محمد الجوهري يكتب: تختلف الدروب وتتوحد القلوب.. في مديح الصبر وسط الأحزان

كان مساءً شاحبًا من تلك الأمسيات التي لا تهطل فيها السماء ولا تبتسم الأرصفة، فقط تسودّ الأشياء وتتكوم في زوايا القلب غصّات لا تجد إلى البوح سبيلاً، وفي الزقاق القديم الممتد بين بيوت العابرين، خرج صوت عبد الحليم حافظ من راديو صغير مهترئ عند ناصية الطريق، يغني بصوتٍ يتقطر وجعًا: “حبيت واتمنيت، واللي تمنيته ما لقيتوش…” كأنما كانت الدنيا كلها على هيئة أغنية، تتردد في فراغ المساء، وتطرق أبواب القلوب بصوتٍ خافت، لا يثير الشجن بقدر ما يوقظ الذكريات. في تلك اللحظة، أدركت أن كل واحدٍ فينا يسير في طريقه الخاص، يحمل على كتفه متاعب لا تُشبه سواها، يحزن على أشياء لا يعلمها غيره، ويصبر على قدرٍ لا يشاطره فيه أحد، ومع ذلك، نحن جميعًا أبناء الصبر، نقتات عليه كما يقتات المسافر على جرعة ماء في صحراء مترامية الأطراف.
الناس يمضون في الحياة وكأنهم يهرولون إلى غايات لا يدرون منتهاها، كلٌّ يظن نفسه وحده في الحزن، ووحده في المحنة، غير أن الحقيقة الخالدة أن الدروب مختلفة نعم، والحزن يتفاوت طعمه ووقعه من روح لأخرى، لكن الصبر… الصبر واحد، هو الحبل الذي يتعلق به الجميع، حين تشتد الريح وتُغلق الأبواب وتتعثر الأقدام.
في الفلسفة، يُقال إن الاختلاف جوهر الوجود، وإن الوحدة نوع من الخداع البصري، فالناس ليسوا سواء في دروبهم، ثمة من وُلد في اليسر وذلّت له الصعاب، وثمة من خاض معركة الحياة منذ المهد، وهناك من عاش الحزن كتفًا بكتف مع الأمل، ومن لم يعرف من الأمل غير اسمه، ومع ذلك، حين تلتقيهم في محطات الزمن، تجد في عيونهم ذلك البريق الصامت، بريق الذين انتظروا طويلًا ولم يفقدوا الإيمان، الذين صبروا، فاجتازوا، ولو زحفًا.
قال المتنبي ذات شجن: “مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ” وربما لو شاء الزمان لقال: “مصائب قوم عند قومٍ مفاتيح صبر، ومقامات نجاة” لأن الحقيقة أن الحزن ليس نقمة بحد ذاته، بل هو اختبار لما نحمله في دواخلنا من قدرة على البقاء، من شجاعة على الاستمرار، من عناد لا يُهزم
الحزن لا يُقاس بما نفقده، بل بما نبذله من جلدٍ وتحمّل
نحن نحمل الفقد بين ضلوعنا ونبتسم، لأننا نعلم أن الحزن لا يدوم، لكن الصبر، وحده، ما يجعلنا ندوم
كانت “صفية” سيدةً لا يعرفها أحد خارج حدود حيّها، لم تُكتب عنها الصحف ولم يُصفق لها جمهور، لكنها كانت في عُرف الحياة بطلة حقيقية ترملت في ريعان شبابها، وترك لها الزمن مسؤولية تربية ولدين في ظل عوزٍ وشظف عيش، عملت في تنظيف البيوت، وجابت الطرقات كل صباح، لا تُحنيها النظرات ولا تكسرها الكلمات، كانت تقول لمن يسألها: “أنا أُطعم أبنائي من عرقي، والعرق شرف لا يُمس”، كانت تحزن بصمت، وتبكي في خفاء، لكنها لم تتوقف يومًا عن العمل، لم تفقد يومًا إيمانها بأن الله لا يُضيع من صبر، ومرت السنون، وكبر الأبناء، وتخرجوا، وعادوا إليها فرحين، يحملون لها الحياة في أكفهم، فبكت، لا حزنًا، بل لأن الصبر، بعد طول المدى، أثمر.
نجاة تغني وتقول: “وعاشقة أنا، من غير أمل…” كأن الحياة تعزف على أوتار الألم نشيدها الأبدي، لكن ذلك النشيد، مهما طالت مَقاماته، لا ينتهي إلا بالسكينة، لأن كل عابر حزن، لا بد أن يبلغ مأمنه، طالما حمل في قلبه زاد الصبر.
حين نتأمل الفكرة بعمق، نُدرك أننا لا نحتاج لتشابه الظروف حتى نتعاطف، لا نحتاج لتطابق الأحزان حتى نفهم بعضنا، بل يكفي أننا جميعًا نكافح، ننتظر، نحمل فوق صدورنا شوقًا للفرج، وخوفًا من الضياع. وقد قال أرسطو: “الصبر مرّ مذاقه، لكن ثماره حلوة” وهي مقولة ربما لم يُدرك عظمتها إلا من ذاق الحزن في قلوبهم واستمسك بالصبر كآخر حبلٍ يربطهم بالحياة.
تتكشف لنا الحياة في صورتها الحقيقية ليست عدلاً مُطلقًا، ولا ظلمًا مستمرًا، بل دروب شتى، ومصائر مبعثرة، توحد بينها حقيقة واحدة لا تتغير، هي أن الصبر ليس ضعفًا، بل اختيار نابع من قناعة، أنه وحده سبيلنا للعبور، فامضِ في طريقك، احزن بطريقتك، واصبر كأنك وحدك في العالم، لكن اعلم، أن من سبقك في الحزن لم يسبقك في الصبر، فالصبر ليس سباقًا، بل طريقًا نمشيه جميعًا، حين لا يكون أمامنا سوى أن نواصل، أو ننهزم.
وما دام في القلب نبض، وفي الروح حلم، فثِق أن الصبر سينبت لك زهرة، في قلب العاصفة.