فاطمة عادل تكتب .. فيلم ريش ينتصر للمرأة
أثار فيلم ريش الحاصل على جائزة مهرجان كان السينمائي الدولي، جدلًا واسعًا في مهرجان الجونة السينمائي في دورته الخامسة لهذا العام، وربط البعض الفيلم بالفقر، دون الأخذ في الاعتبار إلي باقي تفاصيل الفيلم التي تشير إلى المجتمع الذكوري إذ يفتتح الفيلم برجل يُحرق ثم قطع، ويعرض بعد ذلك ربة منزل تقوم بغسل ملابس زوجها، وتبدأ الأحداث هنا بتوجيه لها بصوت خشن فظ وهو يمد يده لها ويعطيها مصروف البيت قائلا لها “انهارده وبكرة بتنجان”، تأخذ المصروف منه وهي منكسة الرأس، كانت لغة الجسد فعالة وموظفة توظيف جيد جدًا خلال أحداث الفيلم، كما أهتم التصوير في هذا المشهد ببروز مكانة الزوج في وضع أعلى منها ليوضح العلاقة بينهما، وفي مشهد آخر لهما وهم يتناولون وجبة الغداء يوضح فيه رتابة علاقتهما وطبيعة الزوج المتسلط ، وذلك بأنه يجعله يثرثر بطريقة جافة وكلام غير مترابط أما هي فكانت لا تبادله حديثًا فقط كانت منكسة رأسها صامتة، ولا تعيره اهتمامًا.
ونشهد تطور الأحداث حين يقرر الأب إقامة عيد ميلاد لابنه ودعوة الجيران وصديق له، وأثناء هذا الحدث يقوم رجل بأداء فقرة الساحر وهنا تنقلب الأحداث يختفي الأب في الصندوق ويحل محله ديك!
يفزع الجميع ويتهمون الرجل بالدجل والشعوذة، أما زوجته فلا تُبد أية ردة فعل فقط جامدة صامتة، ينصرف الناس وتبقى هي وأبنائها أمام الديك، ليبقى بعد ذلك الديك في غرفة نومها مكان زوجها وتعامله كأنه فردًا منهم تعتني به وتقدم له الطعام وتغلق عليه الباب ظنًا منها أنه زوجها الذي تحول إلى ديك، وهنا يعمد الكاتب لفكرة احتفاظ الأنثى لوجود الرجل في حياتها حتى وإن كان وجوده عبارة عن كتلة ريش!.
يمرض الديك فتأخذه لتكشف عليه وحين تعجز عن سداد مصروفات علاجه، تلجأ لصديقه؛ ليعطيها المال، وحين يضغط عليها موظفو الإسكان بسداد مصروفات البيت وإلا الطرد، تلجأ لصديق زوجها لإيجاد فرصة عمل لها، لكنه سيستغلها. تعمل عند رجل صاحب مخزن أدوات صحية، ومع الوقت تسدد ما على البيت من ديون، وتبدأ أمورها تستقر، يتهجم صديق زوجها عليها وتلجأ لصاحب العمل فيأخذ منه حقها ويأمر رجاله بضربه، وبذلك تكون استطاعت التخلص منه، وفي نفس الوقت قادرة على تحمل مسؤولية البيت وأولادها، فلا تحتاج لمن يعولها، فظهور زوجها مرة أخرى بالنسبة لها كورقة محروقة في لعبة، أو كورقة نقود متهالكة، وهي نفس الفكرة التي كانت تُمرر لنا خلال أحداث الفيلم، حيث كانت الكاميرا تركز على الأوراق النقدية المتهالكة، وبالفعل يجدون زوجها محروقًا، فحين تذهب لتسأل عنه في القسم يعرضون عليها شخصًا محروقًا ومريضًا، يجرونه إليها للتأكد من هويته.
يعتمد الفيلم على لغة الجسد عن الحوار، فنجدها تستقبل جسده الهامد المحروق على الأرض، بوجه بارد جامد دليل على جمود روحها الخالية من طبيعتها الأنثوية والمنتهكة من قبل زوجها والمجتمع، تقرب الكاميرا من يدها لنجدها وهي تحاول منعها من أن تمد له وتتحسسه.
قرب انتهاء الفيلم يكون التكثيف واضحًا جدًا حول فكرة وعي المرأة بذاتها، لكن كرد فعل قاس، فالمرأة حين تنتزع من كيوننتها وطبيعتها تصبح أكثر عنفًا وقسوة، وحين تتأكد أنه لا مجال لشفاءه، ولا نفع منه لها كرب أسرة فلم يكن لها إلا ذلك، تتخلص منه، ففي البداية تخلى هو عن مسؤوليته تجاههم، وتركها تعاني هي والأولاد ضد وحشية الفقر، والديون المتراكمة على البيت.
نجدها تكتم أنفاسه بالوسادة مع تزامن موسيقى أغنية وردة “حكايتي مع الزمان” والتركيز مع انتهائها وهي تقف بجسدها المتخشب مع المقطع الموسيقي الذي تقول فيه “أنا أنا اللي بينكم هنا” وكأنها تؤكد ذاتها وتفردها بكيانها الخاص، مشهد في غاية الروعة، يحقق فكرة الفيلم الأساسية، ويجعل المشهد يرسخ في ذهن المتفرج، كما تقوم أيضًا بذبح الديك للتخلص بشكل تام ونهائي من فكرة القيد الذكوري، وتركز الكاميرا على يدها الغارقة بدم الديك وهي تقوم بغسلها، وفي مشهد سابق أيضًا يركز على الدم النازف من زوجها إثر حرقه، ومشهد آخر يركز على الدم الناتج من ذبح العجل في البيت الذي كانت تعمل فيه، فتكرار مشاهد الدم هنا على غرار فيلم “الجسد والروح” للمخرجة “ألديكو إينيدي” الحائز على الدب الذهبي في مهرجان برلين 2017، يوحي بروحها المذبوحة والمنتهكة في حياة قاسية دامية غير آدمية، مما يجعل رؤيتها للدم غير مثيرة لأي شعور داخلها. وبعد ذلك ينتقل ويركز على شاشة التلفزيون التي بها نساء ترقص ليأكد فكرة التحرر من السلطة الذكورية، وإعلان وجودها.
كان اختيار المقاطع الموسيقية موفقًا جدًا خاصة في المشهد الذي تتخلص فيه من زوجها، ومقطع موسيقي آخر لأغنية “تملي معاك” لعمرو دياب وهي تجلس أمام ولداها وهما يلعبان، لتضفي موسيقى ناعمة في أقل من دقيقة وتبرز مشاعرها كأم. حافظ الفيلم على تحرره من الزمن؛ ليدع فكرة السلطة الذكورية غير محدودة بزمان معين.
وساعدت الإضاءة في الحفاظ على ضرورة وجود صورته كأب، وذلك عن طريق المفارقة التي أحداثها المخرج من خلال الإضاءة، ففي بداية أحداث الفيلم يظهر الأب وسط ولديه، وهم يجلسون أمام التلفزيون، تحت إضاءة متوهجة تعكس مشاعر الدفء والأمان لدى الولدين، صادرًا من التلفزيون موسيقى كرتون “توم وجيري”، مؤكدًا بذلك مشاعر الأمان لديهما، وفي نهاية أحداث الفيلم بعد أن يعود لهم محروقًا يكرر نفس المشهد ونفس صوت الموسيقة الكرتونية الصادرة من التلفزيون، لكن بإضاءة عامة منخفضة يعكس من خلالها التأثير الدرامي للحالة المأسوية التي يعيشونها، فالأب في حالة يرثى لها جسد هامد منكس رأسه وهنا يعرض مفارقة من خلال وضع الجسد ففي السابق الزوجة هي التي كانت تجلس على الطعام في هذا الوضع وهي منكسة رأسها، أما في هذا المشهد تتمد يدها له، وهي تحاول زج الطعام في فمه. والمحافظة هنا على بقاء نفس صوت الموسيقى الكرتونية؛ ليؤكد على فكرة وجود الأمان في وجود الأب حتى وإن كان وجوده هامشي غير فعال، ومفارقة أخرى ينهي بها أحداث الفيلم في مشهد تجلس هي وأولادها يأكلون البيتزا الجاهزة أمام التلفزيون، موضحة الكاميرا وجهها بخلاف المشهد الذي كانت تأكل فيه مع زوجها “البتنجان”. وينتهي الفيلم على هذا المشهد دون أي تفصيلة عن كيف تخلصت من جثة زوجها، وهنا يحدث الفيلم صدمة في قلب المجتمع الذكوري ويهدد من سلطته وقمعه تجاه الأنثى، وبذلك يكون الفيلم قد نجح بشكل قوي في إيصال فكرته سواء بوعي أو عن غير وعي من المتلقي، مما يجعل أي شخص متمسك بفكرة بقاء المجتمع الذكوري وانتهاك وجود المرأة، يثور ويغضب تجاهه!
كان يمكن للفيلم أن يصبح أكثر تعبيرًا وسلاسة، لكنه أوغل في التفاصيل، والإشارات فكان حشوًا زائدًا عن حاجة الفيلم والتعبير عن فكرته، مما جعله أكثر تعقيدًا، كأنه يؤكد للمتفرج في كل مشهد بأن لدي ما أقوله لك، وهو يجبره بذلك على أن يشحذ ذهنه وفكره في كل تفاصيل الكاميرا، عن نفسي أحببت ما قالته الكاميرا، فمثلًا مشهد شرائها علاجه من الصيدلية، والتركيز على الشعار الباهت على باب الصيدلية الذي كان يعني حالته العلاجية البائسة، لكن كثرة التركيز على هذه التفاصيل من خلال الكاميرا ترهق المتفرج، وتشعره بالملل أحيانًا.