سفير الفاتيكان في حوار خاص لـ”السلطة الرابعة” :مصر قلب السلام في الشرق الأوسط وبلد العائلة المقدسة

في الوقت الذي تهاجم أمريكا فيه فنزويلا وتحاصرها سياسيًا واقتصاديًا، بل وترسل قوات عسكرية أمريكية وقطع بحرية بالإضافة إلى غواصة نووية، وتُنشئ قواعد عسكرية في دول البحر الكاريبي استعدادًا لشن هجوم عليها بحجة اتجارها بالمخدرات، وواقع الأمر أنها بلد ليست تابعة للسياسات الأمريكية وتمتلك النفط، فصارت مواردها تثير مطامع أمريكا للاستيلاء عليها فوق أجساد أبنائها وحقهم في الحياة والحرية، ما يُشكل تهديدًا لأمن دول البحر الكاريبي بل وأمريكا اللاتينية جميعها.

في هذا الوقت الحساس والمتوتر والتاريخي الدقيق، أتى إعلان الفاتيكان؛ إعلان البابا ليو الرابع عشر بابا الفاتيكان قداسة اثنان من أبناء فنزويلا، ليكون تضامنًا كبيرًا مع الشعب الصامد في وجه الحصار وتعمّد التجويع والتهديد بغزو بلاده، وليرفع الروح المعنوية كثيرًا وتعم الفرحة والاحتفالات في أرجاء فنزويلا. وهما القديسان الدكتور خوسيه إيررناندس (المُلقب بطبيب الفقراء) والراهبة الأم كارمن مارتينيثو.

وفي هذه المناسبة المهمة والمفرحة لدى الفاتيكان والدولة والشعب الفنزويلي، وخلال الاحتفالية؛ انفرد موقع “السلطة الرابعة “وأجرى هذا الحوار الخاص مع المطران (المونسينيور) نيكولا تيفينان سفير الفاتيكان في مصر، بمناسبة الاحتفال المشترك لسفارة فنزويلا وسفارة الفاتيكان بالقاهرة.
وقد أقام المطران القداس الاحتفالي في كنيسة سفارة الفاتيكان بالقاهرة ابتهاجًا بإعلان قداسة الدكتور خوسيه والأم كارمن، وشارك فيه جمعٌ كبير من الضيوف.
والمطران (المونسنيور) هو رئيس الأساقفة نيكولا هنري تيفينان من مواليد سان ديزييه بفرنسا في الخامس من يونيو عام 1958، ورُسم كاهنًا في الرابع من يوليو عام 1989، وبعد سيامته (رسامته) الأسقفية عام 2013 أصبح يشغل منصب سفير الكرسي الرسولي في جواتيمالا من عام 2013، حتى اختاره البابا الراحل فرنسيس في 4 نوفمبر 2019 سفيرًا بابويًا في جمهورية مصر العربية ومندوبًا لدى جامعة الدولة العربية.
وتحدث لـ“ السلطة الرابعة ” عن دور مصر بالغ الأهمية لصنع السلام، وأنها بلد ضيافة العائلة المقدسة، وأنها بلد الوصايا العشر، والبلد الذي وُلدت فيه الحياة الرهبانية، وتمثل مثالًا رائعًا بين الثقافات والأديان، وأن الحوار بين الأديان متمثل في الفاتيكان مع الإسلام والأزهر، وكذلك الحوار المسكوني (الكنسي العالمي).
وحدثنا المطران عن دور مصر الأساسي والمحوري بالمنطقة والعالم، والعلاقات المصرية الفاتيكانية، والأوضاع الراهنة في المنطقة ورؤيته لمستقبل السلام ودور مصر في ضوء المتغيرات المتلاحقة الإقليمية والعالمية.
كما تحدث عن الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط، والعلاقات التاريخية والتعاون بين مصر والفاتيكان في المجالات المتعددة ومن أجل السلام الشامل والعادل.
وسلط الضوء على زيارة البابا ليو الرابع عشر لتركيا ولبنان، وتمنى قرب الزيارة إلى مصر.

وإليكم نص الحوار:
برأيك.. كيف كانت قديمًا العلاقات المصرية الفاتيكانية؟ ومتى بدأت بشكلها الدبلوماسي الحديث؟
العلاقات تاريخية قديمة، وكنا على تواصل أيضًا بين الكرسي الرسولي ومصر لقرون عديدة، ولكن أول بعثة دبلوماسية وصلت إلى مصر عام 1839، وكانت بعثة رسولية لمصر والسودان وجميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، وكانت هناك بعثة أخرى للأراضي المقدسة (فلسطين).
ثم في عام 1917 أصبحت هذه البعثة الرسولية مهمتها العمل في مصر فقط.
وفي عام 1927 انتقلنا من الإسكندرية إلى القاهرة وافتتحنا هذا المقر للسفارة في مصر.
وفي عام 1947 بدأنا العلاقات الدبلوماسية مع المملكة المصرية.
إذن تمتد العلاقات الدبلوماسية التي تربطنا إلى الآن بمصر على مدار 78 عامًا.
باعتقادك.. هل سيزور البابا ليو مصر قريبًا؟
صدقًا، فلنصلِّ أن يزور البابا مصر أيضًا، إنها بلد الوصايا العشر، وبلد ضيافة العائلة المقدسة، ولدينا أسباب كثيرة للزيارة، وهنا أيضًا بلد وُلدت فيه الحياة الرهبانية.
وبالنظر إلى ديري القديس أنطونيوس والقديس بولس (بولا) في الصحراء القريبين من البحر الأحمر، حيث وُلدت الحياة الرهبانية والدينية للكنيسة، وأعتقد أنه من المهم جدًا أن يزورهما كل من يأتي للسياحة إلى مصر… الأمر رائع. وكذلك الذهاب لزيارة الأهرامات، وأيضًا زيارة صعيد مصر وأديرته ومزاراته السياحية.
وزيارة هذه الأديرة المهمة في التاريخ، التي هي مهد الحياة الرهبانية والدينية — إنها جزء من كنزنا.١١١١١١
ماذا عمّا يحدث في الضفة الغربية وكيفية وقف العدوان عن أهلها؟
من المثير للاهتمام حقًا رؤية ما يحدث في غرب نهر الأردن (الضفة الغربية)، لأن هذا مكانٌ يضم العديد من المقدسات الإسلامية والمسيحية كالمساجد والكنائس والأديرة… وهناك أيضًا تُعدّ المجتمعات المسيحية الأكثر أهمية روحياً، مثل القدس الشرقية، بيت لحم، الناصرة، وغيرها.
لذا، فإن جميع هذه الأماكن، وخاصةً في غرب الأردن، مهمةٌ جدًا بالنسبة لنا، وعلاوةً على ذلك يجب أن يعيش الناس بسلام، ولا يمكن تقسيمهم إلى أجزاء. وأعتقد أن هذه المستوطنات غير القانونية تُشكّل مشكلةً حقيقية.
إنه هجومٌ على السلام، وهجومٌ على جميع الاتفاقيات السابقة. ولا يتم احترام أي اتفاق سابق، وإذا أردنا السلام فلا بد من العدالة. والعدالة أساسية، إذ أنها تعترف بحقوق الجميع، وفي الوقت نفسه تتيح للناس فرصة البقاء والعيش والعمل في أراضيهم وحقولهم ومدنهم بأمان.
إذا نسيتم، فأذكر أنهم لن يتمكنوا {المستوطنين} من فعل ذلك، لذا بالنسبة لنا، صياغة هذا الاستعمار للضفة الغربية للأردن – الشقيقة – أمرٌ بالغ الأهمية، لأنه لا يمكن الاستمرار على هذا النحو من القتال والصراع.
وإذا لم تكن هناك عدالة، فإن الظلم يُؤدي للعنف والانتقام دائمًا. ولا يمكننا أن نعيش في ظل الانتقام طوال الوقت، وعلينا أن
يُعد الحوار والتعاون بين مصر والكرسي الرسولي مثالًا رائعًا للحوار بين الأديان… ما مدى ما تمثله مصر من ثقل حضاري وروحي في هذا المجال؟
هذه هي مصر، ولطالما كانت مصر بلدًا مضيافًا، وعندما أفكر في مجئ العائلة المقدسة، وأفكر في العديد من الأحداث أثناء زيارتها لمصر، وكل هذا الترحيب بالعائلة المقدسة، وبالعديد من الضيوف من جنسيات مختلفة.
وحديثًا منذ عهد محمد علي باشا وخلفائه، جاء ضيوف كثيرون احتضنتهم مصر، خاصة من جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط.
ولطالما كانت مصر بلدًا للاختلاط والترحيب، وهذا أيضًا جزء من هذا التطور وهذه العلاقة الدائمة التي تربطنا بمصر، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة لنا. كما أن مصر تُمثل مثالًا رائعًا للحوار بين الأديان والثقافات.
تتمثل هذه الأهمية في الحوار بين الأديان، في حوارنا مع الإسلام وخاصة الأزهر، وكذلك الحوار المسكوني الكنسي، وكذلك العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية المتمثلة في الفاتيكان، وتمثلها الكنيسة القبطية الكاثوليكية المصرية، وهي الأهم لنا، وأيضًا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية، وهي الأهم في الحوار معها هنا بين الكنائس.
والتعاون يساهم في خلق جوًّا وقيمًا مشتركة، واحترامًا وحبًا للوطن. مصر تجمع بين كل هذا، ويشمل المصريون مسلمون ومسيحيون ومن مختلف الطوائف.
ما أعنيه أن كل هذا يجعل مصر بلدًا فريدًا من نوعه، بلد يتمتع بكل هذا التنوع. وحتى بين جميع المسيحيين والكاثوليك من بينهم، لدينا هنا في مصر سبع طوائف مختلفة تتبع الكنيسة الكاثوليكية {الكنيسة المصرية وست شعوب طوائف بمصر}.
كما ترون، إنه تقليد غني جدًا، هنا الكنيسة القبطية الكاثوليكية (مصر)، والكنيسة اللاتينية (الفاتيكان)، والكنيسة المارونية (لبنان)، والكنيسة اليونانية الكاثوليكية (اليونان)، والكنيسة السريانية الكاثوليكية (سوريا)، والكنيسة الأرمنية الكاثوليكية (أرمينيا)، والكنيسة الكلدانية (العراق).
إنه إرث غني ومتعدد الأوجه، ولهذا السبب تجدون فيه هذا الترحيب. وأعني أنني أشعر هنا بأمان بالغ، وأعتقد أنكم أبناء بلد يُمكنكم فيه تطوير أنفسكم، وشبكة علاقاتكم الدولية مهمة جدًا.
تحتفل الكنائس المشرقية والشام واليونان والأرمينية، وكذلك الكنيسة القبطية في مصر هذا العام بمناسبة مرور 1700 سنة على مَجمع نيقية… هل ستحتفلون أو ستقومون بالمشاركة في الاحتفال؟
نعم. وسبب المَجمع أنه كان يدور حول ألوهية المسيح، وإنه أمر بالغ الأهمية بالنسبة لنا، ولهذا السبب لدينا هذا القاسم المشترك.
وآريوس، كاهن {قس} مصري سكندري من القرن الرابع، قال إن السيد المسيح شخص عادي حل عليه الروح القدس، بينما تقول الكنيسة أن السيد المسيح كلمة الله اتخذ جسدًا بشريًا ليستطيع التحرك والوعظ ودعوة الناس للتوبة وتقديم رسالة الخلاص بالفداء، ولتقديم نفسه ذبيحة على الصليب تنفيذًا لعقوبة الموت الروحي بديلًا عن البشرية، والسماح بالعودة للفردوس الذي طُرد منه آدم وبنيه من بعده.
وعُقد مجمع للرد على بدعته سنة 325م، في مدينة نيقية بأسيا الصغرى – في تركيا حاليًا – وكان من قام بالرد عليه الشماس المصري السكندري أثناسيوس الملقب بـ “أثناسيوس الرسولي”، وتم دحض أقوال آريوس وحرمانه.
وفي الواقع، لم تعد الآريوسية موجودة، ولكن لدينا أحيانًا، كما أقول، العقلية الآريوسية تتلاشى.
ورغم أنه لا يزال الناس يعارضون ألوهية المسيح، إلا أنه من المهم أن نحتفل بهذه الذكرى معًا، وهي أيضًا مناسبة للبابا أن يقوم بالحج إلى نيقية، وبعد ذلك يذهب إلى لبنان.
ماهي مجالات التعاون بين مصر والفاتيكان خاصة الإهتمام بالتنمية المجتمعية ؟
لأن الكنيسة الكاثوليكية تهتم بمجال التعليم ، وله أهمية خاصة ، فأنشأنا ١٧٣ مدرسة وكلية في جميع أنحاء مصر، وكذلك بسبب الأهمية الكبيرة لوجود العديد من الصيدليات، وتلقي الرعاية في المستشفيات ، وأنها مساهمة بالغة الأهمية للرعاية الطبية المباشرة تتجاوز بكثير رعاية طائفة الكاثوليك ،و تتجاوز بكثير الرعاية الطبية للمسيحيين، وأعتقد أن ثلاثة أرباع طلابنا بالطب مسلمون.
بعد زيارة البابا ليو الرابع عشر إلى لبنان.. هل بعدها سيزور مصر؟
نأمل أن يزور مصر بعد زيارته نيقية في تركيا ولبنان هذا العام. والبابا لن يزور مصر في تلك الزيارة، وعندما التقيتُ بالبابا في يونيو الماضي، بعد شهر واحد فقط من انتخابه، قال إنه لم يزر مصر بعد. لذا، هناك في مصر أسباب كثيرة تدعو لزيارتها… وأعتقد أنه يتمنى حقًا، لأنه أخبرني: “أنني لم أزر مصر بعد” — لذا دعونا نأمل ذلك قريبًا.
وأعتقد أن الدعوات ستصل بالفعل، وأعتقد أن البابا سيُلبي الدعوة إن كان مدعوًا بالفعل، ودعا الأساقفة الكاثوليك البابا أيضًا للحضور إلى مصر.
ومصر دولة مهمة جدًا في الشرق الأوسط، وتُعدّ فيها نسبة المسيحيين الأعلى، باستثناء لبنان، الذي يُمثّل حالة خاصة. لذا، فالأمر بالغ الأهمية، وأقول ليس النسبة، بل العدد — فعدد المسيحيين في مصر هو الأعلى في المنطقة بأسرها.
لذا أعتقد أن هذه الزيارة ستُجسّد صورة وواقع مصر في المنطقة، كدولة مُسالمة، دولة تتعايش فيها مختلف الأديان بسلام.
ماذا ترون في طرق إحلال السلام بغزة والشرق الأوسط وإعادة الإعمار؟
ندعو لمساعدة مصر في إحلال السلام في الشرق الأوسط، وأنا مقتنع بأهمية دور مصر لتحقيق السلام في المنطقة.
مصر دولة مسالمة، تسعى لأن تكون في سلام مع الجميع ضمن إطار من العدل والإنصاف. هذا أمر مهم، وجميع الشعب المصري، مسلمين ومسيحيين، متحدون في إدانة ما يحدث في غزة وما يتعرض له المدنيون من مذابح.
أعتقد أن مصر هي الدولة الأكثر قدرة على التكيف في المنطقة للمساهمة في إعادة الإعمار مع الفلسطينيين المقيمين في غزة، وهذا دور مهم للغاية.
مصر ضرورية لتكون جزءًا من حل مشترك وعالمي لإحلال السلام في الشرق الأوسط، ليس فقط بسبب عدد سكانها الكبير، ولكن أيضًا بسبب تقاليدها التاريخية والدبلوماسية.
من المهم جدًا أن تكون أي تسوية سلمية ودائمة، ويجب أن تُأخذ مصر في الاعتبار كشريك أساسي، حيث بإمكانها تقديم الكثير في إعادة الإعمار، لا سيما في غزة، من خلال تقديم المساعدات في مجالات عدة.
ماذا عمّا يحدث في الضفة الغربية وكيفية وقف العدوان عن أهلها؟
من المثير للاهتمام حقًا متابعة ما يجري في الضفة الغربية، فهي منطقة تضم عددًا كبيرًا من المقدسات الإسلامية والمسيحية؛ من مساجد وكنائس وأديرة، كما تحتضن أهم المجتمعات المسيحية روحياً مثل القدس الشرقية وبيت لحم والناصرة وغيرها.
جميع هذه الأماكن، وخاصة غرب نهر الأردن، ذات أهمية كبيرة بالنسبة لنا. ومن الضروري أن يعيش أهلها بسلام دون تقسيم أو عزل، فالمستوطنات غير القانونية تمثل مشكلة حقيقية.
ما يحدث هو هجوم على السلام وعلى الاتفاقيات السابقة التي لم يُحترم أي منها، وإذا أردنا سلامًا حقيقيًا فلا بد من تحقيق العدالة. فالعدالة تعترف بحقوق الجميع، وتضمن لهم البقاء والعيش والعمل في أراضيهم وحقولهم ومدنهم بأمان.
وللتذكير، فإن المستوطنين لا يمكنهم فرض هذه السيطرة إلى ما لا نهاية. ومن وجهة نظرنا، فإن استمرار هذا الشكل من الاستعمار في الضفة الغربية – في الأردن الشقيقة – أمر شديد الخطورة، ولا يمكن استمرار القتال والصراع بهذا الشكل.
وعندما تغيب العدالة، يولَد الظلم، والظلم يؤدي دائمًا إلى العنف والانتقام. ولا يمكن أن تستمر الشعوب في دوامة الانتقام إلى الأبد. لذلك يجب أن نبدأ من العدالة، ولا يمكن للسلام أن يستقر بدونها.
من الضروري العودة إلى تطبيق القرارات الدولية وإظهار حسن النية من جميع الأطراف. وهنا يبرز الدور بالغ الأهمية الذي تلعبه مصر في تحقيق السلام.




