د. أماني فؤاد تكتب ..نستحقُ إعلاما حقيقيا

حَكَتْ لي صديقتي ونحن نتناقش حول الإعلام المضلِّل، الخائن؛ الذي كان موضوع المقال السابق، حين كتبتُ عن البرامج التي تُبَثُّ من تركيا وقطر لبعض الأُجراء المنتمين لجماعة الإخوان الإرهابية، أو الموالين لها، قالت: إن الفني المختص بإعداد وتصليح الطبق الهوائي “الدش” قد أخبرها أن قنوات الشرق ومكملين والجزيرة هي أُولى طلبات غالبية زبائنه.
وهو ما جعلني أفكر لماذا يلجأ المشاهد لهذه البرامج، وهذا الإعلام الموجَّه؟ الذي لا يُخطئ أي عاقل، أو فِكر موضوعي حيادي في التقاط عمالته وخيانته، بل عدائه المباشر للدولة ومؤسساتها، وللمصريين بكافة طوائفهم، وتساءلتُ هل لو أنهم وجدوا الحقيقة بكل وجوهها، شفافة ومجردة في قنوات بلدهم، وبرامجها وصحفها وإعلامها، وشعروا بالاعتدال والمهنية فيما يُقدَّم، دون تسويغ لكل قرار وأمر رسمي ومؤسسي، والتهليل له بطريقة التأييد المُطلَق وكفى، هل كانوا اتجهوا لمشاهدة تلك القنوات؟

هل لو أن المشاهدين يثقون في مجموعة من الإعلاميين ومقدِّمي البرامج، وتأكدوا من نزاهتهم وعدم تلوُّنِهم مع كل عصر، وامتلاكهم لرؤية وطنية، تحكمها قيم أخلاقية راقية مترفِّعة، تُعلي الصدق، وتصرِّح برأيها الموضوعي، المتزن، المستند إلى الحقائق بطُرُق عقلانية وعلمية مهنية؛ أكانوا قد بحثوا عن آخرين بمثل هذه الشعبوية والصفاقة؟
لو أنهم وجدوا إعلاميين يدركون دورهم الوطني، الذي يُعَد السلطة الرابعة في المجتمع، التي تراقب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بمهنية وحيادية؛ لتحقيق تطلعات الجماهير، ومعرفة الأخبار والحقائق، والإلمام بما يدور حولهم. لو أنهم وجدوا هذا في قنواتنا؛ لكانوا قد نبذوا هؤلاء المشعوذين، الذين لا يملكون سوى التضليل للاحتيال على الجماهير المُتعَبة، البسطاء الذين تحاصرهم المشكلات والضغوط من جوانب حياتية متعددة، والذين يريدون فقط من يبكي عليهم ومعهم كنوع من التعاطف ليس إلا.
يستحق المصريون إعلاما ناضجا مترفعا، لا يحمل شططا وتطرُّفًا، لا في اتجاه التشكيك في المؤسسات كلها، والتقليل من شأن كل منجز وهدمه لمجرد التقويض، وادعاء أنه ليس من الأولويات، ولا المدح والتبرير والتهليل، وتصوير كل ما يتم كأنه معجزات غير مسبوقة لمجرد بقاءهم في مواقع الصدارة؛ ولضمان علاقاتهم بالسلطة، ونَيْل المكافآت تحت أي نظام ووفْق أية أيديولوجية. لو وجد المتلقي الصورة نزيهة كاملة: الأصوات المعارضة والأخرى المؤيدة؛ لما ذهب لتلك الأفاعي التي تتلوى دون حياء وتُلبس الحق بالباطل.
أرجو ملاحظة أن السلطات ذاتها والقادة في أشد الحاجة لإعلام محترف صادق، يتقصى الحقائق، ويبحث دوما عمَّا يمكن ألا تراه السلطة، ويعرض لكل قضية من مناظير مختلفة، يلقي الضوء على المتميزين من الكفاءات ويكشف فساد المنحرفين.
لو شَعر المشاهِد بالحرية واحترام تعدد الآراء وتنوُّعها، وحرية طرْحها، والتعبير عنها دون قيود؛ هل كان قد ذَهَبَ لفجاجة تلك القنوات وبهلواناتها، واحتمل بذاءات مقدميها، لو شَعر المشاهِد بمراعاة الدولة لحقِّه، وحق أولاده في التعليم والصحة قبل تشييد الجدران، لحقِّه في توفير مقومات حياة كريمة من خلال مشاريع ومصانع منتِجة تصُب في تنمية مستدامة، هل كان قد توجَّه لمتابعة وسماع تخريف هؤلاء المنتفعين؟

وصل الأمر معي – في تفسير انجذاب المشاهدين لتلك البرامج – أن رجَّحتُ أن تكون مشاهدة تلك البرامج هي “المشاهدة الكيدية”؛ الكيدية لعدم الثقة فيما يُقدَّم لهم عبْر قنواتهم من مواد وتغطيات إعلامية. وعدم الشعور أيضا بالرضا؛ لأن مصالحهم المباشرة والقريبة ليست ذات الأولوية من المختصين. ربما يتابعون من يستطيع أن يقول ويصرح برأي عدا الرأي الرسمي.
كلنا يأمل أن نجد الأمانة، والمهنية، والوعي بقيمة الرأي الحُرِّ النَّزية، نأمل أن يقف إعلاميِّونا على مسافة من السلطة، وألا يتماهوا معها في كل شأن.

كلنا لا يحفل بإعلام موجَّه، ينطق بما يُملَى عليه، وبحسب توجُّهات من لا يدرك قيمة المعارضة الصادقة، التي لا تنتمي لجماعات وتيارات، لكنها تنتمي لوطنها ومصالحه، التي تعلو على كل فئوية. الموضوعية تقتضي أيضا ألا يكون الإعلام موجَّهًا، ولا مراعيا لمصالح أصحاب القنوات واستثماراتهم وتوازناتهم مع السلطة السياسية.
لماذا كُتب علينا أن نقع دوما بين جهتين متضادتين تماما، أقصى اليسار أو أقصى اليمين، لماذا ابتُلِينا بإعلام مؤدلَج وغير مهني داخل مصر أو خارجها، ومشاهِد عاطفي لا يبحث عن الموضوعية قدر ما يبحث عمَّا يعبِّر ويتسق مع ضِيقه وسخطه، أو إعجابه وتسويغه لما يتوافق مع قَنَاعاته دون استنادات موضوعية.

لا يختلف الإعلام لدينا عن باقي سلطاتنا التشريعية والتنفيذية، وغيرها؛ فالبرلمان صورة من الجماهير، والاثنان صورة من الإعلام، والجميع في حالة خصام مع العقلانية وموضوعية الأحكام.

نحن بحاجة لشفافية المعلومة والخبر، وموضوعية تحليلها، بحاجة لوجوه إعلامية جديدة ناضجة الفكر، وليست شعبوية، مترفعة، تؤمن بالوطن، وأولوية مصالحه على كل اعتبار. بحاجة لتعدد الآراء والثراء الذي يتيحه من خلال فتح المجال العام، وتشجيع النشاط الحزبي في دولة علمانية تؤمن بحقوق المواطن وحقه في المعرفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار