هل يتوقف استغلال العمل الأهلي في السياسة؟
تُعد الجمعيات الأهلية أحد أعمدة المجتمع المدني، وأداة نبيلة لخدمة المحتاجين وتنمية الوعي المجتمعي وتعزيز التكافل بين أبناء الوطن. غير أن بعض الممارسات التي شهدتها الساحة الانتخابية الأخيرة تكشف عن استغلال مقلق لهذا الدور الشريف، وتحويله في بعض الأحيان إلى أداة ضغط سياسي أو وسيلة لحشد الناخبين بطرق لا تمت للعمل الأهلي الحقيقي بصلة.
في عدد من الدوائر الانتخابية، تكررت صور الاستغلال الممنهج للمساعدات الاجتماعية التي تُقدمها بعض الجمعيات، حيث استُخدمت بيانات المستفيدين منها، وتم توجيههم نحو لجان الاقتراع على نحو منظم ومخطط. وتحوّلت «الكرتونة الغذائية» أو «الكوبون» — التي يفترض أن تكون عملًا خيريًا خالصًا — إلى وسيلة تأثير على إرادة المواطن، في مساس صريح بمبدأ حرية الاختيار الذي يقوم عليه جوهر العملية الديمقراطية.
لقد كان تدخل الرئيس عبد الفتاح السيسي حاسمًا حين وجّه بوقف هذه التصرفات في بدايتها، مؤكدًا أن الدولة لن تسمح بتسييس النشاط الأهلي أو تحويله إلى غطاء للتأثير غير المشروع في الانتخابات. هذا الموقف الرئاسي أعاد ضبط البوصلة، وأرسل رسالة قوية مفادها أن العمل الخيري مكانه خدمة المواطن لا استغلاله، وأن كرامة المواطن أغلى من أي مكاسب سياسية مؤقتة.
ورغم الجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة الداخلية وأجهزة الدولة في مواجهة هذه الظواهر، يبقى خطرها قائمًا ما دام هناك من يرى في فقر المواطن فرصة، وفي احتياجه وسيلة للوصول إلى صندوق الاقتراع. فالمال السياسي — مهما اختلفت تسمياته — يظل جريمة انتخابية تُفسد المعنى الحقيقي للمشاركة السياسية، وتشوه قيمة الصوت الانتخابي الذي يجب أن يُمنح عن وعي لا عن احتياج.
المطلوب اليوم هو تعزيز الرقابة على الجمعيات، وتفعيل القوانين التي تضمن الفصل الكامل بين النشاط الأهلي والعمل السياسي، إلى جانب رفع الوعي الشعبي ليُدرك المواطن أن صوته ليس سلعة قابلة للمقايضة، بل أمانة تحدد مستقبل وطنه. فالوطن لا يُبنى بالكرتونات، وإنما بضميرٍ حرٍ وصوتٍ نزيهٍ يختار لمصلحة مصر وحدها.
ومع ذلك، فإن دور وزارة التضامن الاجتماعي ووزارة الداخلية، لضمان المتابعة الدقيقة لأنشطة الجمعيات والتحقق من مصادر تمويلها ومسارات إنفاقها، وتبادل المعلومات بين الجهات المسؤولة لمنع أي محاولات توظيف خفي أو غير مشروع لأموال التبرعات في العمل السياسي. فالرقابة الفعالة ليست قيدًا على العمل الأهلي، بل هي حماية له من التسييس والانحراف .
ونحن على يقين بأن وزارة الداخلية تواصل جهودها في مواجهة ما يسمى بالمال السياسي، وتوثيق المخالفات الانتخابية المرتبطة بتوزيع المساعدات بغرض التأثير على إرادة الناخبين، لأن هذه الأفعال تمثل جرائم انتخابية تهدد نزاهة العملية الديمقراطية وتفقد المواطن الثقة في جدوى المشاركة.
في النهاية، حماية العمل الأهلي من التسييس ليست مسؤولية الدولة وحدها، بل مسؤولية المجتمع أيضًا. وعي المواطن هو خط الدفاع الأول ضد من يحاولون تحويل الحاجة إلى وسيلة ضغط أو مساومة. فالصوت الانتخابي ليس سلعة تباع وتشترى، بل هو تعبير عن الإرادة والكرامة، والكرامة لا تهدى في كرتونة غذائية بل تصان بقانون ورقابة وضمير.




