صوت المواطن… آخر الأسلاك المكشوفة

في اللحظة التي بدأت فيها ملامح الانتخابات تتشكل، ومع ارتباك المرحلة الأولى التي انتهت بإلغاء نتائج تسع عشرة دائرة كاملة بسبب ما وصفته الهيئة بـ“مخالفات جوهرية”، ثم دخول المرحلة الثانية مباشرة في موجة من الطعون والاعتراضات، بدا من الطبيعي أن يتقدم سؤال أبسط كثيرًا من كل التفاصيل الفنية والإجرائية، لكنه في الوقت نفسه أعمق وأخطر: لماذا ما زالت مصر، بكل ما وصلت إليه من تطور رقمي، تجري انتخابات بالطريقة البدائية ذاتها، بطريقة تعتمد على الأوراق المطوية والصناديق الخشبية والفرز اليدوي والطوابير الطويلة، في بلد رقمنت كل مفاصل الحياة من أول معاش المواطن إلى آخر معاملة جمركية؟ وكيف يمكن لدولة أن تنجح في تحويل حياة الناس اليومية إلى شبكات رقمية كاملة، ولكنها تتوقف فجأة عندما يتعلق الأمر بالزر الوحيد الذي يكشف إرادة المواطن؟

 

فالدولة المصرية اليوم تدير منظومات رقمية بالغة الحساسية والتعقيد، ملايين التحويلات تتم يوميًا بين المواطنين والبنوك، والدعم يُخصم إلكترونيًا، ومعاشات تُصرف عبر بطاقات ذكية، وضرائب تُحصَّل عبر بوابات رقمية، والجمارك تعمل بمنصة موحدة، والتأمين الصحي الشامل مرتبط بقاعدة بيانات دقيقة، وإصدار الجوازات والرخص بات جزءًا من منظومة إلكترونية واسعة، وكل ذلك يجري في إطار الرقم القومي الموحد الذي أصبح بوابة الدولة لإدارة كل تفاصيل حياة المجتمع. وهذه الأنظمة، التي لو توقفت ساعة واحدة لانهارت معها مصالح ملايين المواطنين، تعمل يوميًا دون أن تتحدث الدولة عن “عدم جاهزية” أو “مخاطر تقنية” أو “أمية رقمية”، بل على العكس، أصبحت جزءًا أساسيًا من بنيتها الإدارية الحديثة.

 

ومن ثم لا يبدو منطقيًا أن تصبح التكنولوجيا آمنة تمامًا لإدارة أموال الناس، ودعمهم، وصحتهم، وتعليمهم، وتنقلاتهم، وبياناتهم، لكنها غير آمنة عندما يتعلق الأمر بأصواتهم. وإذا كانت الدولة تثق في أن المواطن يمكنه استخدام بطاقة ميزة لصرف معاشه، أو تطبيق إلكتروني لإنهاء معاملاته، أو منظومة رقمية لتسجيل بياناته، فلماذا لا تثق بأنها تستطيع أن تمنحه وسيلة إلكترونية مضمونة ليختار ممثليه؟ وكيف يمكن لمنظومة ضخمة تضم عشرات الملايين من المعاملات اليومية أن تعمل بدقة، بينما يصبح التصويت الإلكتروني — وهو عملية تتم مرة واحدة كل خمس سنوات — هو المنطقة الوحيدة التي تُحرّم فيها التكنولوجيا؟

 

والأمر لا يتعلق بتقنيات معقدة، فالدولة التي تملك خرائط رقمية كاملة تغطي الجمهورية، وتعرف بالضبط حدود كل دائرة وموقع كل لجنة، ولديها قاعدة بيانات وطنية موحدة تُستخدم في جميع الخدمات، وتمتلك بنية هوية بيومترية تُستخدم في المطارات والسجلات المدنية، تستطيع ببساطة أن تدير عملية تقسيم الدوائر نفسها إلكترونيًا، وأن تدعم التصويت بآليات تحقق معروفة مثل بصمة الوجه أو بصمة اليد، وهي أدوات تُستخدم بالفعل في خدمات أقل حساسية بكثير من انتخاب البرلمان. ولذلك فإن السؤال الحقيقي لا يدور حول الإمكانية، فالإمكانية متاحة ومستخدمة سلفًا، بل يدور حول الرغبة في أن تدار عملية الاختيار بالدقة ذاتها التي تدار بها بقية حياة المواطن.

 

وتزداد دلالة الأمر حين ننتقل إلى البرلمان نفسه، المؤسسة التي يُفترض أن تكون النموذج الأول للشفافية؛ فهذا المجلس، الذي لا يزيد عدد أعضائه عن 596 نائبًا، وعلى الرغم من تجهيزاته التقنية، لا يستخدم حتى الآن نظام تصويت إلكتروني واضح، ولا توجد لوحة تُظهر كيف صوّت كل نائب، ولا سجل معلن يمكن للناس أن يعودوا إليه لمعرفة موقف ممثليهم. التصويت لا يزال يُدار بالصوت الجماعي ذاته: “من يوافق؟… الأغلبية وافقت.” في حين تعتمد عشرات البرلمانات حول العالم — من أوروبا إلى آسيا إلى أمريكا اللاتينية — على التصويت الإلكتروني لأنه يمنح المواطنين الحق الطبيعي في متابعة مواقف نوابهم. وإذا كانت الدولة لم تستطع — أو لم تشأ — أن ترقمن تصويت بضع مئات من النواب تحت قبة واحدة، فكيف يمكن أن تمتلك إرادة لرقمنة تصويت عشرات الملايين خارجها؟

 

وقد يلجأ البعض إلى مقارنة غير دقيقة تقول إن دولًا كبرى، مثل الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا، لا تطبق التصويت الإلكتروني الكامل، وبالتالي فإن مصر ليست استثناءً. لكن هذه المقارنة لا تصمد أمام أول اختبار موضوعي، لأن تلك الدول تمتلك ديمقراطيات عريقة تمتد لعقود طويلة، ولديها منظومات ورقية شديدة الصرامة والشفافية، يتم فيها الفرز داخل اللجنة نفسها، وتحت رقابة حزبية حقيقية، وفي ظل مجتمع مدني مستقل، وإعلام قادر على كشف أي خلل، وبرلمانات تصوّت إلكترونيًا وتعلن سجلات تصويت نوابها. عدم لجوئهم للتصويت الإلكتروني ليس بديلًا عن الشفافية، بل امتدادًا لها. أما مصر فما زالت في بدايات المسار الديمقراطي، ولا تملك هذه الطبقات من الرقابة، وبالتالي لا يجوز استخدام ظروفهم لتبرير غياب خطوة كانت ستضيف قدرًا كبيرًا من الوضوح.

 

ولا يحتاج الأمر إلى لغة اتهامية أو تفسير للنوايا كي نفهم أن الأنظمة السياسية — في العالم كله — تتحفظ على أنظمة التصويت الإلكتروني ليس لأنها غير آمنة، بل لأنها دقيقة، والدقة تضيّق المساحات الرمادية التي تسمح بإدارة المشهد بدلًا من تركه لإرادة الناخبين. فالانتخابات الإلكترونية تخرج نسبة المشاركة كما هي دون مؤثرات، وتساوي بين الناخبين مهما كانت دوائرهم، وتغلق تمامًا هامش التدخل بين الصندوق والنتيجة، وتحوّل العملية الانتخابية من مساحة تقدير واسعة إلى مساحة أرقام واضحة لا يمكن تعديلها أو إعادة ترتيبها.

 

وفي النهاية، تبقى الحقيقة الأبسط والأوضح: إذا كانت الدولة قد استطاعت أن ترقمن حياة الناس من أول دعم التموين إلى آخر فاتورة كهرباء، فلا يمكن أن تكون عاجزة أمام زرّ تصويت. والتكنولوجيا لا تخيف أحدًا، بل ما تكشفه التكنولوجيا هو الذي يخيف. وإذا كان صوت المواطن ما زال السلك الوحيد المكشوف في شبكة دولة رقمية، فربما لأن كشفه بالكامل سيجعل الصورة أوضح مما يتحمله المشهد السياسي الحالي. فالشفافية لا تبدأ من المواطن، بل من السلطة، ومن القبة قبل اللجنة، ومن الاعتراف بأن الحقيقة حين تظهر، لا تحتاج إلى إدارة، بل إلى إحترام .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!