القوى الناعمة والوعي

كانت القوى الناعمة ماضياً بالأمس القريب ترتقي بعقلية المتابعين والمشاهدين، وتشكل جزء كبير من وعيهم نحو ما يذاع من مسلسلات أو أفلام أو برامج، كان الهدف الأول الارتقاء بعقلية المشاهد، وتقديم دارما وفن حقيقي يشمل كافة المجالات والاختصاصات والمهن والقيم الأخلاقية والدينية، من برامج دينية كخواطر الشيخ الشعراوي، والعلم والإيمان، حديث الروح، وغيرها من البرامج الدينية التي كانت على مدار اليوم تحدث المشاهد والمستمع في كل نواحي الحياة والمعاملات الدينية والاجتماعية والإنسانية والمهنية، دون فاصل أعلاني أو حملات أعلانية وتبرعات وغيرها! مما يأخذ عقل المشاهد بعيداً ويخرجه من شعوره طيلة الوقت وتشعره بالإحباط المستمر مما يري من مشاهد لإعلانات لمرهم أو كريمات للخشونة والاعصاب داخل برنامج ديني أو ثقافي فهذا لا يليق تمامًا بعقلية المشاهد مما يجعله في كيد واشمئزاز! أن يظهر رجل ممسكاً بالمصحف في يده ويحلف للمشاهد أن هذا المرهم أو هذا الدواء أو غيره يشفي تمامًا من الاوجاع والامراض! وسيدة أخري وليست من المشاهد الأخيرة التي نراه على الشاشة السيدة التي تبكي وتقسم أنها عندما استخدمت المرهم شفيت تمامًا، يأخذنا الذهول وننصعق كيف من الأساس تم التصريح لهذه الإعلانات في هذا السياق والعالم يشاهدنا بهذه الصورة!!
أين الدور الرقابي على هذه الشركات التي تتاجر بفقر الناس واحتياجهم وجهلهم في استخدامهم لترويج الإعلانات لها بشكل لا إنساني بالمرة!؟ نحن بلد له تاريخ عظيم لابد من مراجعة ووقفة حقيقية لهذه القنوات الخاصة وغيرها، لما يتم بثه عبر الشاشات، لا شك أن المظهر الدرامي يجسد هيبة الوطن ويعبر عن ثقافة ووعي أهله.
عندما نشاهد ما يحدث اليوم عبر شاشات التلفاز من أفلام ومسلسلات تحرض على الجرائم والثأر والعنف والخيانة وتبث بلطجة الحارة الشعبية المصرية التي كانت ولا أشك انها لا زالت سمحة طيبه فطرية أخلاقية لها باع من الشهامة والجدعنه، شاهدها العالم من خلال زياراته لمصر سياحة أو إقامة، فعندما يصدر ويتصدر لها تلك المشاهد التي تقلق المشاهد حول العالم من هذه التغيرات الأخلاقية والنفسية وتجعلنا موضوع سؤال وأضحوكة، ومن ثم تحرك الغرائز والأنفس نحو الجرائم وتقاوم نقاء الانسان وفطرته وتكون سببًا في استبدال الاتزان والإنسانية والرحمة بين الناس بالبلطجة والعنف والقتل وغيرها من أساليب الجرائم المفزعة وفنونها في تجسيدها في أدوار سينمائية ودرامية، بديلاً عن التأخي والحب والتقدير بين الناس وتنمية العقول نحو الثقافة والوعي والتطور الذي يشهده العالم حولنا ، لا شك أن المشاهد المستنسخة من فيلم أو مسلسل في خيال المشاهد وحب التقليد والأداء والافعال التي تبثها الدراما، لها دور وتأثير كبير على عقول الكثيرين والبسطاء إلا ما رحم ربي، وانتقالاً لما نراه ويضحكنا ويبكينا أسفًا والكثير منزعج من هذا الاستخفاف والاستهزاء المباشر الذي يعلن كل مرة فشله في إداء تقديم دور الصعيدي، فأن المشاهد حول العالم ليس في الصعيد فقط يندهش مما يقدمه الكيان الفني عن الحارة المصرية أو الصعيد المصري أو الريف المصري ! وكأننا ليس لدينا مشاغل اخري غير البلطجة والثأر والانتقام واضطهاد المرأة أو الضعفاء وغيرها من الجرائم والعنف الذي اجتاحت القنوات التلفزيونية، التي شوهت الكثير من معالم التراث المصري والصعيدي وشكلت وعي الكثير من البسطاء نحو السلبيات والتطاول والعنف!!
ناهيك عن المنازل الفخمة أو سيئة المسكن أو السيارات الفارهة أو عدم تواجد وسيلة مواصلات بالمرة! أمر مضحك وتناقض شديد درامي كبير لا يغتفر لا من التاريخ أو من المشاهد، يعتبر تكرار هذه المشاهد عداء مباشر وسخرية مستمرة للحارة والريف والصعيد المصري ولكل واعي مدرك مثقف، فالصعيد يا سادة ليس في حاجة لتجسيد دور الرجل فيه أو المرأة أو الطفل عن كفاحهم ونبل اخلاقهم والرجولة التي استمدت من الأجداد، وتتوارث بين جيل واخر في ثبات وشموخ، لدينا عادات وتقاليد طيبة وعقول مستنيرة وقلوب قوية مؤمنة ناصعة البياض لا تهاب المحن أو الشدائد في كل الحروب والصراعات على مر العصور كانت من الامام ليست من الخلف قادة وجنود، والتاريخ شاهدًا على ذلك.
لست معبرًا أو كاتبًا لهذا المقال من رحلة أو من وحي الخيال ولكن احدثكم وانا من الصعيد وحياتي بين اهله، والمشاهد العامة اليومية العادية والطبيعة لدينا بداية من صلاة الفجر ثم انتقال كل إنسان إلى عمله، وان افترضنا جدلاً ما يذاع عبر الشاشات من جرائم وثأر فهي من هذه الحالات الاجتماعية، وتجسيدها بهذه الشكل المبالغ فيه لا شك ان هذه المشاهد سبب في إشاعة الفتن وزيادة معدلات الجرائم وكيفيتها وفنونها وتوسيع دائرة الثأر والانتقام بين الناس!!
أين دور الفن الحقيقي الذي كان يقدم ملاحم الانتصار على الذات ويحس الناس على القيم والرقي الاجتماعي والإنساني والمهني، من مشاهد بطولية كثير منها مسلسلات: حسن أرابيسك إلى ليالي الحلمية والسيرة الهلالية والمسلسلات الدينية والاجتماعية والثقافية التي تنقل وعي المشاهد وترتقي به للدين والعلم والمعرفة، ثم لبرامج دينية كبرنامج الجائزة الكبرى الذي كان يطوف الشارع المصري في هيبة ورقي ووقار أو الكاميرا الخفية وما تحمله من كوميديا خفيفة الظل على عقل وقلب المستمع إلى برنامج إديني عقلك وغيرها الكثير والكثير، ما نره في البرنامج اليوم هو اسفاف وجهل بالقيم الإنسانية ونواحي الحياة الاجتماعية، مثل كثير من البرامج لا نري فيها إلا الاستخفاف ومحاولة استفزاز المشاهد، لا ندري ما العمل الخير في ازدحام الناس وصريخهم وبكائهم، كبرنامج { محمد رمضان } فما نراه انسحاق للناس ، ولمذلتهم ، وفقدانهم ترفعهم وتوازنهم أمام بريق المال !
{ محمد رمضان } يتجول في الشوارع والأماكن المختلفة ، ينتقي واحداً من الناس ، تبدو عليه قسمات الاحتياج أو الفقر ، فيمنحه مبلغاً من المال ، في مشهد أسطوري ، وسط تهليل الجموع الغفيرة المتزاحمة الكثيفة المؤلمة!
بعيداً عن أنه فعل خير، فهو في جوهره واضح تمامًا أنه ليس كذلك علي الاطلاق، ولكنها فكرة من أفكار الرأسمالية المحسوبة بدقة، وكأنها من ألعاب المقامرة ، بحيث يبدو العمل خيرياً في ظاهره ، بينما ينضوي علي ربح مادي وجماهيري ، يسعي إليه الكثير من أهل الفن، فالعائد من قيمة المشاهدات والترند والإعلانات التي تصاحب البرنامج ، ومن نشر مادته علي السوشيال ميديا ، تفوق ما أنفقه بكثير.
لكن الذي يعنينا ، ليس كل ذلك ، بقدر مايعنيننا رد فعل الناس ؛ فعند تلقيهم المبلغ يفقدون توازنهم ووقارهم ، وتأخدهم شهوة المال بهستيريا مجنونة ، وبعضهم أغمي عليه من هول المفاجأة ، وسيدة تزغرد وترقص كالذي أصابه مَسّ من الجان، مظهر الشعب المصري العزيز الأصيل لا يصح أبداً ان يكون في هذه المشاهدة القاسية التي تظهر معدنه وتماسكه وكرامته فحماية العقول وأجب وطني وحقوقي من ضمن حقوق الأنسان تجاه اهل العلم والقانون والوطن.
كما أن مثل تلك الأفعال، ترسخ في أذهان الناس العيش في وهم هبوط الثروة عليهم فجأة من السماء دون عناء وكفاح، دون تعب أو مجهود، ويضرب خيالهم احتمال حدوث ذلك في أي وقت، فيتواكلون ويرتاحون لهذا الخداع الحظي، مما يفقد العمل قيمته، والجهد معناه ، والعصامية مغزاها ، والكفاح من أجل لقمة العيش والحياة الكريمة جدواه، ويجعل المجتمع وشبابه تجري نحو الكاميرات للشهرة والتقليد بكافة الأشكال!!
كما أن انسحاق الناس ومذلتهم أمام المادة، يوحي بضياع القيم والمبادئ الأخلاقية، وتراجع التمسك بها، وأن الناس باتت عطشي للمال فقط، وقد تشققت نفوسهم، كما تتشقق الأرض العطشانة لاستقبال الماء، وأصبحوا كمَن يشرب من البحر المالح ليروي ظمأه، كلما شرب منها في جوفه، ازداد عطشًا، اكررها لا يصح أبدًا التلاعب بعقول الناس وحوائجهم ووعيهم وأفقار اخلاقهم اكثر وأكثر ، لذلك الفن في كل صوره وبرامجه له خطورة كبيرة، في تشكيل الوعيّ المجتمعي، وأخلاق الناس عامة والبسطاء خاصة، لدينا أبناء وأجيال تنظر وتقلد ما تراه من هذه المشاهد شديدة القسوة التي تهدد استقرار الإنسانية وتوازنها وأمنها، فهذا اغتيال صريح لعقول البسطاء وللقيم والمبادي المصرية المشهود بها في العالم من كرم ونبل أخلاقي وشهامة وتدين وشموخ، نريد فن يحس الناس على القيم والأخلاق لا هدمها وبث العنف والعنصرية والتفرقة بين كافة طوائف المجتمع، نريد الارتقاء والانتقاء الحقيقي لكافة الدراما والبرامج والطرب وغيرها مما يذاع على شاشة التلفاز أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الوعي أمانة يجب علينا الحفاظ على عقول الناس والعمل على استنارة عقولهم ورقي أخلاقهم أكثر وأكثر، نأمل من كل الجهات المعنية الرقابة والمتابعة والتدقيق في كل ما يبث عبر شاشات التلفاز حتي تنهض العقول وتستقر نحو كل مفيد ومثمر.