محمد أبو العيون يكتب ..ماذا قدمّ رجال الدين للحياة؟
ماذا قدمّ رجال الدين للحياة؟ سؤال أرى الإجابة عليه مُلحة وذات ضرورة قصوى ستقودنا إلى إيجاد حلول تُخرجنا من هذا العبث والاضمحلال الفكري والفتن المجتمعية التي يؤجج نيرانها بعض المنتسبين إلى العمل الدعوي، الذين يخرجون علينا بآراء يدعون أنها منسوبة للإسلام تجعلنا أسرى للماضي لا نتجاوزه بخطوة واحدة؛ فلا نحن قادرون على التوافق حول رؤية عصرية لتجديد الفكر الإسلامي، ولا نحن قادرون على التفرغ للبناء والإنتاج ومواكبة الثورات العلمية والتكنولوجية التي سبقنا إليها غيرنا بالآف الأميال.
ورجال الدين الذين نعنيهم هنا، هم من يقولون: إن التراث ثلاثة أرباع الدين، وأن القرآن وصحيح السنة النبوية هما الربع، وأن القوانين الإلهية التي جاء بها القرآن والسنة، واجتهادات الفقهاء واستنباطاتهم لأحكام جديدة لم تكن موجودة في القرآن والسنة هما أصول التشريع الإسلامي، مساوين بهذا بين النص المقدس وبين فهم البشر واجتهاداتهم، ومعتبرين أن الفقهاء أكملوا نقصًا في القرآن والسنة وأن الدين لم يكتمل إلا بأقوال الفقهاء، وهؤلاء يسعون من وراء هذا الطرح غير المقبول والمخالف للنص القرآني إلى تقديس الأقوال البشرية ومن ثَمّ إغلاق باب الاجتهاد وتحريم أي محاولات لتجديد الفكر الإسلامي.
رجال الدين الذين نعنيهم، هم من يزعمون أن الأزهر والإخوان شركاء في نفس المسار، وأن الجماعة لم تكن غائبة عن الأزهر طوال تاريخها، وأن نصف أعضاء الجماعة من الأزاهرة، وأن الإخوان من الناحية الفكرية أو العقائدية لا خوف منهم، لأنهم متشبعين بفكر الأزهر، وهي مزاعم مرفوضة وأهدافها معروفة، ومن يقولها يسعى إلى إضفاء صبغة شرعية على المنهج الفاسد الذي يؤمن به أتباع حسن البنا، ويسعى كذلك – وهذا هو الأهم – إلى تمكينهم من الأزهر.
رجال الدين الذين نعنيهم، هم من يدعون أن ملابس المرأة مدعاة إلى التحرش بها، وأن الاحتلال العثماني للبلدان كان فتحًا إسلاميًا، متفاخرين بعبوديتهم لبني عثمان، وداعمين بخبث مُبطن محاولات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، احتلال البلدان العربية ونهب ثرواتها وتهديد الأمن القومي المصري.
رجال الدين الذين نعنيهم، هم من يعتبرون حكام مصر أعداءً للدين، ولا يكفون عن التحريض على الدولة صباح مساء، وهم من يرون الوطن حفنة من التراب النجس ويشتاقون إلى تفكيك الدول الوطنية وإقامة دولة الخلافة، وهم من يقدسون صحيح البخاري، وهم من يشنون الحرب تلو الأخرى ضد المفكرين، ويزعمون أن إعمال العقل كبيرة من الكبائر، وبالأحرى هم من يصفون أنفسهم بـ«حراس العقيدة وسدنة الدين» أي وكلاء الله في الأرض.
ومن البديهيات أن من يقدم نفعًا للحياة يشترط أن تكون صلته بهذه الحياة جيدة، ولهذا نحتاج أولًا – قبل الإجابة على سؤالنا الرئيس – معرفة صلة رجال الدين بالحياة ذاتها، ومنذ الوهلة الأولى نجد هذه الصلة «رثة ومضطربة» ليس في عصرنا الحاضر بل منذ دهور.
وقد وصف الشيخ أمين الخولي (1895 – 1966)، صلة رجال الدين بالحياة؛ إذ يقول في الصفحة 167 من كتابه «المجددون في الإسلام»: «وصلة المنتمين للدين بالحياة العامة عندنا رثة مضطربة منذ دهور، ولو رجعت النظر إلى العصر الحديث فقط لوجدت الآثار السيئة لهذا الاضطراب في علاقة متعلمي الدين بالحياة، ولوضح لك أن خطواتنا على طريق النهوض، ومسايرة ما حولنا كانت خطوات مرتبكة غير متزنة، في كل مجال من مجالات الحياة العامة، وكان ذلك سببًا لخسائر غير قليلة، خسرناها من حركاتنا الاجتماعية، علمية، وسياسية، واقتصادية، وغير ذلك بفعل التصدع الاجتماعي لكياننا ومجموعنا قبل فعل كل شىء غيره».
إن هذه العلاقة الرثة والمضطربة التي يُورثها السلف للخلف، هي التي تجعل بعض المتأليين يخرجون علينا من حينٍ لآخر ليكفروا العلماء والأطباء والمهندسين وكل مشتغل بالعلوم الإنسانية، ويسفهون من نتاجهم الذي لولاه لفسدت الأرض، وهم في هذا التكفير وذاك التسفيه يتجاوزون حد عدم المشاركة والإسهام في هذه الثورة العلمية المتجددة والمتطورة كل لحظةٍ، يتجاوزون هذا إلى السعي بكل قوةٍ للقضاء على العلم والعلماء، أو على الأقل تنفير العامة منهم، لتخلو لهم الساحة كيما يروجوا خرافات الطب البديل، والتداوي ببول البعير… إلخ هذه الخزعبلات؛ فلا هم أفادوا الناس، ولا تركوهم يستفيدون.
ورجال الدين في تحريمهم العلم، وتسفيه العلماء وتكفيرهم، يستندون إلى آراء تراثية يزعم أصحابها أن هناك «عداءٌ» بين الدين والعلم، يستحيل معه أن يلتقيان في طريق واحد، وبالرغم من أن هذه الآراء الشاذة تصطدم صراحة مع الآيات القرآنية وصحيح السنة النبوية؛ إلا أنها عند من يقدسون التراث هي وحدها الدين، وما عداها في مرتبة أقل ولا يُلتفت إليه، وهذه هي الأزمة الحقيقة بيننا وبينهم.
نحن ننادي بإعادة الإسلام الحقيقي، وهم يرفعون في وجوهنا ويرهبوننا بـ«فهم المسلمين للنص»، وحين نقول لهم: إن هذا الفهم رأىٌ بشري قابل للخطأ بنفس درجة قبوله للصواب، يُصرون على أنه ثلاثة أرباع الدين.
ومنذ أكثر من قرنٍ مضى، وصف الشيخ محمد عبده، أزمة رجال الدين الذين يقدسون غير المقدس، قائلًا: «لقد جعلَ الفقهاءُ كتبَهم هذه – على عِلَّاتها – أساسَ الدِّين، ولم يخجلوا من قولهم: إنه يجبُ العملُ بما فيها، وإنْ عارض الكتابَ والسُّنَّةَ؛ فانصرفتِ الأذهانُ عن القرآنِ والحديثِ، وانحصرتْ أفكارُهم في كتبِ الفقهاءِ على ما فيها من الاختلافِ في الآراءِ والرَّكاكةِ».
هذه الأزمة التي اختلط فيها – بقصد – المقدس بغير المقدس، تجعلنا نؤكد أن دعاة الرجعية من رجال الدين لم يقدموا أي شيء نافع للحياة في مجال العلوم الإنسانية، بل إننا نذهب إلى أبعد من ذلك لنؤكد أنهم لم يقدموا أي شيء نافع في مجال تجديد الفكر الإسلامي، الذي يزعمون أنهم أهله ووحدهم المؤهلين للحديث فيه.
يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق – رحمه الله -، في كتابه «الفكر الديني وقضايا العصر»، ص 15 و16: «التَّيارَ الأعظمَ من علماءِ المسلمين على مرِّ العصورِ وقفَ عقبةً فى طريقِ أيِّ تجديدٍ، ناهيك عن أيِّ اجتهادٍ، ومن هنا تجمَّدَ الفكرُ الدينيُّ وتجمَّدَ الاجتهادُ، ووقفَ الفكرُ الدِّينيُّ عند فتراتِ التَّراجُعِ الحضاريِّ، يجترُّ من تراثِها ويعودُ باستمرارٍ إلى ما أفرزتْه من جمودٍ فكريٍّ مُتحجِّرٍ؛ فالدِّينُ في عُرْف هذا التَّيارِ ليس في حاجةٍ إلى تجديدٍ أو اجتهادٍ جديدٍ، وترسيخًا لهذا الفهمِ المُتخلِّفِ في العقولِ انتشرتْ بين المسلمين مقولاتٌ تقول: ليس في الإمكانِ أبدعُ ممَّا كانَ، ولم يَتركِ الأوَّلُ للآخِر شيئًا».
والنتيجة الحتمية لهذا الجمود والتحجر، هو ما نراه الآن على الساحة من إثارة للفتن المجتمعية بتصدير آراء وفتاوى تراثية على أنها دينٌ، وهي لا تمت للدين بصلة. النتيجة الحتمية لهذا الجمود والتحجر أيضًا، هي أننا نُضيع وقتنا ونفوت على الأمة الفرصة تلو الأخرى، حين ننتظر من هؤلاء أن يجددوا الفكر الإسلامي، وكيف يجددون وقد أصبحت مواقفهم المتحجرة، أو أصبحت – كما يقول الدكتور زقزوق – «تسير في اتجاه مضاد لسنة الحياة وطبيعة الأشياء، ولم تعد عقولهم قادرة على مُسايرة الزمن ولا مؤهلة لفهم تطورات العصر».
كيف يجددون و«الغالبيَّةُ العظمى من علماءِ الدِّين في عالمِنا العربيِّ والإسلاميِّ يقنعون بما لديهم من علمٍ قديمٍ وَرِثوهُ عن الأسلافِ، وينامون قَريري الأعينِ يَغِطُّونَ في سُباتٍ عميقٍ لا شأنَ لهم بما يدورُ في عالمِ اليوم، يسخرون من دعاةِ التَّجديدِ ويعتبرونهم مارِقين خارجين عن جادَّة الصَّوابِ»، كما وصفهم الدكتور زقزوق.