محمد أبو العيون يكتب: فساد العلماء.. حين استعبد مشايخ الأزهر المصريين

التاريخ لا يُزيف، وإن مُحيت بعض صفحاته وأضيف بديلًا لها صفحات أخرى، وهناك طرق كثيرة تقودنا إلى الحقيقة. التضاد في الوقائع.. رفض العقل لـ«التسلسل المنطقي للأحداث».. نسيان المُزيِف(لأن الكذوب ليس دومًا ذكورًا)..كلها بعض طرق من كل تقودنا إلى الحقيقة التي لا تحتاج لإظهارها أكثر من بحث بتأنٍ، وسماع/ قراءة شهادة الكل على العصر الذي كانوا يعيشون فيه؛ فالروايات المتعددة كفيلة بكشف المستور وإظهار الحق جليًا.

 

وثمة صفحة هامة من صفحات تاريخنا المعاصر، حاول البعض محوها بكل قوةٍ واستبدالها بصفحة أخرى مزيفة، تقول هذه الصفحة:

نُصبَ الباشا محمد علي، واليًا على مصر بفرمان من السلطان العثماني، وبعد أن استتب له الأمر فرض «المغارم والشهريات» على الالتزامات (أي الاقطاعيات المخصصة للأمراء والتجار والعسكر) والقرى، وكان ذلك مرسومًا عامًا على جميع أراضي مصر، وطبق ذلك حتى على كبار العسكر وأصاغرهم، لكنه استثنى من ذلك البلاد والأراضي التي كان يملكها المشايخ.

 

وكلمة البلاد هنا ليست للتضخيم، بل هي وصف لواقع كان حادثًا في مصر بالفعل؛ فقط كان مشايخ الأزهر إقطاعيين من الدرجة الأولى (المقصود بالمشايخ هنا: شيخ الأزهر وكبار العلماء فقط؛ أما بقية المشايخ والطلاب فكانوا مثل بقية المصريين مغلوبين على أمرهم ولا يملكون من حطام الدنيا شيئًا)، حتى أن الشيخ عبد الله الشرقاوي، شيخ الأزهر حينئذ، كان يملك بلادًا بأكملها، ونجد أن المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي في كتابه «مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس»، وصف الشيخ الشرقاوي بـ«كبير الملتزمين».

 

وكانت الدولة العثمانية أبقت على ما يُعرف بـ«مسموح المشايخ» أي مناطق بأكملها (بلاد) تركت للمشايخ يتولون التزامها (فرض الضرائب على الشعب وممارسة الجباية، وجني خيرات الأراضي التي يزرعها الفلاحين البسطاء. أو المستعبدون بتعبير أدق)، لذا صار بعضهم «ملتزمين» وحقق ذلك لهم ثروات ضخمة.

 

ونعود لمرسوم الباشا محمد علي، الذي فرض «المغارم والشهريات» على الاقطاعيات المخصصة للأمراء والتجار والعسكر، واستثنى من هذه المغارم البلاد والأراضي التي بحوزة المشايخ، وحول هذا الإستثناء يقول الجبرتي: «لا يأخذ منها نصف الفائظ ولا ثلثه ولا ربعه». هذا الاستثناء ربما قُصد به تكريم المشايخ وإظهار الود والتقدير لهم، لكن محمد علي الذي عُرف بمكره ودهائه لم يكن يقصد من استثنائه التكريم؛ بل قصد وضع المشايخ في اختبار حقيقي.

 

تمثل هذا الاختبار في فتح أبواب الفساد على مصراعيها أمام كبار المشايخ، ليعرف الشعب حقيقتهم وبالتالي ينفض العامة من حولهم. وحدث ما توقعه محمد علي؛ فالمشايخ بدورهم دخلوا منها بلا روية أو انتباه أو إدراك لما يمكن أن يؤدي ذلك بهم.

 

هذا الاستثناء الذي قدمه محمد علي للمشايخ دخل بهم إلى دنيا «الفساد والاستبداد» الواسعة، يقول الجبرتي: «اغتروا بذلك، واعتقدوا دوامه، وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين بدون القيمة (لاحظوا كيف أصبح المشايخ)، وافتتنوا بالدنيا، وهجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم إلا بمقدار حفظ الناموس مع ترك العمل بالكلية، وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الألوف الأقدمين».

 

لم يكتفي مشايخ الأزهر بما سبق، بل اعتبروا أنفسهم سادة وباقي المصريين عبيد. يقول الجبرتي: «اتخذوا الخدم والمقربين والإخوان وأجروا الحبس والتعزيز والضرب بالفقلة والكرابيج المعروفة بذيل الفيل، واستخدموا كتبة الأقباط وقطاع الجرائم في الإرساليات للبلاد».

 

ثم زاد الأمر وصار مشايخ الأزهر في عداء مع الفلاحين، بعد أن كانوا هم من يسمعون شكواهم ويتوسطون لحلها. يؤرخ لنا الجبرتي ما وصل إليه المشايخ من افتتنان بالدنيا، قائلًا: «وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وإنذارات عن تأخر المطلوب مع عدم سماع شكاوى الفلاحين».

 

وزاد على ذلك أن علاقاتهم الخاصة كعلماء ازدادت سوءًا: «فمخاصمتهم القديمة مع بعضهم بموجبات التحاسد والكراهية المجبولة والمركوزة في طباعهم الخبيثة (!!!) وانقلب الوضع فيهم بضره، وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميري والفائظ والمضاف».

 

المراجع التي حفظت لنا هذه الصفحة:

كتاب: الأزهر الشيخ والمشيخة

تأليف: حلمي النمنم

 

كتاب: مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس

تأليف: عبد الرحمن بن حسن برهان الدين الجبرتي

 

كتاب: عجائب الآثار في التراجم والأخبار

تأليف: عبد الرحمن بن حسن برهان الدين الجبرتي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار