقى فقط.

لم أكرر ما قلته في الصباح، فضلت الحديث عن استمرار البحث حول التحولات التي لحقت بالكائنات المائية، السمات الخاصة لما وجدناه من حيتان مطمورة منذ أربعين مليون سنة، أشرتُ لعظام الأرجل القصيرة التي وجدناها في الهياكل المتحجرة، وما أحدثته هذه الأرجل من التباس، حتى إن العلماء ظنوا في البداية أنها لديناصورات منقرضة. تحدثت عن كواليس اكتشافي للهيكل الحادي عشر، وكيف تعاملت أنا والفريق المساعد مع إزاحة كل الطبقات التي طمرت الهيكل دون شرخه، أشرت للوضعية المقوسة التي وجدنا عليها الهيكل، طوله الذي وصل لثمانية عشر مترا، وقراءات العلماء المفترضة لكيفية نهاية حياة تلك الكائنات في منطقة شمال أفريقيا حيث كانت محيطا مترامي الأطراف على الأرجح.

نظرت إليك طويلا كلما واتتني الفرصة رغم الضوء الشحيح، فمنك أستمد الثقة، كانت عيناي أيضا تعتاد وجهك وأنت حبيبي، تقيَّم فيك أشياءً كثيرة حيث كان لقاؤنا هذا هو الثاني بيننا، لكنه الأول الذي نظرت لك فيه بوصفك رجلي، راقبتك من مكاني البعيد فشعرت بجلستك المفعمة بالثقة التي أهواها، كنت تنظر نحوي شغوفا بما أطرح، تعقد ذراعيك فوق صدرك منتشيا وكأنك تتذوق انتصار إرادتك وقدومي إليك ثانية، تتلذذ بما ينمو بيننا وتزداد أبعاد مشتركاته. في تلك اللحظة شعرت أنني قبلك كنت حفرية قد طُمرت، وأن عيونك هي التي أعادت بعثي، حواراتنا معا سربت الحياة نقطة تلو أخرى إلى أوردتي وشراييني.

جلستك الواثقة تلك، ونشرك لأبحاثي في الوسط الأكاديمي قبل حضوري، والأريحية التي ترسلها عيونك إليّ، دفعني كل هذا للاسترسال بتلقائية. شعرت بعقلي يخاطبك، وشفتي تخصك وحدك بطموحاتي في اكتشاف المزيد من الأسرار في 1400 موقع، تمنيت أن نتشارك رحلة البحث، وألمحت لك بهذا.

في الطريق للحفل عرَّجت على بيت عائلتك القديم ومدرستك الابتدائية، فشعرت أن سنوات طويلة قد مرت من عمري بلا انغماس بحلو رحيقك، حركتُ ظلالَك من خلف النوافذ في البيوت التاريخية، وصعدت مخيلتي إلى غرفة صباك لأراك عبر ما مضى من سنوات، ربما في هذه اللحظة شعرت أن أزمنة سحيقة قد جمعتنا، ربما افترقت ذراتنا فقط ولذا عندما التقيتك شعرت بلحظة كشف أدركت فيها أنني لا أريد أن أُبصر الحياة دونك، وأن العالم لم يعد كما كان من قبلك.

دربني البحث في الصحراء التقاط المشهد مكتملا، مسحت عيناي الحضور جميعهم فلم أجد من يضاهيك ثباتا وجاذبية، قدرة على استيعاب المواقف وتحريكها على النحو الذي يريد، توزيع الاهتمام على الحضور بلسان ذكي، حلو الحديث، كما لمست حدبك عليّ ودفئك معي. تذكرت أيضا المناوشات خفيفة الظل، وكلمات العشق الهامسة التي تبادلناها ونحن في القاعة صباحا. قلت:” اقتربِي دائما، وأنتِ معي لا تبتعدي أبدا، سأعترفُ بعشقك أمام هذا الحشد الذي يملأ القاعة الآن، أعرفُ أن سحركِ قد مسَّهم كما مسَّني منذ لقائنا الأول، سيلتمسون لي العذر لو اختطفتك من هذا العالم.

تذكرت كيف تبدلت نظرة بروفسير “جوزيف” الأولى لي من مجرد امرأة جميلة، أنيقة المظهر، لباحثة محترفة تحتمل مشقة البحث والتنقيب ومواجهة التحجر، أتذكر كيف ظهرت على أساريره السعادة حين أشرت إلى استنادنا على بحوثه في تحولات الجغرافيا والمناخ وأثرهما على سلم تطور الحيوانات. حكيتَ لي بعدها أنه سألك:” أين وجدت هذه المرأة؟”، لم يعلم أننا لم نبحث أحدنا عن الآخر، أو ربما بحثنا دون أن ندري، فالأقدار هي من جمعتنا منذ البداية، لكننا لم نتركها تنفلت من بين أصابعنا.

أرسلت لي دعوة اللقاء وقلت:” ربما سأنجحُ في استقدامك، وربما لن تُحقق مساعيّ النجاح، جهزي فيلمك التسجيلي وتقريرا عن كشفك، ولا تعولي كثيرا على السفرة.

كان شاغلي الأول أنتَ، طردتُ مخاوفي من أجل التعرف عليك واقعا حيا، كنت مسحورة بهذا الحب الذي يستلبني، كأن نهرا خفيا يجرفني بخفة، يجعلني أبتسم لنفسي وأحدثها هائمة في ملكوتك، استعيد كلماتك وأتذوق سحرها. جنبتُ أبحاثي جميعها إلا المشترك معك. لم أكترث في البداية بشيء سوى أنني سأراك، الرجل الذي رغبتْ رأسي ــ لأول مرة ــ أن تنام فوق كتفه وتستكين.
تبدل الحال حين تأكد السفر، لم يعد شعوري محلقا وكفى، كان إثبات حسن تقديرك للجميع هدفي.

كان لحديثك العذب معي قبل وصولي، ومساعيك رغم الحصار والقلق والتظاهرات أثر أجنحة الفراشات حين ترفرف على ملامح وجهك بلا توقع، نسمات رقيقة ملونة تُجلي الروح، قلتَ لي: “لا يعنيك أي شيء، ولا تخافي وأنتِ معي، فإقامتك وحضورك بقلبي أنا، بقلب حبيبك”.

هل تعلم أن حديثك هذا كان الدال والعلامة التي أسست لبنية علاقتنا معا، ثمنتُ رجولتك، تعقلك وإرادتك الصلبة، قدرتك على تحويل الأحلام والأمنيات إلى واقع، استعذبك قلبي ولاقى فيك هواه، راق لي معجمك، فكان لمفرداتك وقع السحر على نفسي، شعرت باحتضانك لي حتى وأنت لم تمسسني.

هل أصابتنا لعنة ما نشتغل به فتحجر ما بيننا!! أمن المعقول أن يتيبس فيك كل هذا العشق ويتم طمره لأمور عارضة مثل أن يأتي أحد الحضور بفعل يخرج عما ترتضيه رغم عاديته، أو عدم التفات البعض له من الأساس!؟ لم تتوقع أن يقبّل جوزيف يديّ وهو يصافحني، وأنا أيضا لم أتوقع.

فسّرتُ لك الأمر بأنه ثقافة، ليس المقصود منها سوى الامتنان لك ولي، فتغضب، وينقلب الرضا سخطا وتتكدر الحياة. تُلمح بأن يدا لي في تحديد الكيفية التي يتعامل بها الناس معي، بالطبع يدٌ ليّ، حيث أحظى باحترام الجميع، وأملك القدرة أيضا على وضع المسافات التي لا تجعل الآخر يستولد أوهاما، لكنك تفتعل ما يستنبت خلافات.

صارت المعادلة دوما بيننا وجوب تحولي لحفرية توضع في محمية أنت وحدك من يتعامل معها، تصحرت مشاعرك جراء هجير هواجسك، وتباعدتَ حتى تحللت الحياة وانسلت منها الروح.

تنتهي عادة الحكايات حين تتصاعد التراجيديا لتصل لذروة، وحتى هذه اللحظة لا أعرف لماذا مارست قتلي كل لحظة دون ذنب حتى صارت جاذبية الارتطام بالحجر خلاصا لروح معلقة في طرف عباءة موت حجرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار