الدكتورة أماني فؤاد تكتب : الخالق الذي احترم الفردانية

أرهبونا كثيراً بقولهم: لستم أهل علم أو اختصاص، وكأننا بلا عقول تستطيع أن تفكر وتزن ما يُطرح أمامها ويُستجد، كأننا لا نستطيع تمييز ما يقبله المنطق أو يرفضه، أو كشف التوجهات التي كانت وراء مقولات كثيرة وُضعت قديماً وفسرت بحسب غايات بعينها: سياسية، واجتماعية، واقتصادية. وكأنه ليس هناك علوم سوى علومهم الموروثة، وعقولهم محدودة المصادر العلمية، وطريقة الإعداد والبحث. كأننا لا نعيش لحظتنا الزمنية في نهايات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، نحيا الآن في مظلة العلوم التي تراكمت وأوجدتها مجموعة من المناهج الفكرية والنظريات الفلسفية والعلمية التي اشتغل عليها علماء العالم بحضاراته وثقافاته، هؤلاء الذين اتفقوا وتعارفوا أيضا على مجموعة من المبادئ والقوانين الحاكمة الخاصة بحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والأطفال، هذه المواثيق التي أصبحت منتج الحضارة البشرية التي لا يختلف عليها عاقل. كأننا أيضاً لا نملك الفطرة السليمة التي تمكننا من تمييز الغث من السمين!!

لماذا يتم بإصرار متعمد منذ القدم شن الحروب على عمل العقل العربي وقدرته على الاجتهاد والتطوير، لصبه في قالب محدود التعليم والحريات!؟ إن التحرر العقلي والتفكير المتجدد الذي يناقش موروثه ويخلصه مما أُقحم به لغايات، أو صار لا يتسق مع التطور الزمني، يعد لصالح الدين وليس لهدمه ولا لتقويضه بالمعنى الذي يتصوره كهنة الدين وفاشيتهم.

تحض آيات الإسلام والأحاديث على إعمال العقل والتفكر ويستشهد الفقهاء بالكثير من هذه الآيات والأحاديث في خطاباتهم، لكنهم لا يقبلون سوى بالعقل الذي يقف في حدود النصوص وتأويل السلف لها، وحين يجتهد أي إنسان برأيه ويخالف ما وضعه الفقهاء من السلف تقوم قيامة المؤسسة الدينية مجتمعة، وسطية، أو متطرفة، وتتحد جهودهم، ويواجهونه بكل العنف؛ لأنه أعمل عقله واقترب من هيكلهم الذي شيدوه منذ القدم وفيه يشتغلون على اجترار الماضي الذي يبرر وجودهم، فمنه يحصلون على مكاسبهم ومكانتهم، كما أنه من خلال تدخل فتاويهم في كل كبيرة وصغيرة في الحياة يشلون العقل الفاعل اليقظ لدي الجموع.

اشعر بالأسف والهوان كثيراً حين استمع لبعض البرامج التي يتصل فيها الأفراد ليسألوا الشيوخ عن كثير من الأمور الحياتية البسيطة، وأُذهل كيف أوصل القائمون على السلطة السياسية ورعاة الثقافة العربية الإسلامية عقول البشر لهذا الخمول والانسحاق، وعدم القدرة على الثقة في عقولهم، بل توكيل الآخرين عنهم في أدق شؤون حياتهم؟ أيها السادة الفقهاء والشيوخ والدعاة، العلم لم يعد يقتصر على علومكم فقط، أكرر مرة أخرى أن الدين طبقة من أوليات طبقات المعارف البشرية تلتها الفلسفات والعلوم، وأنه من الواجب لئلا نندثر أن نعي أننا يجب أن نبني فوقه علومنا مستعينين بالجانب الأخلاقي منه الذي لا تختلف عليه كل الحضارات البشرية.

لماذا تبدو أيضا طريقة الشيوخ المدافعين عن الدين عدوانية وغير لائقة، تسفّه وتكفّر وتجرّح من يختلف معهم، كما أنهم يعطون لأنفسهم حق التعدي اللفظي والبدني أحياناً فيرهبون به من يناقشهم، بالإضافة إلى الإرهاب الذي يضاف من إهدارهم لدم المختلف، الفتاوى التي يصدقها البسطاء وينفذونها لو أنها صدرت من شيوخهم بحق أحد الأشخاص. وبالرغم من أن النص القرآني يقول “وجادلهم بالتي هي أحسن” إلا أنهم يستميتون في الإساءة إلى من يحاورهم حتى ولو كان منهم وتكفيره، بلا نقاش في جوهر المسألة ذاتها، وهنا يشعر المراقب لتلك الطريقة أنهم يخشون من تداعي ما يقولونه، بل يشعرون بهشاشته أحيانا وأنه لا يصمد أمام حوار عقلي موضوعي متحضر، فيعملون بالمثل القائل “خدوهم بالصوت لا يغلبوكم”، أو أنّهم ينتمون لطبقة من البشر لا تعرف الطريقة الراقية والعلمية للحوار.

حين يحارب الشيوخ كل من يبحث ويرصد المواقف لفهم الصحابة ووقائعهم التاريخية وتكوينهم النفسي وحقيقة أهدافهم، أو من ينكر مضمون بعض الأحاديث، لاستحالة أن تكون قد صدرت عن الرسول من وجهة نظره، فإنّهم يحاربون ويتصدون لمن يمسس مصالحهم، ويقوض مقولاتهم التي منها يعيشون وينعمون بمكانتهم التي تكتسب قداسات وهمية، فيتهمون الذي أعمل العقل بأنّه يريد أن يشوه الصحابة، وأنه يرفض ما جاء على لسانهم من أحاديث، ليمهد لإلغاء التفسير الذي اتخذ قالبا لا يتجاوزه بحسب فهم السلف، فيصبح النص القرآني بهذا نصاً حيويا قابلا للتأويل، و يمكن أن يفسر من منظور أي فرد، نصاً مرناً يمكن الالتفاف حوله وفهمه ، وتصبح خشيتهم تلك كأنّهم يقولون بأن القرآن نص تفكيكي يمكن لآياته أن تهب المعنى ونقيضه في الوقت ذاته.

علينا جميعا أن نعمل عقولنا ونعيد تأويل نصوص موروثاتنا وفق معطيات العصر الذي نحياه، وتلك مهمة كل فرد يمتلك عقلا، كما أنه تكليف من رب هذا الخلق الذي احترم فردانيتنا واختياراتنا، فخالق العقل وإمكاناته لابد وأنه أراد أن يفعله لا أن يفكر له آخرون بالوكالة، وحين سيأتي وقت الحساب يقول اهتل تعال:” ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار