فريد زهران يكتب.. قراءة جديدة في إجابات قديمة

يضم موقع السلطة الرابعة، عددًا من قادة الفكر والسياسيين المؤثرين على الساحة السياسية، ومن أبرزهم الكاتب الكبير فريد زهران، رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وننشر فى هذا الملف أبرز 7 مقالات تم نشرها مسبقًا، والتى تتصل بالعديد من الأحداث السياسية المحلية والدولية.

قراءة جديدة في إجابات قديمة (1)

كتبت هذه الورقة في أواخر 2014، وهي إعادة قراءة، أو بالأحرى كتابة لجُزءٍ كبير من ورقة كتبتُها وتَمَّ تَداوُلها في منتصف فبراير 2011 والثورة لا تزال في الميدان، وأعيد هنا نشر هذا الجزء لأنني أعتقد أنه لا يزال صالِحًا ومُفيدًا حتى هذه اللحظة، ويحمل إجابة على كثير من الأسئلة المثارة من 25 يناير وحتى الآن، وفيما يلي الحلقة الأولى من هذه الورقة.

مدخل:
بعد اندلاع ثورة 25 يناير ببضعة أيام بدا واضحًا لكل السياسيين الثوريين، ذوي الخبرة، الذين شاركوا في الثورة منذ اليوم الأول، أو بالأحرى الذين شاركوا في التحضير لها عبر سنوات طويلة من النضال، أن القوى الثورية مبعثرة ومُفتَّتة، إذ لم تتمكَّن هذه القوى، في ظلِّ استبداد نظام مبارك، وتصفية الحياة السياسية، وتراجُع المدِّ الثوري، والزَّخم الجماهيري، من تنظيم صفوفها وبَلْوَرة خطابها السياسي، ومن ثَمَّ تحرَّكَت الكوادر السياسية الثورية بسرعة من أجل محاولة بناء قوى سياسية مُنظَّمة وقادرة على الاضطلاع بقيادة هذه الموجة الثورية من خلال التلاحُم معها والانخراط في مقدِّمة صفوفها.
ولا أبالغ إذا قلت إنني كنتُ من أشدِّ المهتمِّين ببناء حزب سياسي بمجرد اندلاع الثورة؛ لعدَّة أسباب، أهمها: أنني كنتُ أدرك -وبعمق، وقبل ٢٥ يناير بعدَّة سنوات- أن انفجار الشارع هو أمرٌ آتٍ لا ريب فيه، وأن هذا الانفجار قد يفاجئ الجميع، وعلى القوى الثورية أن تكون مستعدَّة، ولو من خلال تنظيم صغير لكنه يملك رؤية ثورية قادرة على التلاحم بالانفجار القادم وموجاته الثورية، بالذات وأن الإخوان، وما يمثِّلونه من خطر بناء دولة استبدادية دينية شبه فاشية، قد أصبحوا القوى المنظَّمة الرئيسية التي تَعاظَم نُموُّها وازدهارها في مصر في عصر مبارك.
من بين أسباب اهتمامي المبكِّر ببناء حزب سياسي أنني تنبَّأتُ -شأن العشرات من الكوادر السياسية الثورية- بقُرب وقوع هذا الانفجار، أو هذه الثورة، قبل اندلاعها ربما ببضعة أسابيع أو شهور، ومن بين الاستعدادات التي طالَبتُ بها على الدوام مع الأصدقاء والزملاء القريبين مني إنسانيًّا وسياسيًّا هو أن نحافظ على تماسُك المجموعة التي قُمنا بتأسيسها في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة تحت اسم الحزب الديمقراطي الاجتماعي “تحت التأسيس”، وهي المجموعة التي أسَّسَت لوجود الديمقراطية الاجتماعية في مصر، وقدَّمَت محاولة مهمَّة لتجديد الخطاب اليساري، ولم يكن الحفاظ على هذا التماسُك الفكري والسياسي والتنظيمي لهذه المجموعة أمرًا سهلًا في ظل ظروف الاستبداد السياسي والإحباط العام، حتى إننا واجهنا -وقبل ثورة 25 يناير- أزمةً كبيرة عندما قام عددٌ من زملائنا في هذه المجموعة الصغيرة بالدعوة إلى حَلِّها لأنها غير فاعِلة، وأذكر أنني في الاجتماع الذي ناقشنا فيه فكرة الزملاء أكَّدتُ مِرارًا وتكرارًا أن ما تعانيه هذه المجموعة من أزمة هو نتيجة انحسار الزَّخَم الجماهيري بصفة عامَّة، واستقرار الاستبداد السياسي، ولا يعود إلى عيوب أو مثالب تتعلَّق بصحة خطابنا أو توجُّهاتنا، وأن ما نعانيه من عزلة هو حال كل القوى السياسية الثورية وغير الثورية، وليس حالنا فقط، وأن الانفجار القادم ومدى قدرة هذه المجموعة أو تلك على التلاحُم مع هذا الانفجار وموجاته الثورية سيكون هو الاختبار الحقيقي لصِحَّة توجُّهات كل القوى السياسية على اختلافها، لكنني -بكل أسف- لم أستطع إقناع هؤلاء الزملاء بالاستمرار، لكن على الرغم من ذلك استمرَّت مجموعة صغيرة من الكوادر تحت نفس اللافتة: الحزب الديمقراطي الاجتماعي “تحت التأسيس”.
وعندما اندلَعَت الثورة بدأت الحوارات والاتصالات بين كوادر هذه المجموعة تزداد سخونة، واتَّسعَت هذه الحوارات والاتصالات بالتدريج لتشمل أطراف المجموعة وأصدقائها والذين خرجوا منها، وإلى جوار هذه الحوارات والاتصالات التي كانت تستهدف بناء حزب سياسي، وبشكلٍ مُوازٍ، وفي قلب ميدان التحرير، كانت هذه المجموعة تحاول أن ترفع بعض الشعارات أو تُبَلوِر بعض المواقف، وانتهت هذه الحوارات في ظل النضال اليومي في الميدان إلى إعادة بلورة المجموعة التي اتَّسَعَت وتماسَكَت وبدأت اتصالها بمجموعات أخرى، حتى انتهى الأمر أخيرًا، وفي 18/3/2011، إلى اجتماع واسع بنقابة الصحفيِّين -حضَرَهُ المئاتُ- للإعلان عن تأسيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي.
في هذه الفترة، وبالتحديد في منتصف فبراير 2011، والثورة لا زالت في الميدان، كتبت تحت عنوان “اللحظة السياسية الراهنة والمهام العاجلة” ورقةً كان يفترض أنها ستُقدَّم كـ”مسودة للجنة التحضيرية للاجتماع التأسيسي لـحركة التغيير الاجتماعي الديموقراطي”، حيث أفضى اجتماع هذه الحركة إلى اتساع مجموعة الحزب الديمقراطي الاجتماعي “تحت التأسيس” قبل نهاية فبراير، وهو ما ساعدنا على أن نلعب بعد ذلك دورًا مهمًّا في الاتصال بأطراف ومجموعات مختلفة قامت بالتحضير والمشاركة في اجتماع نقابة الصحفيين الذي أشرنا إليه.
تناوَلَت الورقة -التي قُمت بإعدادها في ذلك الوقت، وتمَّ تداوُلها على نطاق ضيِّق- اللحظةَ السياسية الراهنة والمهام العاجلة، من خلال تقديم مجموعة من الإجابات على مجموعة من الأسئلة لم يَرِد الكثير منها، في ذلك الوقت، بكل أسف، على ذهن أحد، ولكنني تعمَّدتُ طرحها لأسبابٍ لن تخفى على فطنة القارئ عندما نُعيد قراءتها الآن، وقد بدأت الورقة محاولة قراءة الثورة القائمة على الأرض من خلال قراءة الثورات التي عرفها العالم وعرفتها مصر من قبل، وهكذا أعلَنَت الورقة “أن البشرية عرفت ثورات كبرى في مسارات تطوُّرها، وكان من بين أهم هذه الثورات: الثورة الفرنسية والروسية والإيرانية، وعرفت مصر-شأن كل بلدان الدنيا- ثوراتٍ كبرى شعبيَّةً شارك في فعاليتها مئات الآلاف، بل والملايين من المصريين في العصر الحديث، وعلى مدى مائة وثلاثين عامًا المنصرمة، أول هذه الثورات كانت الثورة العرابية، والثانية ثورة 1919، والثالثة حركة الطلبة والعُمَّال في 1946، والرابعة انتفاضة 18 و19 يناير، والخامسة «ثورة الشباب» في 2011″، واختتمت هذه الفقرة الافتتاحية أن “التأمُّل في مقدِّمات ووقائع ونتائج هذه الثورات المتتالية، وبالذات ثورة 2011، يثير عدَّة تساؤلات مهمَّة قد تساعد الإجابة عليها في بناء تصوُّراتنا حول المرحلة المقبلة”.
سنحاول في مقالات قادمة أن نتعرَّض لهذه التساؤلات وننشر، لأول مرة، الإجابات التي تَقدَّمنا بها؛ لأننا نعتقد أن هذه التساؤلات لا زالت مطروحة، ولا زالت الإجابات التي تقدَّمنا بها، والثورة لا زالت في الميدان، صالِحة، ومفيدة، ومن الضروري أن نستعرضها الآن لكي يعرف الجميع على أيِّ أرضٍ كُنَّا نقف، وعلى أيِّ أرضٍ كان يقف البعض الآخر من أعداء الثورة الذين حاولوا ركوب الموجة، وكلهم أملٌ أن تنتهي وقد عاد بنا الزمن الى الوراء، إلى عصر مبارك، عصر ثنائية الدولة والاخوان، وكأن القوى الثورية والديمقراطية لم تنجح في إسقاط الإخوان مثلما أسقَطَت مبارك، وهي بإذن الله قادرة على إسقاط أي نظام استبدادي طال الوقت أو قَصُر.

قراءة جديدة في إجابات قديمة (٢)

هل من المقرَّر أن تُفضي بنا الثورة إلى جنَّة على الأرض؟!
والثورة -ثورة ٢٥ يناير- ما زالت في عنفوانها، ونحن في الأسبوع الثاني أو الثالث من فبراير ٢٠١١، بدا واضحًا أن أغلب المشاركين داخل ميدان التحرير لم يكن لديهم أهداف مُحدَّدة أو خطة واضحة، ولم يكن لديهم أيضًا أهداف موحَّدة أو خطة مُوحَّدة، والأهم ممَّا تَقدَّم أن أغلبهم كانوا يحاولون تحقيق كل أحلامهم، ولا نقول أهدافهم فحسب، وكأن الثورة يفترض بها أن تُحقِّق الجنَّة على الأرض، وهذه الجنَّة كانت عند كل اتجاه من الاتجاهات المشارِكة -أو حتى ربما عند كل شخص مُشارِك- مختلفة عن جنة الاتجاهات الأخرى، أو الأشخاص الآخرين، ولأن الثورة لم يكن لها قيادة واحدة لها خبرات سياسية، ولأن أغلب المشاركين كانوا من الشباب المتحمِّسين، والمتطلِّعين، وذوي الأحلام العريضة، والآمال الكبيرة؛ فإن هذه الرغبة العارمة في استحضار الجنَّة على الأرض استحوذت على مشاعر الميدان، ومن ثَمَّ ارتفع سقف المطالب إلى عنان السماء؛ ممَّا أثار قلقي البالغ في هذا التوقيت المبكِّر؛ ولذلك طرَحتُ في الورقة التي كتبتها في ذلك الوقت وحمَلَت عنوان “اللحظة السياسية الراهنة والمَهمَّات العاجِلَة” مجموعةً من الأسئلة، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون أول هذه الأسئلة: “هل من المُقرَّر أن تُفضي بنا الثورة إلى جَنَّةٍ على الأرض؟!”، وجاءت إجاباتنا عن هذا السؤال على النحو التالي: “إن الثورات المصرية والعالمية قد أدَّت -في النهاية- إلى المزيد من العدالة والحرية، ولكنها أبدًا لم تؤدِّ إلى تحقيق جنَّةٍ على الأرض، ومن ثَمَّ فإن الذين ينخرطون في الثَّورات بهدف تحقيق جَنَّة موعودة هم الأشخاص الذين يصيبهم اليأس والإحباط؛ ولذلك على كل الذين شاركوا في ثورة 2011، من الشباب والشيوخ والأطفال، ومن كافَّة القوى السياسية، أن يدركوا بعُمقٍ أننا لسنا في طريقنا إلى الجنَّة، وإنما في طريقنا إلى تحقيق مكاسب وأهداف مُحدَّدة علينا أن نتَّفق عليها ونُحقِّقها على الأرض، ونعتزَّ بتحقيق هذه المكاسب كخطوة على طريق لا نهاية له يهدف إلى تحقيق المزيد والمزيد من الحرية والعدالة، ودعونا هنا نؤكِّد أن الأصوات التي تعالت بعد أيام من اندلاع الثورة تؤكِّد أننا لم نُحقِّق أيًّا من أهدافنا، رغم كل ما كان يتحقق على الأرض بالفعل يوميًّا من إنجازات لم تكن تُشيع -بكل أسف- سوى الإحباط واليأس، وكان علينا، على الدوام، ومنذ الأيام الأولى للثورة، وحتى الآن، أن نؤكِّد لكل المشاركين في الثورة أننا نُحقِّق كل يوم على الأرض إنجازاتٍ كبرى، ونحقق -وحتى الآن- انتصاراتٍ مُدوِّية ونتطلع إلى المزيد، وهذا الخطاب الذي يعطي لكل ذي حقٍّ حَقَّه ويعطي للثورة حقها، معناه -ببساطة- أن ما كان يمكن أن يحدث من توقُّف للعملية الثورية المندفعة سواء بالأمس أو اليوم أو غدًا، وقبل أن نحقق كل ما نصبو إليه، أو بالدقة ما يصبو إليه بعضنا، ليس معناه أننا فشلنا أو أن الثورة لم تحقق أهدافها، وإنما معناه -ببساطة- أننا حقَّقنا بعض الأهداف وسنناضل -عبر آليات العمل السياسي المنظَّم طويل النَّفَس- من أجل تحقيق المزيد من الأهداف”.
قدَّمت هذه الإجابة منذ قرابة أربع سنوات، وبكل أسف أستطيع القول إن الأمور سارت في عكس الاتجاه الذي كنَّا نأمل فيه، حيث اندفع الكثير من المشاركين في الثورة -بالذات من الليبراليين واليساريين والشباب- في رفع سقف المطالب بلا توقُّف، واخترع البعض كلامًا مبتذلًا من نوع “مفروض نشتغل ثورة مش نشتغل سياسة”، وكأن هناك تعارُضًا بين السياسي والثوري، وشَنَّ هذا البعض هجومًا متواصلًا على كلِّ مَن سَوَّلَت له نفسه أن يبني حزبًا، أو يخوض انتخابات، تحت عنوان أنهم باعوا الثورة، ودفع هذا البعض الناس دفعًا، وبالذات الشباب الحالم، إلى الإحباط المرَّةَ تلو الأخرى لأن الثورة لم تُحقِّق أي إنجاز، وسيكشف لنا المستقبل أن بعضًا، من هذا البعض كان مدفوعًا بحسن النِّيَّة، أمَّا البعض الآخر فكان يعمل لحساب قوى الثورة المضادة، سواء الإخوان أو الفلول، وكان يهدف إلى دفع قوى الثورة إلى الانقسام والتَّفتُّت والصدام فيما بينها، وقد ارتفع سقف مطالب كل فريق منهم إلى الحدِّ الأقصى؛ فتباعَدَت المسافات فيما بينهم، وكان هذا البعض يهدف أيضًا إلى دفع قوى الثورة أيضًا إلى الإحباط المرة تلو الأخرى نتيجة رفع مطالب مستحيلة التحقيق أو نتيجة التهوين الدائم من أي إنجاز يتحقَّق.
لا أريد أن أدين قوى الثورة، أو بصياغة أخرى: لا أريد أن نظلم أنفسنا، ولكن على الرغم من ذلك، لا بُدَّ أن أُقِرَّ وأعترف أن قوى الثورة لم تتمكَّن من صياغة أهداف مُحدَّدة لكي تُحقِّق هذه الأهداف، ثم تُحدِّد أهدافًا أخرى وتُحقِّقها… وهكذا دواليك، وبدلًا من ذلك ساد المزاج العام داخل القوى الثورية اضطرابٌ وارتباكٌ بعد أن احتلَّ الحالمون والراغبون في تجسيد الجَنَّة على الأرض موقعًا بارزًا في صدارة المشهد، وتقاعس ذوو الخبرة عن ردِّ الأمور إلى نصابها، إلى الأهداف الواقعية الممكِنة تحت وطأة المزايدات والابتزاز، ويمكننا القول إن القوى الثورية كلها الآن تدفع ثمنًا فادحًا نتيجة عددٍ من الأخطاء، لعلَّ واحِدًا من أبرزها هو ترك الأمور للحالمين، سواء كانوا حَسَني النِّيَّة أم مشبوهين.
أخيرًا… ينبغي أن نؤكِّد هنا على ما أكَّدنا عليه منذ قرابة أربع سنوات: “أن الذين ينخرطون في الثورات بهدف تحقيق جنَّة موعودة هم الأشخاص الذين يصيبهم اليأس والإحباط”، ولعلَّ ذلك يُفسِّر الكثير ممَّا نراه الآن.

قراءة جديدة في إجابات قديمة (3)

هل تحدث الثورات فجأة بدون مُقدِّمات أو بشائر أو تمهيد؟
بعد ثورة 25 يناير ببضعة أيام أدرَكَت كلُّ أطراف العملية السياسية في مصر -بما فيها قوى الثورة المضادة، على اختلافها- أن نظام مبارك قد سقط، ومن ثَمَّ شرعت رموز وقيادات هذه القوى، ومن كافة المجالات، في تغيير تكتيكاتها من الهجوم على الثورة إلى محاولة استيعابها واحتوائها، وكان أبرز التكتيكات التي اتُّخِذَت، في هذا الصدد، محاولة الفصل بين هذه اللحظة الثورية المتفجِّرة وبين أي تاريخ سابق عليها، والإصرار على وصف هذا الانفجار الشعبي الهائل بأنه انفجار تلقائي بريء من أي تحضير، وليس له أي جذور أو تراث، وهذا الانفجار، بهذا المعنى، أصبح عند رموز الثورة المضادة أقربَ ما يكون إلى نَبتٍ شيطاني ظهر فجأة بدون أي مقدِّمات أو تمهيد، وبات كلُّ مَن يحاول أن يربط نفسه بهذا الانفجار، أو بالأحرى هذه الثورة، هو “مُدَّعٍ” أو “مُندس” أو “صاحب أچندة”، وكأن الثورة لم تشهد مشاركة الآلاف من قيادات ورموز المعارضة الديمقراطية، أو كأن وجود “أچندة” أو أهداف أو خطط أو برامج لأي قوى مشاركة في الثورة هي تهمة في حدِّ ذاتها لأن الثورة بريئة من أن تكون لها أچندة، والجموع التي شارَكَت في هذه الثورة هي مجرد “قطيع” هائج من الساخطين الذين يتميَّزون بالسذاجة و”العَبَط”، إلى درجة أن كل أجهزة المخابرات في العالم، بما فيها جهاز المخابرات القطري، من الممكن أن تخدع، أو “تضحك على”، أو تُضلِّل هذه الجموع، ما لم يتطوَّع -و”عن طيب خاطر”- قادة ورموز قوى أجهزة الأمن ورجال الحزب الحاكم “من زمان جدًّا”، أو بالأحرى قادة ورموز قوى الثورة المضادة، لكي يضعوا لهذه الثورة، أو لهذا القطيع الهائج، أچندتها، حيث تفترض هذه القوى، التي تفهم الأمور التي لا يفهمها القطيع، أن الناس انفجرت لهذا السبب أو ذاك، بصرف النظر عمَّا تعلنه قيادات هذه الثورة نفسها من مَطالِب لأنها قيادات، وكما ذكرنا من قبل، “مُندسَّة”!.
وفي هذه اللحظات بالتحديد، وفي منتصف فبراير 2011 والثورة ما زالت في الميدان، أدركنا هذه التكتيكات مبكِّرًا وطرحنا السؤال التالي: “هل تحدث الثورات فجأة بدون مقدِّمات أو بشائر أو تمهيد؟”، وقمنا بالرد على هذا السؤال على النحو التالي: “إن الثَّورات لا تندلع فجأة كما يتصوَّر البعض، بل إنها تندلع كما تندلع العواصف، حيث تتجمَّع بشائرها ونُذُرُها عبر الوقت، ولا تستطيع قراءة هذه النُّذُر سوى العين الخبيرة التي لا يعميها طغيان المصالح والعُزلة والاستبداد، وسنلاحظ جميعًا أن ثورة 1881 سبقتها تَغيُّرات اجتماعية وسياسية مُمتدَّة ما بين عهدَيْ سعيد وإسماعيل، انتهت إلى إملاءاتٍ غربيَّة أضعَفَت الجيش وأذلَّت ضباطه المصريين، ودفعتهم عبر تحرُّكات امتدَّت إلى سنواتٍ إلى تقديم مطالب متنوِّعة تتعلق بالجيش والوطن على السواء، وثورة 1919 هي الأخرى ساهم الحزب الوطني بمرحلتيه (مصطفى كامل ومحمد فريد) في التمهيد لها، أمَّا حركة الطلبة والعُمَّال في 1946 فقد بدت بشائرها مع حركة الطَّلَبة في 1935، والتي عرفت رموزًا مثل الشهيدَيْن عبد الحكم الجراحي وعبد المجيد مرسي، ولم تكن انتفاضة يناير 1977 استثناءً من ذلك؛ فقد سبقتها مظاهرات وانتفاضات طُلَّابيَّة وعُمَّاليَّة متتالية في 1968 و1971 – 1972، 1973، 1975، وأخيرًا فإن ثورة 2011 هي الأخرى لم تكن استثناءً؛ فقد مَهَّد لها الطريقَ حَركاتُ الاحتجاج التي بدأت مع اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة، ثم الحملة الشعبية للتغيير (الحرية الآن) وحركة كفاية، وهي التحركات والحركات التي قامت بها النُّخَب والقوى السياسية لدفع الناس إلى الاحتجاج في الشوارع، وقد تطوَّرَت حركة الاحتجاج بعد التغيُّرات الدستورية في 2005 عندما انضمَّت إليها مجموعات شبابية، بمشاركة من الشباب الليبرالي واليساري، مثل مجموعة “كلنا خالد سعيد” وغيرها. وقد ضَخَّت هذه المجموعات في عروق هذه الموجة الاحتجاجية دماءً جديدة، وتواكب مع كل ذلك، وزاده ثراءً وثقلًا، مَوجةُ الاحتجاجات الاجتماعية التي اندلعت في المصانع ومواقع العمل، لم يكن هناك بالتأكيد أدِلَّة قاطعة على أن هناك ثورة ستندلع يوم 25 يناير بالتحديد، لكننا نستطيع القول -وبكل تأكيد- إن نُذُرَ الثورة كانت تتجمَّع، وأن الكثير من المراقبين كانوا يؤكِّدون بالفعل على أنها ستندلع بين يوم وآخر، أو بين شهر وآخر، وبالذات بعد الاعتداء الإجرامي على كنيسة القدِّيسين، في ظلِّ غيابٍ أمني مُريب، وعقب وقائع انتخابات مجلس الشعب في 2010 التي أطلقت فيها أجهزة الحُكم قوى المال والعنف والقهر الأمني والإداري لكي تحسم المعركة في ظل غياب -أو بالأحرى في ظل مُصادَرَة- الحياة السياسية والعمل السياسي.
ويمكننا القول الآن -تعليقًا على ما كتبناه في منتصف فبراير ٢٠١١، وبعد مُضيِّ قرابة الأربعة أعوام على اندلاع ثورة 25 يناير- إن هذا التكتيك، الذي اتَّبَعته قوى الثورة المضادَّة، في محاولة تفريغ الثورة من شعاراتها وتوجُّهاتها، وحرمانها من قيادتها، قد نجح -بكل أسف- إلى حدٍّ كبير؛ لعدَّة أسباب، ربما من أبرزها ارتباك قيادات ثورة 25 يناير وتخبُّطهم وارتكابهم عدَّة أخطاء في تحرُّكاتهم اليومية، وهو الأمر الذي بدا واضحًا من خلال عدم نجاح الثورة، أو بالأحرى عدم نجاح هذه القيادات، في بلورة قيادة مُوحَّدة وأهداف مُحدَّدة وخطة واضحة، وهو الأمر الذي ساعد قوى الثورة المضادَّة على أن تكيل السباب والاتهامات الباطلة لهذه القيادات، بالذات بعد أن نجحت هذه القوى في تحميل هذه القيادات مسؤولية الفشل في تحقيق أهداف الثورة، وهكذا تصاعَدَت حملة السباب والاتهامات على نحوٍ تدريجيٍّ ينسجم مع تزايُد عُزلَة هذه القيادات، الذي تَزايَدَ هو الآخر تدريجيًّا لأسباب متنوِّعة، كان من بينها هذا التكتيك نفسه الذي أشرنا إليه هنا.

قراءة جديدة في إجابات قديمة (٤)

كيف نقرأ دور الشباب في الثورات؟
كان من بين الأمور المهمَّة جدًّا التي لفَتَت نظري مُبكِّرًا أن قوى الدولة القديمة، أو بتعبيرات أخرى: قوى الثورة المضادة، وبالتحديد بعد أيام قليلة من اندلاع الثورة، ومن خلال أجهزة الإعلام الرسمية التي كانت لا تزال تسيطر عليها بالكامل، راحت تشنُّ حملة منظَّمة تؤكِّد على: أوَّلًا: أن الثورة قام بها الشباب والشباب وحده، وثانيًا: أن هذا الشباب لا علاقة له بأي قوى أو شخصيات سياسية، وأن هذه القوى والشخصيات تحاول استغلال الشباب، وثالثًا: أن هذا الشباب ليس له أچندة، وهو ما يعني أنه ليست له مَطالِبُ أو رؤية أو أهداف، ومن خلال هذا المدخل بدأت قوى الدولة القديمة تحاول احتواء هذا الشباب بعد أن “تَخَّنِت مُخُّه” ووضعت حاجِزًا مفتَعَلًا من الشَّكِّ وعدم الثقة بينه وبين الأجيال الأكبر سِنًّا، وكذا القوى السياسية، ودفَعَته دَفعًا إلى إنكار علاقته بالسياسة باعتبار ذلك أمرًا حَسَنًا ومحمودًا، وبدأت محاولات الاحتواء بدعوة الحوار التي وجَّهها عمر سليمان للشباب، ثم باللقاءات والصفقات المتكرِّرة بعد ذلك بين بعض كبار المسؤولين وبعض الشباب، وتُوِّجَت هذه اللقاءات والصفقات بتوظيف -ومن ثَمَّ إفساد- عدد كبير من الشباب في مشروعات وخطط قوى الثورة المضادة، وهكذا انتهى الأمر ومعظم الشباب قد تمَّ إفسادهم أو إحباطهم نتيجة عدم قدرتهم وحدهم على تحويل أحلامهم إلى إستراتيچيات وتكتيكات قابِلة للتطبيق؛ لأنهم ببساطة لم يكن لهم ارتباط بذوي الخبرة السياسية، وأيضًا لم يبنوا لأنفسهم رؤية سياسية، بل بعضهم بدا وكأنه فخور بجهله وسطحيَّته.
كانت المؤامرة على الشباب واضِحة ًأمامي منذ الأسبوع الأول من فبراير ٢٠١١؛ ولذلك طرَحتُ في ذلك الوقت في الورقة التي حملت عنوان “اللحظة السياسية الراهنة” السؤال التالي: “كيف نقرأ دور الشباب في الثورات؟”، وقدَّمتُ الإجابة التالية: “كل الثورات التي عرفتها مصر كان بعضٌ مِن أبرز قادَتِها -فضلًا عن كل وقودها- هم الشباب، وهذا أمرٌ طبيعي؛ فالمظاهرات والمواجهات مع قوات الأمن ومعارك الشوارع هي كلُّها أمور لا يستطيع تحمُّلها -بشكل أساسي- سوى الشباب، والأفكار الجديدة والمبادرات الإبداعية وروح المبادَأة هي الأخرى أمورٌ لا يضطلع بها سوى الشباب؛ ولذلك لم يكن صُدفَةً أن أغلب شهداء الثورات هم من الشباب، وليس صُدفةً أن اللجنة الوطنية للطلبة والعُمَّال التي قادت انتفاضة 1946 كان أغلبها طلابًا وشبابًا نقابيِّين، وعندما حمَّلَت الأجهزة الأمنية مسؤولية انتفاضة يناير 1977 إلى 176 مُتَّهمًا كان أكثر من 80% منهم شباب لا يتجاوز متوسط أعمارهم 25 سنة، فى يناير 1977، وبناءً على كل ما تقدَّم فإننا لم نُرحِّب كثيرًا بالخطاب الرسمي، الذي تَلوَّن بفعل محاولات الالتفاف وركوب الموجة، وراح يغازل الشباب، مؤكِّدًا على أنها ثورة شباب لا ينتمون لأي فكر أو حزب سياسي، بل وذهب هذا الخطاب إلى أن الشباب خرجوا بثورتهم -التي فاجَأَت الجميع- فى مواجهة القديم، الذي يشمل ضمن ما يشمل: الأحزابَ والقوى السياسية والفكرية… إلخ. نحن على يقينٍ من أن هذا الخطاب -حتى لو كان بعض الذين يُردِّدون بعضَ مُفرَداته حَسَني النِّيَّة- يهدر أوَّلًا كُلَّ النِّضالات التي قام بها الشعب المصري على مدى تاريخه الحديث بصفة عامَّة، ويهدر على نحو خاصٍّ نضالات القوى والنُّخَب في الفترة من 2002 وحتى 2011، وهي نضالاتٌ قَدَّمَت فيها هذه النُّخَب تضحيات جسيمة في ظل الاستبداد والقهر الذي عاشته هذه القوى والنخب ما قبل 25 يناير، ويحاول هذا الخطاب أن يقطع ما بين الشباب وما بين هذه النُّخَب التي قدَّمَت للشباب النموذج الاحتجاجي، جنبًا إلى جنبٍ مع ترسانة من الأفكار التَّقدُّمية والليبرالية من خلال هامش ديمقراطي انتزعته هذه النُّخَب والقوى عندما تمَكَّنَت من إصدار صُحفٍ مُستقلَّة (مثل المصري اليوم، والبديل… وغيرهما)، وهذا الخطاب يهين الشباب أصلًا عندما يعتبرهم “أبيض يا ورد”؛ لأن الكثير من هؤلاء الشباب الذين قدَّموا مساهمات قيادية في هذه الثورة ينتمون فكريًّا -وسياسيًّا أيضًا في كثير من الأحيان- إلى تيارات ليبرالية ويسارية، فضلًا عن انتماء كثير من شباب التحرير إلى الإخوان المسلمين.
ما نَودُّ أن نقوله باختصار هو أن هذه الثورة فجَّرها وساهم في قيادتها الشباب، لكنَّ أغلب فئات الشعب وكذا أشخاص من مراحل عمرية مختلفة قد شاركوا فيها، والأهم أن كل القوى السياسية المعارضة شارَكَت أيضًا في كل فعاليتها بدرجات مختلفة، وكلٌّ على قدر طاقته وكفاحه، والأهم من كل ما تقدَّم أن عددًا كبيرًا من الشباب الذي أشعل فتيل الثورة ينتمي بعضهم إلى تيارات فكرية وسياسية مختلفة، فيما يتبنَّى نسبة كبيرة منهم أفكارًا إصلاحية وديمقراطية عامة، ومن المفترض، ولمصلحة تحقيق أهداف هؤلاء الشباب أنفسهم، أن يبني الشبابُ مستقبَلَهم السياسي على التراث النضالي للشعب المصري، وأن يتواصلوا مع هذا التراث، إمَّا من خلال الانخراط في مؤسسات قائمة ذات تَوَجُّهات سياسية أو ثقافية… إلخ، تجمع بين الشيوخ والشباب، أو من خلال استبعاد الشيوخ دون إهمال قراءة تجاربهم وتضحياتهم السابقة والبناء عليها، وفي كل الأحوال فإن الشباب المنتمين سيكون من السهل عليهم الانخراط في قوى سياسية قائمة أو سيكون لزامًا عليهم أن يبنوا أو يشاركوا في بناء قوى جديدة، أمَّا الذين يتبنون أهداف عامة فسيكون عليهم أن يطوِّروا أفكارهم بحثًا عن موقع على الخريطة السياسية التي يُعاد تشكيلها في خِضَمِّ هذه الثورة.
إن مَهمَّة بناء علاقة بين الشباب والأجيال الأكبر سِنًّا أمر في غاية الأهمية، وإذا اعتبرنا أن الأجيال الأكبر سِنًّا لها خبرة فإن المسؤولية تُلقَى على عاتقهم إذن بشكل أساسي في القيام بهذه المهمة، وهي مَهمَّة لا تحتاج إلى فهم هؤلاء الشباب فقط، بل تحتاج أيضًا إلى تقدير إمكاناتهم ومواهبهم وقدراتهم الواعدة، والثِّقة في أنهم قادرون على احتلال موقع القيادة في عملية التحوُّل الديمقراطي الجارية أو على الأقل المساهمة في هذه العملية بدور قيادي رئيسي، ونجاحنا في ذلك -على صعيد الحزب أو على صعيد الوطن- معناه ببساطة أننا في طريقنا إلى المستقبل الذي يحتاج بالفعل إلى دماء جديدة وأفكار جديدة وأساليب جديدة، ولعلَّ اعتماد الشباب الذين أشعلوا فتيل الثورة على الفيس بوك والإنترنت هو خير دليل على أننا -في ظل هذه المبادرات الخلَّاقة من شباب مُبدِع وقادر على استخدام أدوات العصر- نسير بالفعل، وبفضل إسهام هؤلاء الشباب، في طريق المستقبل.
لن أنسى أن بعض الشباب لم يَرُق لهم عندما اطَّلعوا عليه في الأيام الأولى للثورة، لكنني على يقين من أن مَن تَبقَّى من الشباب داخل حَومَة الوغى ونجا من الإفساد أو الإحباط ويطالع ما كتبتُ في فبراير ٢٠١١ سيفهم أن تخوُّفاتي كانت في موضعها.

قراءة جديدة في إجابات قديمة (5)

من الذي ثار؟ ولماذا؟
الإجابة التي قدَّمتها قوى الثورة المضادة على السؤال الفرعي الوارد في عنوان هذا المقال، هو أن الذي قام بالثورة هم “الشباب النقي” البريء من الانتماء إلى أي حزب أو تيار، الشباب الخالي الذهن من أي أفكار أو تصوُّرات، الشباب الذي يمكن أن يُغرِّر به أي “مُندَسٍّ” أو “مُشَكِّك”؛ ومن ثم فإن هؤلاء الشباب في حاجة لمن يحميهم ويمنع عنهم الاختلاط بمن يمكن أن يُغرِّر بهم، واللافت أن الإعلام كان يُردِّد هذه الأكاذيب بينما كان الميدان يزدحم بالمشاركين من كل الأعمار والفئات الاجتماعية، وفي هذه اللحظات بالتحديد، وفي إطار مناقشة أبعاد اللحظة السياسية الراهنة والمهمات المُلِحَّة، حاولت طرح موقف متكامل لأبعاد هذه اللحظة في صورة مجموعة من الأسئلة والإجابات، وكان من بينها السؤال حول “من الذي ثار؟ ولماذا؟”، وقدَّمتُ الإجابة التالية على هذا السؤال:
“لفت نظر كل المراقبين والمشاركين في ثورة التحرير هذا التَّنوُّع المذهل للمشاركين في الثورة، حيث اصطفَّ الأغنياء إلى جوار الفقراء، والسَّافِرات إلى جوار المُنَقَّبات، والشيوخ إلى جوار الأطفال، والمسلمون إلى جوار المسيحيين، وعرف ميدان التحرير تنوُّعًا اجتماعيًّا وعُمريًّا وثقافيًّا ربما لم تعرفه أي ثورة سابقة، وأعلن كلُّ هؤلاء بصوت هادر وعلى مدى ثمانية عشر يومًا، أن الشعب يريد إسقاط النظام، وكان المعنى الكامن خلف هذا المشهد بسيطًا، فلقد تجمَّع كل هؤلاء المختلفين اجتماعيًّا وثقافيًّا وعُمريًّا ضد القهر، ومن أجل استعادة كرامتهم المُهدَرَة. نعم، كانت ثورة 2011 ضد القهر، ومن أجل الكرامة، بمفهومٍ واسع وشامل ومتعدِّد للغاية؛ ومن ثم كان الشعار هو الآخر عامًّا جدًّا ويهدف إلى إسقاط النظام، وهو المفهوم الشعبي لإسقاط الفرعون، أو شخص رئيس الجمهورية أو الحاكم الظالم، الذي يُجسِّد سبب القهر عند المجموعات الاجتماعية والثقافية والعُمريَّة التي شاركت في الثورة، ولكن ما المقصود بالقهر وإهدار الكرامة؟
القهر قد يكون عند بعض المشاركين من الفقراء، اقتصاديًّا، ويتعلَّق بإفقارهم وإذلالهم تحت وطأة الفقر والفاقة والعَوَز، وقد يكون عند مشاركين آخرين شديدي الثراء هو عدم حصولهم على فُرَص متكافئة في سوق حر مفتوح بعد أن أدَّى القهر إلى إرساء دعائم فساد لا يفاضل -حتى بين الأغنياء العاملين في السوق- على أساسٍ من جودة ما ينتجونه أو ما يُقدِّمونه من خَدماتٍ، وإنما أصبحت معايير المفاضلة بين عطاء وعطاء هي مدى ما يتمتَّع به هذا الطرف أو ذاك من علاقة حسنة بالسُّلطة السياسية ورؤوسها الفاسدة حتى النخاع، والقهر عند نساء غير مُنتَقَبات وغير مُحجَّبات قد يكون فيما يفرضه عليهم المجتمع من حصار وتضييق يَحدُّ من حريتهم في ارتداء ما يرونه مناسبًا من ملابس، والقهر قد يكون عند ملايين المصريين من كافة الفئات يتجسَّد في إحساسهم بالضعف والهَوان جرَّاء اطِّلاعهم على ما يدور حولنا من تطوير وتحديث فيما يزداد تخلُّفنا، ونحن لا نتحدث هنا عن مقارنة أوضاعنا بأوروبا المتقدِّمة فحسب، بل نتحدث أيضاً عمَّا كان يعقده ملايين المصريين من مقارنة بين أوضاع المرور عندنا -مثلًا- وبين أوضاع المرور في دول عربية محيطة بنا لم تكن على الخريطة قبل عدة عقود، ويقينًا فإن إحساس الناس بالمرارة والقهر إزاء مثل هذه المقارنات كان قد وصل إلى ذروته، بالذات وأن الأمر في هذه البلدان لم يكن يخلو من إذلالٍ مُتعمَّد للمصريين، يُذكِّرهم على الدوام بما أصبحوا عليه، ومن ثم فقد أصبحت الأسئلة المكتومة داخل الصدور الملتهبة هي : لماذا لا تصبح مصر بلدًا متقدِّمًا نظيفًا ومنظَّمًا؟ ولماذا لا تتمُّ في مصر انتخاباتٌ نزيهة مثل بلدان العالم؟ ولماذا لا يشعر المواطن بكرامته عندما يتعامل مع الأجهزة الحكومية وبالذات جهاز الشرطة؟ ولماذا لا يكون المصريون جميعًا متساوين أمام القانون مثل بقية بلدان العالم؟ ولماذا لا يكون هناك تكافؤ فرص في الحصول على وظيفة أو عملية مقاولات أو صفقة استيراد وتصدير؟”.
اغلب المصريين شاركوا إذن، ورغم أن دوافعهم و أهدافهم كانت مختلفة، إلَّا أن شعارات الثورة الرئيسية التي ردَّدتها معًا -ونعني بذلك “إسقاط النظام” و”عيش.. حرية.. كرامة إنسانية”- كانتا تعكسان إلى حدٍّ كبير ما كان يمكن اعتباره نقاطًا مُوحَّدة ومشتركة يمكن البناء عليها.
والآن، ونحن نقترب من مرور أربعة أعوام على اندلاع ثورة يناير، إذا حاولنا أن نعيد قراءة ما حدث، من زاوية أخرى، يمكننا أن نضيف إلى القراءة، أو الإجابة السابقة، أن اتساع حجم المشاركين في الثورة، وكذا تنوُّعهم أيضًا، كان من الممكن أن يكون الأساس القوي والمتين الذي يمكن أن تبني عليه قوى الثورة المستقبلَ الواعِدَ الذي كانت تصبو إليه وفقًا للشعارات التي رفعتها: “عيش.. حرية.. كرامة إنسانية”، ولكن، بكل أسف، شاءت الأقدار والظروف، وربما شاءت قوى الثورة المضادة أيضًا، أن يكون هذا التنوُّع والاتساع، أحدَ الأسباب المهمة التي أدَّت إلى عجز القوى المشاركة في الثورة عن بلورة مطالب واضحة، وخطَّة مُحدَّدة، والأهم قيادة موحَّدة، جنبًا إلى جنب، بالطبع، مع الأخطاء المتفرِّقة، والمتنوِّعة، التي ارتكبتها بعض من المجموعات والشخصيات التي شاركت في الثورة وتفاوت أداؤها -بكل أسف- بين التركيز على مطالبها الخاصة وبين رفع سقف المطالب إلى عنان السماء، وهكذا تَفتَّت الميدان طوليًّا وعرضيًّا فيما كانت قوى الثورة المضادة تعيد تنظيم صفوفها وتوحِّد قواها.

قراءة جديدة في إجابات قديمة (6)

ماذا حدث خارج ميدان التحرير؟
أو ماذا عن موجة الاحتجاجات الاجتماعية؟

ثورة 25 يناير لم تكن “انتفاضة خبز” تقليدية مثل انتفاضة يناير 1977، أو انتفاضات الخبر، التي شهدتها عدَّة بلدان عربية، مثل الجزائر أو الأردن؛ فالدوافع الاقتصادية/ الاجتماعية التي ميَّزَت انتفاضات الخبز لم تكن هي الدوافع الرئيسية التي أطلقت الثورة من عقالها، رغم أنها كانت جزءًا من الدوافع المهمة لبعض المشاركين، حيث يمكننا القول إن الأمر الجامع بين كل المشاركين كان رفضَ القهرِ بكل أنواعه وأشكاله، وحتى الذين خرجوا لدوافع اقتصادية / اجتماعية، كان رفضهم للفقر والإفقار هذه المرَّة مُرادِفًا لرفضهم للقهر، شأنهم في ذلك شأن مَن خرج رفضًا للقهر الثقافي أو القهر السياسي… إلخ، والبحث عن الكرامة عند المشاركين المقهورين الفقراء هو ما كان يجمع بينهم وبين الباحثين عن الكرامة لأسباب سياسية أو ثقافية، ولعل هذا ما يفسِّر كيف أن الجوعى والفقراء الذين شاركوا في يناير 2011 لم يخرجوا ردًّا على قرارات اقتصادية مُحدَّدة مثلما حدث في كل انتفاضات الخبز، ولم يخرجوا طلبًا لزيادة ما في الأجور، أو تخفيضًا ما في الأسعار تقيهم شَرَّ الجوع، وإنما خرجوا لأن الفقر قهرهم ونال من كرامتهم، وبصياغة أخرى: لأنهم تعرَّضوا جرَّاء الفقر لقهر اقتصادي، ومن ثم فقد طالبوا بالكرامة الإنسانية أوَّلًا وقبل أي شيء آخر، طالبوا بتحريرهم من هذا القهر الاقتصادي، وبالطبع فإن التحرُّر الاقتصادي من القهر كان يعني، أو ربما بالأحرى يتضمَّن كل ما يمكن أن يقي هؤلاء المقهورين شرَّ هذا القهر، أي يتضمَّن زيادة الأجور، وخفض الأسعار… إلخ.
بسبب هذه الطبيعة -غير التقليدية لثورة 25 يناير- لم يفهم الكثير من المراقبين والمُحلِّلين أسباب هذه الثورة ودوافعها، بل واعتبر بعضهم أن عدم وضوح هذه الأسباب والدوافع هو أمر لا يمكن تفسيره إلا بالبحث والتحرِّي عن مؤامرة أو مؤامرات تفسِّر ما اعتبروه غامضًا وغير مفهوم، ولخَّص البعض الأمر بأن الشباب “عايز يبقى له دور”، بل ووعدوا الشباب بأن يوفِّروا لهم الدور الذي يطلبونه أو يتمنَّونه، وكانت الترجمة العملية لهذه الفكرة عند قوى الثورة المضادة تقضي برشوة بعض القيادات الشبابية وإفسادهم.
دخل الأمر برُمَّته إلى مسار جديد عندما بدأت موجة الاحتجاجات الاجتماعية ترتفع بعد اندلاع الثورة بأسبوعين تقريبًا، وهو ما كان يُنذر بانفجار واسع يعصف بكل أُسُس وأركان النظام، وكانت موجة الاحتجاجات الاجتماعية هي التطوُّر الطبيعي للشرارة التي اندلعت في 25 يناير، أو بصياغة أخرى هي بدايات تبلور برنامج مطلبي مُحدَّد للطبقات الاجتماعية الأكثر فقرًا التي شاركت في الثورة، ومنذ اليوم الأول لبداية موجة الاحتجاجات الاجتماعية بدا واضحًا عداء قوى الثورة المضادة لهذه الموجة التي أطلقت عليها فورًا “تحرُّكات أصحاب المطالب الفئوية”، وهكذا تمَّ وَصمُ هذه الموجة بأنها “مطالب” لـ “أصحاب مصالح فئوية” بينما يقتضي حب الوطن أننا “ما نقولش إيه ادِّيتنا مصر” وإنما نقول “هَنِدِّي إيه لمصر”، وعيب أصلًا أن يكون لنا “مطالب” أو “مصالح” في ظل الظروف الصعبة التي يمرُّ بها الوطن، وكمان لازم المطالب تكون للبلد كلها مش لفئة مُحدَّدة، و”اللَّا احنا عايزين نقسم البلد ؟!”.
كتبت في ذلك الوقت تحت عنوان “اللحظة السياسية الراهنة و تحديد المهام العاجلة”: “بدأت موجة الاحتجاجات الاجتماعية تقريبًا في اليوم الخامس عشر أو السادس عشر للثورة، ونحن نعتقد أن هذه الموجة التي كانت تشي بعصيانٍ مَدَنيٍّ شامل قد تفضي إلى تقويض كلِّ أبنية الدولة ومؤسساتها كانت أحد الأسباب الرئيسية لتنحِّي الرئيس مبارك، ومن ثم فإننا نرفض كل التحليلات التي حاوَلَت التقليل من أهميتها، أو اعتبارها مُقدِّمةً لفوضى أو اعتبرتها ثورة أخرى لها دوافع أخرى وأهداف أخرى؛ فهذه الموجة في التحليل الأخير خرجت هي الأخرى ضد القهر، القهر الاقتصادي المباشر، ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن تندلع في أماكن العمل، ولم تكن هذه الموجة بعيدة عن الشعار الرئيسي: «الشعب يريد إسقاط النظام»، بل هي الأخرى حاوَلَت أن تحصل على مطالب ما بعد إسقاط النظام، وكل التخوُّفات التي ذهبت إلى أن هذه الاحتجاجات قد تؤدِّي إلى انهيار الدولة هي تخوُّفات مشروعة، ومن ثم فإن على الدولة أن تستجيب لهذه الموجة بسرعة، وعبر آليَّاتٍ مختلفة عن الأساليب البطيئة والمتردِّدة التي تَمَّ بها الاستجابة إلى المطالب السياسية، ونعني بالاستجابة هنا تحديدًا: تحقيق المطالب المشروعة مع شفافية كاملة ومفاوضات معلنة تحصر وتحجم وتجهز على ما قيل من وجود مطالب شخصية أو فئوية غير منطقية أو غير عادلة أو غير مشروعة، مثلما هو حال -مثلًا- هؤلاء الذين اعتدوا -في غيبة الدولة- على الأراضي الزراعية وبنوا عليها، فهذا السلوك لا يُعبِّر عن مطلبٍ عادل لبعض الناس انتزعوه في خِضَمِّ العملية الثورية، وإنما يُعبِّر عن جريمة على المجتمع كله، حتى لو حقَّقَت مكاسب لمن قام بها. باختصار: علينا أن نفاوض كلَّ المحتَجِّين ونُلبِّي فورًا كلَّ ما هو عادل من مطالبهم، بدلًا من أن نطلب منهم الانصراف إلى العمل وكأننا نحاول أن نحرمهم من ثمار ثورة شاركوا في صُنعها”.
والآن، يمكننا أن نقول إن الدولة لم تستجب لمطالب الناس الفئوية العادلة، لكن الأمر بدا للحظة وكأن مصر في طريقها إلى توفير آليات ديموقراطية من شأنها أن تسمح بتنفيذ ما هو مُمكِنٌ وعادل من هذه المطالب من خلال آليات التفاوض الاجتماعي التي تستند على توفُّر حقوق التعبير والتنظيم والاحتجاج السِّلمي حيث تمَّ بالفعل، وفي سياق العملية الثورية التي بدأت في 25 يناير، انتزاع هذه الحقوق، لكن التطوُّرات التي حدثت بعد ذلك سحبت هذه الحقوق مرتين: مرة لأنها حرام، ومرة لأننا في حرب ضد الإرهاب، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولكن التاريخ في مصر -بل و في العالم كله- يعلمنا أن عدم توفر آليات التفاوض الاجتماعي قد يكتم الصراع الاجتماعي، لكنه لا يلغيه، أو بصياغة أخرى يعلِّمنا أن: “القمع يؤرِّخ للثورة”.

قراءة جديدة في إجابات قديمة (٧)

ما هو برنامج ثورة ٢٠١١ وما هي الأهداف التي أعلنتها؟

قبل أربعة أعوام تقريبًا، والثورة ما زالت في الميدان تحاول أن تبلور مطالبها وتُحدِّد أهدافها، حاوَلتُ أن أقدِّم صياغة لما اعتبرت أنه لم يحظَ باهتمام كافٍ من أغلب المشاركين في الثورة، وأعني بذلك ما اعتَبَرتُه في ذلك الوقت -وما زلتُ أعتبره- التَّوجُّهات الثقافية للثَّورة، وهي تَوجُّهات لم تتجَلَّ في شعاراتٍ أو مَطالِب، ولكنها تَجَلَّت أساسًا في ممارسات المشاركين أثناء، وداخل، الاعتصام.
في البداية، في بداية انطلاق الثورة، لم يكن هناك سوى حالة عامَّة من الغضب، وهذه الحالة أُطلِقَت في شعار واحد: الشعب يريد إسقاط النظام، و هذه التوجُّه العام للمتظاهرين أخذ مع الوقت، ومع الجهد الذي بذلَته القوى والشخصيات السياسية المشاركة في الثورة، في بلورة مطالب وأهداف محدَّدة، واللافت أن كل هذه المطالب والأهداف لم تخرج عن إطار المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعتادة، والتي طالما طالَبَت بها القوى السياسية الديموقراطية على مدى العقود السابقة، على الرغم من أن هناك شواهد كثيرة كانت تؤكِّد أن هذه الثورة كان لها توجُّهات ثقافية واضحة؛ ولذلك تساءَلتُ، والثورة ما زالت في الميدان، وفي إطار تحليل اللحظة السياسية في ذلك الوقت وتحديد المهام الملِحَّة عن “ما هو برنامج ثورة ٢٠١١، وما هي الأهداف التي أعلنَتها؟”، وقدَّمتُ الإجابة التالية على هذا التساؤل:
“الشِّعار الجامع لثورة 2011 هو إسقاط النظام، والمقصود من هذا الشِّعار عند الجمهور الواسع هو إسقاط الحاكم الظالم حسني مبارك، واختيار حاكم عادل جديد؛ ولذلك فإن الأغلبية الواسعة في ميدان التحرير اعتبرت أن الأمر انتهى مع تنَحِّي مبارك، لكن القوى السياسية الفاعلة في الميدان، نجَحَت، ومن خلال جهود مضنية داخل الميدان وخارجه، وتواصُلًا مع جهود سابقة على 25 يناير ويعود بعضها لعقودٍ خَلَت- في صياغة مجموعة من الأهداف السياسية الرئيسية الواضحة وهي: إقالة مبارك، إلغاء حالة الطوارئ، حل مجلسَيْ الشعب والشورى، إجراء تعديلات دستورية تسمح بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة، وإلى جوار هذه الأهداف ظهرت مطالب أخرى كثيرة تتعلَّق بالحد الأدنى للأجور، وتشكيل حكومة ائتلافية… إلى آخر مجموعة من المطالب الأخرى التي لم تكن في وضوح وقوة المطالب الأربع التي ذكرناها في البداية، واللافت، من وجهة نظرنا، أن هذه المطالب والأهداف الرئيسية والثانوية أيضًا قد تمَّت صياغتها وإعلانها على الملأ بأكثر من طريقة، فيما لم تتمَّ لا صياغة ولا إعلان مجموعة من الأهداف والمطالب التي مارسها الناس بالفعل في ميدان التحرير، وأعطت لهذه الثورة وجهًا شديد التميُّز والخصوصية، ونعني بذلك ما يمكننا أن نطلق عليه أهدافًا ومطالبَ ثقافيَّة وحضارية. نعم، كان أهم ما يميِّز هذه الثورة هو مطالبها الثقافية والحضارية التي مارسها المشاركون دون أن يعلنوها في صورة أهداف أو مطالب أو مبادئ. ألم يكن القبول المتبادَل، بل والتعايُش الإنساني رفيع المستوى، بين المنقَّبات والسافرات مَطلَبًا لسنوات طويلة خَلَت، إلى أن حدث ذلك فعلًا في ميدان التحرير؟! ألم يكن القبول المتبادَل، بل والتعايُش بين المسلمين والمسيحيين مَطلبًا لسنوات طويلةٍ خَلَت إلى أن حدث ذلك فعلًا في ميدان التحرير؟ ألا يلفت النظر هذا الحرص البالغ من قِبَل المشاركين على نظافة الميدان وتجميله أثناء الثورة؟
على كلِّ مَن يعنيه أمر هذه الثورة وما يمكن أن تُحقِّقه من مكاسب أن يُبرِز القيم الثقافية والحضارية التي مارستها على الأرض، وأن يصنع من ذلك مبادئَ ومَطالِبَ وأهدافَ كفاحٍ”.
الآن، وبعد مُضيِّ أربعة أعوام تقريبًا على اندلاع ثورة ٢٥ يناير، يمكننا القول -بكل أسف- إن مَن يعنيهم أمر هذه الثورة لم يقوموا بتلبية الدعوة التي أطلقناها في فبراير ٢٠١١، ولا يمكننا أن نردَّ ذلك إلى تقصير المعنيِّين أو إلى أن أمر الوجه الثقافي للثورة لم يلفت نظرهم ولم يَنَل اهتمامهم، ولكن نعتقد أن عدم الاستجابة للدعوة كان نتيجة منطقيَّةً للدَّوَّامة التي دُفِعَت إليها الثورة دفعًا من قوى الثورة المضادة: الإخوان وقوى الدولة القديمة، حيث لم يقتصر الأمر على الانشغال ببلورة مطالب الثورة وأهدافها فحسب، بل امتدَّ ليشمل الانشغال بمحاولات توحيد القوى الديموقراطية بالذات، وأن قوى الإخوان بَدَت شديدة التنظيم وإمكاناتها المالية هائلة، وكانت القوى الديموقراطية الثورية تبذل هذه الجهود فيما تستزف طاقاتها وإمكاناتها يوميًّا في معاركَ مُفتَعَلة ومُدبَّرة، كان من بينها -مثلًا- معركة محمد محمود، ثم انشغلت هذه القوى بعد ذلك في الانتخابات البرلمانية، ووجدت نفسها بعد ذلك في مواجهة الإخوان وقد شرعوا في بناء دولة دينية استبدادية، وعندما انتهوا من إسقاط دولة الإخوان بعد جهود جبَّارة انتقلنا إلى مرحلة جديدة تُشنُّ فيها حملات مُنظَّمة وواسعة ضد ثورة ٢٥ يناير نفسها، لكي تنتقل القوى الديموقراطية من مواقع تسمح لها بالتقدُّم والبناء إلى مواقع لا تسمح لها إلَّا بالتراجع والدفاع. فهل بعد كل هذه المعاناة يمكننا أن ندين هذه القوى لأنها لم تبرز وجه الثورة الثقافي؟ بالقطع نحن لا نستطيع أن ندين هذه القوى في ظلِّ كلِّ ما تعرَّضَت له من تحدِّيات، وفي ظل ما تعرَّضَت له من ضربات، طوال السنوات السابقة.
وربما يمكننا، انطلاقًا من الحكمة القائلة بأنه يمكن على الدوام تقريبًا تحويل الظرف غير المواتي إلى ظَرفٍ مُواتٍ، أن نستفيد بالوقت المتاح لنا الآن -في ظل تراجُع العملية السياسية- في الاهتمام بتأمُّل أحداث الثورة، والخروج من هذا التأمُّل بالمُخرَجات التي يمكن أن نستفيد بها، سواء في عملنا السياسي اليومي، أو في الموجات الثورية القادمة بإذن الله.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار