دكتور محمد حسن خليل يكتب :مجلس الشيوخ فى مصر ردة عن الدستور
بعد حوالى سبع سنوات على إقرار دستور يناير 2014، وبعد إقرار مجلس النواب لقانون إنشاء مجلس الشيوخ حددت الحكومة موعدا للترشيح من 11 يوليو، وموعدا للانتخابات يومى ٨ و ٩ اغسطس فى جدول سريع لتشكيل وترشيح القوائم والترشيح الفردى.
أول ما يلفت النظر هو أنه أثناء مناقشات لجنة الخمسين لإقرار الدستور عام 2013 استماتت الحكومة فى محاولة إقرار برلمان بمجلسين، شيوخ ونواب، واستماتت كتلة وطنية من اللجنة للدفاع عن مبدأ مجلس واحد باعتباره إقرارا للديمقراطية. وجود المجلسين مبرر فى الدول الفيدرالية والدول ذات تعدد الأعراق والقوميات صيانة لمصالح الأقلية. كما أن وجود مجلسين فى دول أخرى مثل تجربة مصر بعد ثورة 1919 انتقاص للديمقراطية حيث يشترط للترشح للمجلس الأعلى (الشيوخ) اشتراط حجم معين للملكية أو للثروة الخ. وكانت هذه الشروط هى الأساس التاريخى لنشأة نظام المجلسين فى المملكة المتحدة (مجلس اللوردات مقابل مجلس العموم).
تمكنت المجموعة الديمقراطية فى لجنة وضع الدستور، وبسبب التوازن الاجتماعى وقتها الذى تمثل بدور القوى الشعبية فى ثورة 30 يونيو، وكذلك احتياج السلطة للشعب فى فترة معركتها الحادة مع الإخوان، تمكنوا من إقرار دستور المجلس الواحد كنظام أكثر إخلاصا للديمقراطية وتمثيلا لعموم الشعب. والدساتير توضع لتحترم لا لتتغير فى المدى القصير، وأقسم عليها كل المسئولين حتى رئيس الجمهورية، وكذلك كل مجلس النواب. وقد مثل دستور 2014 بحكم تلك الظروف أفضل دستور فى تاريخ مصر رغم نواقصه.
وتمثلت مزاياه فى إقراره الحقوق الديمقراطية الأساسية مثل حق الاجتماع والتظاهر والإضراب وتكوين النقابات والأحزاب والعمل الأهلى. ومن الناحية الأخرى اعترف الدستور بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب المصرى، فتحدث عن حق العمل والأجر العادل والتنمية وتقريب الفوارق بين الطبقات، كما حدد لأول مرة عند حديثه عن التعليم والصحة والبحث العلمى عن حد أدنى للإنفاق عليها كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى (3% كحد أدنى للإنفاق على الصحة، 4% للإنفاق على التعليم قبل الجامعى، 2% للتعليم الجامعى، 1% للبحث العلمى، وكلها تزيد تدريجيا حتى تصل إلى النسب العالمية، المعروف أنها لا تقل عن ضعف نسبة الحد الأدنى التى أقرها الدستور. ومثل هذا انحيازا لموقف معارضى نظام مبارك أثناء حكمه حينما قالوا بأن أزمة خدمات التعليم والصحة هى أزمات انخفاض التمويل بينما كانت تدافع الحكومات السابقة عن أنها أزمة نظام إدارة فقط، فضلا عن حل الحكومة بالخصخصة تحت ستار الإدارة الرشيدة.
لم يرق تمرير مثل كل تلك القيم فى الدستور لممثلى النظام القديم، فبمجرد استعادة النظام لشرعيته ونجاحه فى عمل الدستور وانتخابات الرئاسة والبرلما، وكذلك نجاحه فى التغلب على الإرهاب وتحجيمه بشدة خلال عام أو أكثر قليلا، عاد إحياء كل قيم النظام القديم وأسلوبه فى الحكم مع محاولات الارتداد عن الدستور بدءا بالادعاء أن الدستور غير مقدس إلى حد السخرية من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المضمونة دستوريا بالادعاء أن واضعى الدستور “حسنى النية”! ومن هنا كان الارتداد على الدستور بإقرار وجود مجلس شيوخ.
وتشكيل مجلس الشيوخ فى القانون المصرى يفضح هذا المنطق السلطوى، حيث المجلس المفترض أن يكون شعبيا ثلثة معين (مائة عضو من أصل 300). كما أن نظام القوائم المطلقة وليس النسبية يُضَيِّع أصوات ما قد يصل إلى 49% من الشعب بإعطاء القائمة الناجحة 100% من المقاعد، فتضمن الأغلبية الحكومية مائة عضو آخرين إلى صفها، مع ترك مائة مقعد للانتخابات الفردية فى دوائر واسعة (27 دائرة على مستوى الجمهورية) متاحة للمرشحين الفرديين الأغنى والأكثر نفوذا والأكثر قدرة على الإنفاق على الحملات الانتخابية الواسعة. أما الأحزاب الممنوعة من الدعم الحكومى ومن الوصول لوسائل الإعلام، وأحزاب الفقراء فلا مكان ولا عزاء لهم!
بالإضافة إلى هذا فإن قصر فترة الترشح والدعاية لا يتيح الكثير من الضمانات للقدرة على توصيل الرأى للجمهور ولأن تصبح الانتخابات حوارا جادا للبرامج المختلفة للأحزاب، وتسود انتخابات العائلات والعصبيات والأموال. كما تأتى تلك الانتخابات فى إطار التقييد الشديد على العمل العام، وحبس الكثير من المعارضين السلميين لمجرد رأيهم، ومد الحبس الاحتياطى حتى 24 شهرا بدون توجيه تهم لكى يتحول إلى عقوبة قاسية فى حد ذاتها، بما يخل من الضمانات الديمقراطية.
واكتملت الصورة عندما تم الإعلان عن ما سمى “القائمة الوطنية الموحدة من أجل مصر” التى تعيد إحياء لتقاليد الحزب الوطنى (والحزب الوطنى والقائمة الوطنية يشتركان فى سرقة أسماء الشعارات الوطنية فى مواجهة النظام وينسبونها إلى النظام نفسه!). تلك القائمة، المائة المبشرة بالمجلس أو الضامنة للنجاح فى المجلس، تقوم على شراء أحزاب بكاملها كان بعضها معارضا فتم شراء معارضتهم ببعض المقاعد! فتشتمل القائمة على 40 مقعدا لحزب مستقبل وطن، و25 مقعدا للحزب الجمهورى، و10 للوفد، والفتات لثمانية أحزاب تشمل أحزابا كانت معارضة فى فترة ما من تاريخ حياتها!
وبهذا فقد مجلس الشيوخ المعتزم كلا من الشرعية الشكلية والدستورية واللياقة الانتخابية مما يدفع وسيدفع بالكثير من القوى السياسية إلى مقاطعته، كما ستدعم سلبية قطاعات كبيرة من الجمهور بعدم التصويت لمضاعفة إحساسها بالاستبعاد عن المشاركة السياسية الحقيقية.
إن صنع المستقبل رهن باستعادة الجماهير لحرياتها فى التعبير من أجل كسب حقها فى التنظيم، ومن حقها فى خوض انتخابات ديمقراطية لضمان رفع ممثليها للمشاركة الحقيقية فى الحياه السياسية.