مصر بين طهران وتل أبيب: صوت الحكمة في زمن التصعيد

في سياق إقليمي مضطرب تتداخل فيه الأزمات منطقة، لم يكن التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران مجرد جولة جديدة من الاشتباكات، بل مؤشرًا على اختلال خطير في التوازنات الإقليمية، وانجراف خطابي نحو مواجهات لا يبدو أحد مستعدًا لتحمل تبعاتها. وفي هذا المشهد المتشابك، برز الموقف المصري كصوت عقلاني وسط ضجيج المزايدات: ثابت في رفضه للعدوان، متّزن في دبلوماسيته، ومتمسك بمبادئ سيادة الدول وحرمة الشعوب.
سياسة الحياد النشط: رؤية مصرية أصيلة
لم تكن مصر يومًا دولة هامشية في معادلات الشرق الأوسط، لكنها أيضًا لم تنزلق خلف العواطف أو الحسابات الضيقة. ما تقوم به القاهرة يُصنّف في خانة “الحياد النشط”؛ أي الوقوف على مسافة واحدة من المحاور، مع الالتزام الواضح بمبادئ السيادة ورفض التدخلات العسكرية أو الطائفية.
التصعيد بين طهران وتل أبيب، والذي تزايدت حدّته عبر ضربات متبادلة وتهديدات مباشرة، كان من الممكن أن يُستخدم ذريعة لزجّ مصر في تحالفات ظرفية أو مواجهات إعلامية. إلا أن الموقف المصري كان حاسمًا: لا للحرب، لا للاستقطاب، نعم للحلول السياسية المستدامة.
إسرائيل.. الرفض الثابت للعدوان لا يُقاس بالبيانات فقط
منذ النكبة، كانت القضية الفلسطينية في قلب السياسة المصرية، وخلال العقود الماضية، ظل الدعم المصري غير مشروط لحقوق الفلسطينيين. الاتفاقيات لم تُلزم القاهرة بالتخلي عن مبادئها، بل منحتها موقع الوسيط القوي. وعليه:
ترفض مصر بشكل دائم الاعتداءات الإسرائيلية على غزة والضفة الغربية.
تقوم بدور محوري في الوساطة بين الفصائل الفلسطينية، وتحرص على تجنب أي انقسام يزيد من معاناة الشعب الفلسطيني.
تُدير علاقتها مع تل أبيب بحسابات دقيقة تحفظ التوازن دون التفريط في الثوابت، وعلى رأسها إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
إيران.. السيادة لا تُساوم
ورغم أن العلاقات المصرية الإيرانية تشوبها الفجوات منذ 1979، إلا أن القاهرة حافظت على قناة تواصل غير مباشرة تُركّز على مبدأين: احترام السيادة، ورفض الطائفية. تدخل إيران في الشؤون العربية، من لبنان إلى اليمن، لطالما كان محل انتقاد مصري واضح، انطلاقًا من رؤية تعتبر الأمن العربي كلًا لا يتجزأ.
وفي لحظة التصعيد الراهنة، تُدرك مصر جيدًا أن أي حرب إيرانية إسرائيلية مفتوحة لن تُبقي أحدًا في مأمن، بل قد تتحول إلى نزاع إقليمي تتغذى عليه قوى كبرى ومليشيات تبحث عن الشرعية من بوابة الفوضى.
الزج بمصر في صراعات الآخرين.. محاولة مكشوفة
وسط هذا التصعيد، علت أصوات عربية تدعو إلى “الرد الجماعي” و”محور المقاومة”، لكنها—للمفارقة—تغيّبت عن القمة العربية في بغداد، التي كان يمكن أن تكون منبرًا لتفعيل هذا “الصمود” المنشود. خطاب مرتفع، وممارسة غائبة، ودعوات لا تتضمن سوى دفع مصر للواجهة دون استعداد حقيقي للمشاركة أو التحمل.
ومصر، بطبيعة الحال، لا تنساق وراء دعوات تُطلق من عواصم لا تتحمّل عبء المواجهة، ولا تُقرر سياساتها عبر منابر إعلامية أو حسابات على مواقع التواصل. قرارات الدولة السيادية تُبنى على المصلحة القومية، والاستعداد الوطني، والتقدير الاستراتيجي الشامل.
لماذا يجب دعم الموقف المصري؟
لأن مصر تمثّل صوت الحكمة في زمن استقطاب وضجيج:
تقف ضد العدوان دون الانخراط في مغامرات عسكرية غير محسوبة.
تحمي الأمن العربي بالفعل لا بالشعارات.
تؤمن بأن الكلمة الصادقة والعقلانية أبلغ من الرصاصة، حين تكون مدعومة بتاريخ من الثبات والدبلوماسية الراسخة.
لقد علمتنا التجارب العربية، من العراق إلى سوريا واليمن، أن الحروب لا تُصنع من أجل النصر، بل كثيرًا ما تُستخدم لإعادة رسم الخرائط، وتصفية الحسابات، على حساب الشعوب والسيادة. ومصر، بحكمتها، ترفض أن تكون أداة في هذه اللعبة الخطرة.
بين لغة الحرب التي يتقنها البعض، ولغة السلام العادل التي تنادي بها مصر، تقف القاهرة بثقة على ضفاف التوازن. لا تنحاز إلا للعقل، ولا تصمت حين يُنتهك حق، لكنها أيضًا لا تخوض معارك نيابة عن أحد.
إن دعم مصر في هذا الموقف ليس فقط دعمًا لسياسة متزنة، بل انحياز لحكمة باتت نادرة في زمن الاستقطاب والتصعيد.