نجاح بولس يكتب ..أي استقرار في عدم استقرار الدستور ؟!

بقلم الباحث / نجاح بولس

الدستور هو الوثيقة الأهم والأسمى في أى مجتمع يضم حشود إنسانية مهما كان حجمها ، يرتبط وجوده بمفهوم الدولة ويعد أحد مظاهر قوتها واستقرارها ، وإن شئت التعرف على مراحل التوتر السياسي والصراع الاجتماعي في أي دولة ما ، عليك الرصد التاريخي لدستورها ومراحل تطوره وما طرأ عليه من تعديلات ، فاستقراره يعني استقرارها وتقلباته يعكس أزماتها ، وعليه فأن أهداف الاستقرار لا يمكن بل ومن المستحيل أن تكون ضمن أسباب أو عوامل تدفع في إتجاه المساس بالدستور سواء بالإيقاف او تعديل بعض مواده ، فلا استقرار في عدم استقرار الدستور.

فالأصل أن يصدر الدستور مكتملاً وبإجماع الشعب بكافة فئاته وطبقاته ليستمر فترة طويلة من الزمن تتعاقب خلالها أجيال مختلفة ، ليقوم كل جيل بإجراء تعديلات طفيفة حسب ما طرأ على المجتمع من تغيرات ، فعلى سبيل المثال يعد الدستور الأمريكي أقدم وثيقة دستورية معمول بها دون إنقطاع أو تعطيل منذ عام 1779، وخلال هذه الفترة الممتدة لحوالي 240 عاماً تم إجراء 27 تعديلاً على بنوده الأساسية ، عبر 18 مصادقة على هذه التعديلات، كان أخرها في 7 مايو 1992 ،ويعد تعديله من أصعب القرارات، وتحتاج إلى نقاش مجتمعي واسع وموافقة الأجهزة التشريعية الفيدرالية، فضلاً عن ضرورة موافقة المجالس التشريعية لثلاثة أرباع الولايات الأمريكية ، ويعد إستقرار الدستور الأمريكي إنعكاس صريح لقوة الدولة وتفردها وهيمنتها .

ولمن يصدرون الاستقرار والتنمية في مصر كهدف رئيسي يتم التعويل عليه لتمرير التعديلات الدستورية الحالية أبريل 2019 ، عليهم إجراء إستعراض تاريخي للدستور المصري لإستبيان عواقب المساس بالدستور والعبث بمواده بدون أسباب منطقية ، حتى أن الأمر وصل لتغييره أو تعديله خصيصاً لأهداف شخصية لشخص الحاكم والذي يعد مواطن ضمن ملايين المواطنين ممن يشملهم الدستور بمظلته القانونية ، لتجد أن متوسط عمر الدستور في مصر لا يزيد عن خمسة عشر عاماً ، بل من المفارقات العجيبة أن تجد بعض من قاموا بإعداده في بعض المرات هم أنفسهم من قاموا بتعديله أو تغييره أيضاً.

فقد صدرت أول وثيقة دستورية مصرية عام 1882 منذ 135 عاماً في عصر الخديوي توفيق ومع بداية الاحتلال البريطاني ، وخلال تلك الفترة تم تعطيله وإعادة إصداره11 مرة وكانت نسخاته التاريخية بتواريخ: 1882، 1883، 1923، 1930، 1954، 1956، 1958، 1964، 1971، 2012، 2014 ، كما تم إجراء تعديلات على مواده أثناء إستمرار العمل به ستة مرات في: 1913، 1980، 2005، 2007، 2011، 2019 ، وتخلل تلك الفترة إصدار ستة إعلانات دستورية خلال فترات توقف الدستور في: 1952، 1953، 1962، 2011، 2012، 2013 ، وكانت أغلب الإجراءات التي إستهدفت المساس بالدستور سواء لتعديله أو إصدار نسخة جديدة منه وليدة توترات سياسية أحياناً أو رغبة شخصية للحكام في الإنفراد بالحكم أحياناً أخرى ، وهو ما سيتضح من إستعراض تطور الدستور المصري تاريخياً :

  • رغم صدور أكثر من وثيقة دستورية قبل ثورة 1919 ، إلا أن دستور 1923 أحد إنجازات الثورة كان أول وثيقة تصدر بمعرفة الشعب المصري ومن خلال لجنة مكونة من 30 عضواً ، تم تشكيلها بمعرفة الملك فؤاد ولكن الرقابة الشعبية الشديدة عليها دفعتها لإصدار وثيقة دستورية وصفها الباحثون كأفضل وثيقة دستورية في تاريخ مصر.
  • نتيجة قيام الملك فؤاد الأول بتكليف إسماعيل صدقي بتشكيل الوزارة من حزب الأحرار الدستوريين رغم حصول الوفد على الأغلبية في البرلمان ، حدثت أزمة سياسية إنتهت بإلغاء دستور 1923 وإعلان دستور جديد للبلاد عام 1930 عرف بدستور صدقي ،وقد أثار لغطا شديدا لتمديدهلصلاحيات الملك واعطاءه حق حل البرلمان بمجلسيه النواب والشيوخ مما يجعل الملك يملك ويحكم على عكس دستور 23 الذي كان فيه الملك يملك ولا يحكم ، رفض حزب الوفد للدستور الجديدوظل يجاهد لالغاءة حتى كانت إنتفاضة 1935 ليضطر الملك إلى الغاءة وإعادة العمل بالدستور القديم 1923.
  • بعد حركة الجيش في 1952 تم إلغاء دستور 1923 وقام تنظيم الضباط الأحرار بإصدار إعلان دستوري في 10 ديسمبر 1952 ، تبعه إعلان دستوري أخر في 10 فبراير 1953 ، وفي نفس العام تشُـكلت لجنة مكونة من خمسين من أبرز الشخصيات السياسية والثقافية والقضائية والعسكرية تحت قيادة رئيس الوزراء علي ماهر لوضع دستور جديد للبلاد ، ولكن عندما قُدِمَت المسودة في سنة 1954 إلى مجلس قيادة الثورة تم تجاهلها وأُهمِلَت ، وقد عثر المؤرخ صلاح عيسى على نسخته الأصلية في بدروم مكتبة المعهد العالى للدراسات العربية التابع للجامعة العربية، وقام بنشر المسودة في كتابه “دستور في صندوق القمامة” في عام 2001.
  • ظل العمل بالإعلان الدستوري لعام 1953 إلى أن تم إجراء إستفتاء في 23 يونيو 1956 ليتم إقرار دستور 1956 ، الذي منح سلطات واسعة لرئيس الدولة (جمال عبدالناصر آنذاك) ، كما وضع الأساس الدستورى لوضع رئيس الجمهورية وسلطاته وصلاحياته الواسعة الذى سارت على منواله الدساتير التالية ، وألبست الرئيس ثوب الحاكم المُنزه، والزعيم المفدى، والقائد الملهم.
  • بعد الوحدة بين مصر وسوريا تم إصدار دستور الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 وإستمر العمل به حتى بعد سقوط الوحدة في سبتمبر 1961 بعام واحد ، حيث تم إصدار إعلان دستوري في سبتمبر 1962، إلى أن صدر دستور مؤقت لمصر عام 1964 التي بقيت تعرف رسميا باسم “الجمهورية العربية المتحدة”.
  • بعد تقلد الرئيس السادات للحكم تم تشكيل لجنة مكونة من 80 عضواً لوضع دستور دائم للبلاد ، إنتهت من عملها بتقديم مشروع الدستور لمجلس الشعب وتم طرحه للإستفتاء الشعبي وإقراره يوم 11 سبتمبر 1971 ، وقد إستمر العمل به لمدة أربعون عاماً كانت هي الفترة الأكثر إستقراراً في تاريخ مصر ، وتم إجراء ثلاث تعديلات على بعض بنوده خلال تلك الفترة ، كانت جميعها تصب في صالح السلطة الحاكمة والإفراط في فرض سيطرتها.
  • كان التعديل الأول في مايو 1980 وبمقتضاه قام الرئيس السادات بإطلاق مدد الرئاسة ليستمر في رئاسة الجمهورية إلى أجل غير مسمى ، مقابل مغازلة التيار الإسلامي بإقرار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ، إلا أنه لم يستفد شخصياً من هذا التعديل حيث تم إغتياله قبل نهاية مدته الثانية ، وكان التعديل الثاني بإشراف الرئيس مبارك في مايو 2005 وهو ما عرف بتعديل المادة 76 والتي أقرت الإنتخاب الحر آلية لإختيار رئيس الجمهورية بدلاً من الإستفتاء ، بعد وضع شروط تعجيزية تحول دون قدرة أي من الأحزاب على منافسة مرشح الحزب الوطني ، وكان التعديل الثالث في مارس 2007 والذي تم بمقتضاه حذف الإشارة إلى النظام الإشتراكي للدولة والإتجاه نحو فرض مزيد من القيود على الحريات بحجة مواجهة الإرهاب.
  • بعد ثورة 25 يناير التي أطاحت بمبارك والحزب الوطني من السلطة قام المجلس العسكري بإصدار إعلان دستورى يتضمن بعض التعديلات الدستورية التي تم طرحها للإستفتاء الشعبي في 19 مارس 2011 ، وبموجب هذه التعديلات تم تشكيل جمعية تأسيسية لإعداد دستور جديد للبلاد ، وبعد صراع وتوتر سياسي بين تيار الإسلام السياسي والمعارضة المدنية ، إنفرد التيار الإسلامي بإعداد دستور جديد يخدم توجهاتهم الأيديولوجية والسياسية وتم إقراره في إستفتاء عام يوم 25 ديسمبر 2012 .
  • بعد ثورة 30 يونيو 2013 التي تم بموجبها عزل محمد مرسي من منصب رئيس الجمهورية ، تم تعطيل العمل بدستور 2012 ووضع خارطة طريق تضمنت تشكيل لجنة مكونة من عشرة خبراء دستوريين لوضع أسس عامة للمواد المراد تعديلها ، وبعد إنتهاء مهمتها في 20 أغسطس 2013 تشكلت لجنة أخرى من خمسون عضواً قامت بإعداد مسودة لدستور جديد تم طرحه للإستفتاء الشعبي وإقراره يوم 18 يناير 2014 ، وبعد خمس سنوات شارك العديد من أعضاء نفس لجنة الدستور في المطالبة بتعديل بعض بنوده ، وهو ما قام به مجلس النواب بالفعل وأجرى تعديل لبعض مواد الدستور لتمديد فترة حكم الرئيس الحالي إلى 2030 وتمديد بعض صلاحياته ، وتم طرحها للإستفتاء الشعبي إبتداء من20 وحتى 22 أبريل 2019 والتي لم تنتهي بعد حتى كتابة هذه السطور .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار