مهرجان العمائم : بين أصالة المنبر القديم وسحر الشاشة الحديثة

فى العقود الماضية ، كان ظهور العلماء والدعاة على شاشات التلفاز حدثًا نادرًا ومهيبًا ، لا يقل شأنًا عن إطلالة قائد أو زعيم.
كانوا يحملون في طلتهم جلال العلم ، وهيبة الوقار ، وصدق الرسالة.
أما اليوم ، فقد أصبحت الشاشات أشبه بمهرجان متواصل للعمائم ، حيث تتزاحم الوجوه وتتنافس الأصوات ، لا لرفع راية الحق ، وإنما غالباً لكسب الجمهور وركوب الموجة.
الظهور القديم: رهبة العلم وأمانة الرسالة
كان العلماء في الماضي لا يظهرون إلا في مناسبات مدروسة ، وغالبًا ما يكون ذلك بعد دعوة رسمية من مؤسسة إعلامية أو قناة تحترم العلم والدين.
كانت الإضاءة هادئة ، الديكور بسيط ، والكلمة ثقيلة مدروسة.
لم تكن هناك مؤثرات بصرية مبهرجة ، ولا موسيقى تصدح فى الخلفية مع الاعلانات .
بل كانت القيمة كل القيمة في المضمون ، لا في العرض.
المحتوى كان عميقًا ، يلامس قضايا الأمة ، ويستند إلى تراث غني من الفقه والفكر.
لم تكن الفتاوى تُمنح في دقائق معدودات ، بل تُصاغ بعناية ، وتُحاط بسياق علمي ومسؤولية شرعية.
الأهداف كانت واضحة:(تربية الناس ، تثبيت العقيدة ، وحماية المجتمع من الانحراف والتطرف).
الظهور الحديث: عمائم على المسرح
اليوم، تغيّر المشهد.
صار الداعية نجمًا تلفزيونيًا، وأحيانًا “مؤثرًا” على مواقع التواصل.
الإضاءة صاخبة ، الديكور فاخر ، والكاميرات تدور من زوايا متعددة.
أصبح الأداء جزءًا من الرسالة ، وأحيانًا يطغى على جوهرها.
فالداعية لا يخاطب العقول بقدر ما يغازل المشاعر ،
ويجتهد فى تسويق نفسه كما يُسوَّق المنتج التجاري.
المحتوى ، وإن بقي في ظاهره دينيًا ، فقد تخللته قضايا هامشية ، وموضوعات رائجة ، ومصطلحات دخيلة.
غابت عن بعض البرامج الروح التربوية ، وحلّت محلها نغمة الوعظ الترفيهي أو حتى الإثارة الجدلية.
أما الأهداف ، فقد باتت في كثير من الأحيان مشوشة: هل هي دعوة؟ أم تسويق؟ أم سعي وراء الشهرة والانتشار؟
ما يُروّج له: من التزكية إلى التزيين
في الزمن القديم ، كانت الرسائل المروّجة تُبنى على تزكية النفس ، وضبط السلوك ، وتوجيه المجتمع نحو القيم الأصيلة.
كان الداعية يُذكّر الناس بالموت ، لا يُشغلهم بقصص الثراء أو عروض النجاح السطحي.
أما اليوم، فكثير من الرسائل الموجّهة تتبنّى خطابًا استهلاكيًا مُلفّقًا بثوب ديني ، يدعو إلى النجاح والراحة أكثر مما يدعو إلى الصبر والمجاهدة.
حتى صورة “العالِم” تغيّرت.
لم يعد هو ذلك الرجل الذي ينحني الناس أمام علمه ، بل قد يكون من يُصفق له الجمهور في نهاية الحلقة ، ويُتابعونه على “إنستغرام” أكثر من متابعة كتبه أو دروسه.
خاتمة: ظهور الدعاة بين الضرورة والانحراف
ليس في الظهور الإعلامي للدعاة عيبٌ بذاته ، بل قد يكون ضرورة في زمن تسيطر فيه الشاشات على العقول.
لكن العيب كل العيب ، أن تتحوّل العمامة إلى “براند” ،
وأن يُفرَّغ الخطاب الديني من مضمونه ، ليصبح مجرد وسيلة جذب لا تختلف كثيرًا عن أساليب التسويق التجاري.
إننا بحاجة إلى إعادة ضبط البوصلة ، وإلى مراجعة جادة لدور الإعلام في تقديم العلم والدعوة.
فليست كل عمامةٍ على الشاشة عالمًا ، وليس كل من يرفع صوته على المنبر ناصحًا.
لقد آن الأوان أن نفرّق بين من يضيء الطريق، ومن يُضيَّء له المسرح.