محمد الجوهري يكتب| مستقبل الإنسانية بين الذكاء الاصطناعي والتطور البشري

يشهد العالم اليوم ثورة تكنولوجية غير مسبوقة تتمثل في صعود الذكاء الاصطناعي (AI) وانتشاره في مختلف مجالات الحياة البشرية. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد فكرة من الخيال العلمي، بل أصبح واقعًا ملموسًا يؤثر في طريقة عملنا وتواصلنا واتخاذنا للقرارات. دخلت أنظمة الذكاء الاصطناعي في تفاصيل حياتنا اليومية، من المساعدات الصوتية في الهواتف الذكية، مرورًا بخوارزميات توصية المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي، ووصولًا إلى تطبيقات طبية وتشخيصية متقدمة.

هذا التطور السريع أثار تساؤلات جوهرية حول مستقبل البشرية؛ كيف ستتغير حياتنا وقدراتنا مع استمرار تطور الآلات الذكية؟ وهل سيكون الذكاء الاصطناعي مجرد أداة جديدة تعزز التطور البشري، أم أنه سيغيّر موقع الإنسان ودوره تغييرًا جذريًا؟

لا شك أن العلاقة بين الإنسان والآلة آخذة في التحول؛ فقد أصبحت التقنيات الذكية شريكًا في الإنجازات العلمية والصناعية، وأصبحنا نعتمد عليها في حل مشاكل معقدة بسرعة ودقة تفوق القدرات البشرية التقليدية. في المقابل، يثير هذا الاعتماد المتزايد مخاوف بشأن مكانة الذكاء البشري في المستقبل، وحول ما إذا كان بإمكان الآلات، في يوم من الأيام، مجاراة العقل البشري أو حتى التفوق عليه.

من هذا المنطلق، لديّ نظرة شاملة إلى مستقبل الإنسانية في ظل تنامي قدرات الذكاء الاصطناعي. سنستعرض التطور التاريخي لهذه التقنية منذ بداياتها، ثم نحلل أوجه التشابه والاختلاف بينها وبين ذكاء البشر، ونستشرف تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما سنناقش التحديات والمخاطر الأخلاقية والقانونية والأمنية المصاحبة لها، قبل أن ننتقل لاستكشاف سُبل التعاون المستقبلي بين الإنسان والآلة، بدلًا من الصراع بينهما. وأخيرًا، سننظر في بعض السيناريوهات والتوقعات المستقبلية؛ هل يقودنا هذا التطور إلى عصر ذهبي جديد يعمّه الرخاء، أم إلى مخاطر غير مسبوقة تهدد البشرية؟

إن مستقبل الإنسانية في عصر الذكاء الاصطناعي ليس موضوعًا نظريًا فحسب، بل هو قضية راهنة تستقطب اهتمام الباحثين وصنّاع القرار حول العالم. ففي أواخر عام 2022، مثلًا، أحدث نموذج المحادثة الذكي ChatGPT ضجة عالمية، وسرعان ما أصبح مصطلح “الذكاء الاصطناعي التوليدي” مألوفًا لدى الجمهور العريض. هذا المثال يوضح كيف بات تقدم الذكاء الاصطناعي يمسّ حياة الناس مباشرة، ويطرح أمامنا تحديات وأسئلة جديدة.

رحلة الذكاء الاصطناعي.. من الخيال إلى الواقع

لم يظهر الذكاء الاصطناعي بين ليلة وضحاها، بل هو ثمرة عقود من البحث والتطوير، وجذوره تمتد إلى أفكار أقدم بكثير. يمكن القول إن حلم صنع “آلة مفكرة” رافق البشر منذ القدم، حيث نجد أساطير الإغريق عن تالوس (العملاق البرونزي) وأساطير في التراث الأوروبي، التي تصوّر كائنات اصطناعية منحها البشر الحياة. لكن التحول نحو العلم بدأ في القرن العشرين، مع تطورات الحوسبة والرياضيات التي وضعت الأساس لصنع ذكاء غير بشري.

كانت انطلاقة الفكرة بشكل منهجي مع عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينغ عام 1950، حين قدم اختبار تورينغ لقياس قدرة الآلة على إظهار سلوك ذكي لا يمكن تمييزه عن سلوك الإنسان. وبعدها بسنوات قليلة، وفي صيف 1956 تحديدًا، انعقد مؤتمر دارتموث الشهير بقيادة جون مكارثي ومارفن مينسكي وآخرين، والذي شهد ولادة مصطلح “الذكاء الاصطناعي” رسميًا لوصف هذا الحقل العلمي الوليد. شكّل ذلك المؤتمر نقطة تحول تاريخية، إذ وحّد جهود الباحثين نحو هدف مشترك يتمثل في بناء آلات تحاكي الذكاء البشري.

صعود وهبوط الذكاء الاصطناعي

خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، أحرزت الأبحاث المبكرة تقدمًا مهمًا، لكنها كانت محدودة. ظهرت برامج قادرة على حل مسائل رياضية بسيطة وإثبات بعض النظريات، وجرى تطوير نماذج أولية لشبكات عصبية صناعية مستوحاة من الدماغ البشري. في عام 1965، ابتكر جوزيف وايزنبوم برنامج ELIZA، وهو أحد أوائل برامج المحادثة التي تحاكي الحوار البشري بطريقة بدائية، مما أتاح لمحة مبكرة عن إمكانية تواصل الإنسان مع آلة بلغة طبيعية. كما برزت أنظمة “الخبير”، مثل برنامج DENDRAL في أواخر الستينيات، الذي استخدمه العلماء لتحليل البيانات الكيميائية، ممهدًا الطريق لما عرف لاحقًا بـ الأنظمة الخبيرة (Expert Systems).

لكن رغم هذه البدايات الواعدة، واجه الذكاء الاصطناعي عقبات كبيرة في عقد السبعينيات أدت إلى فترة من الإحباط يُطلق عليها “شتاء الذكاء الاصطناعي”. كان الحماس المفرط قد رفع سقف التوقعات إلى مستوى غير واقعي، لكن محدودية قدرة الحواسيب آنذاك، ونقص البيانات، وضخامة المشاكل المطلوبة، تجاوزت ما يمكن تحقيقه فعليًا. تقلصت التمويلات البحثية وفتر الحماس لفترة. ولم يتغير الحال إلا في الثمانينيات، عندما شهد العالم انتعاشًا جديدًا للاهتمام بالذكاء الاصطناعي مع نجاح الأنظمة الخبيرة في بعض التطبيقات التجارية والصناعية.

في عام 1997، حقق الذكاء الاصطناعي اختراقًا عالميًا عندما تمكن حاسوب Deep Blue، المطوّر من قبل IBM، من هزيمة بطل العالم في الشطرنج، غاري كاسباروف. لم تكن تلك المباراة مجرد انتصار في لعبة لوحية؛ بل اعتبرها الكثيرون مؤشرًا رمزيًا على تنامي القدرات التحليلية والاستراتيجية للآلات، وإمكانية تفوقها على البشر حتى في مجالات تتطلب التفكير المعقد.

قفزة نحو المستقبل.. عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي

غير أن القفزة النوعية الأكبر جاءت في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، بفضل تطور خوارزميات التعلم العميق (Deep Learning) والشبكات العصبية الاصطناعية المعقدة. استفاد الباحثون من توفر بيانات ضخمة على الإنترنت، ومن قوة بطاقات الرسوميات القادرة على تنفيذ حسابات متوازية هائلة.

في عام 2016، وصل الذكاء الاصطناعي إلى محطة فارقة أخرى، حين هزم برنامج AlphaGo من شركة DeepMind لاعب الـ Go العالمي، لي سيدول، بأربعة انتصارات مقابل خسارة واحدة. لعبة Go معروفة بتعقيدها الهائل، وكانت تُعتبر لعقود التحدي الأصعب للذكاء الاصطناعي.

استمر تسارع التطور، ودخلنا عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي القادر على إنتاج محتوى إبداعي – نصوصًا، وصورًا، وأصواتًا – بشكل غير مسبوق. برزت نماذج لغوية ضخمة، مثل GPT-3 ثم GPT-4، القادرة على إنتاج نصوص تبدو وكأنها مكتوبة بأنامل البشر، ونماذج تحويل النص إلى صورة، مثل DALL-E وMidjourney، التي يمكنها توليد لوحات ورسومات فنية من وصف لغوي بسيط.

مفترق طرق تاريخي

اليوم، بات واضحًا أننا على أعتاب عصر جديد يشهد انتقال الذكاء الاصطناعي من المختبرات إلى كل جوانب الحياة اليومية. لقد أصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على إنجاز ما كان يُعتقد أنه حكرٌ على العقل البشري، مما يضع البشرية أمام مفترق طرق تاريخي يتطلب فهمًا عميقًا وإعادة تقييم لدورنا ومستقبلنا.

في المقالات القادمة، سنناقش إلى أي مدى يقترب هذا الذكاء المصطنع من ذكائنا البشري؟ وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على مجتمعاتنا واقتصاداتنا وثقافاتنا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار