نجاح بولس يكتب ..العقل الجمعي القبطي ..ما بين تشوهات الماضي وعوامل الحداثة الاجتماعية

نشرت قصة واقعية حدثت أمامي منذ أكثر من ثلاثون عاماً على صفحتي الشخصية بموقع فيس بوك ، حول تصرف مدرس جامعي ملتحي متطرف ساقته مشاعر الكراهية والعنصرية البغيضة تجاه تلميذ صبي قبطي في الصف الأول الإعدادي ، ورد فعل عامل بالمدرسة فقير غير متعلم دفعته الفطرة الإنسانية  لإتخاذ موقفاً مختلفاً تجاه الصبي ، محاولاً إصلاح ما سببه المدرس المتطرف من إيذاء نفسي وبدني للصبي وبدون سبب جعله في حالة إنهيار وذهول ..

إستهدفت من المنشور محاولة فك الإرتباط بين التطرّف والإرهاب من جهة والعوامل التعليمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة بالفرد من جهة أخرى ، وأن الجهل بالعلوم ليس معياراً للتطرف بقدر الجهل بقيم الإنسانية ومبادئها ، وهو ما لمسته وكنت صغيراً في إحدى قرى محافظة المنيا ، من حالة التلاحم والترابط والمحبة بين الفلاحين البسطاء مسلمين ومسيحيين قبل صعود العملية التعليمية المشوهة ودخولها كل بيت بالقرية عبر الأجيال الصغيرة الصاعدة ، والتي ما أن أنهت تعليمها بغض النظر عن نوعه ومراحله ، حتى تغيرت طبيعة القرية المصرية وإنتشرت مظاهر التطرّف والكراهية بين أركانها ، وخصوصاً بعد إمتلاء المدارس بالمعلمين المنخرطين في التنظيمات الإسلامية الراديكالية ، فضلاً عن أولئك العائدون من دول الخليج ، لدرجة أن العائلات القبطية والمسلمة التي كانت قديماً تحمل موتاها سوياً الى الكنيسة أو المسجد بدون حتى الشعور بالتباين والإختلاف ، لم يعد يتبادلون واجبات العزاء الأن إلا في أضيق الحدود ، وقس على ذلك مجالات الحياة الأخرى ..

وبالتأكيد هالني ما قرأته في التعليقات من خبرات تاريخية سيئة عانى منها أجيال عديدة من أبناء الأقباط عبر العقود الأخيرة ، أثرت في وجدانهم الإجتماعي وطبيعة تواصلهم مع البيئة المحيطة ، بل أثرت على عوامل الإنتماء المجتمعي لديهم وشوهت صورة المجتمع في أذهانهم ، وعرقلت محاولاتهم للتطور وفقاً للمستحدثات الإجتماعية الجديدة ، وبات الكثير من أبناء تلك الأجيال داخل أسوار الماضي حتى من إنتقل منهم لمجتمعات جديدة ، وهو ما كان له التأثير الأكبر على نجاح محاولات تهميشهم وإقصائهم من الحياة السياسية والإجتماعية ، والحد من إنخراطهم عبر أشكالها المختلفة .

بعض التعليقات إمتلأت بالمرارة وعبرت عن الشعور الدائم بالإحباط وخيبة الأمل عند إجترار هذه الذكريات الأليمة ، التي لم يتغير تأثيرها بتغير حال أبنائهم وإنخراطهم في بيئة إجتماعية وتعليمية أفضل ، والملفت للإنتباه أن البعض منهم هاجر لمجتمعات غربية وإستقر هناك منذ سنوات طويلة ، ولم يتحرر بعد من ذكريات الماضي وتأثيراتها وتشوهاتها الوجدانية ، مما يشير إلى وجود إحتمالات بنقل هذا الشعور لأبنائهم سواء بقصد أو بدون قصد ، طالما أن تلك الذكريات لم تدخل بعد في طور السرد التاريخي عديم التأثير .

والكثير من التعليقات مالت إلى العنف وتبني منهج رد الفعل الإنتقامي ، بل وبعضهم صرح بقيامه هو أو أسرته برد فعل عنيف تجاه مواقف مماثلة حدثت لهم في مراحل تعليمهم المختلفة ، وكثير من التعليقات عولت على الأسرة ومسئوليتها في حماية أبنائها داخل المدارس من أي تحرشات عنصرية يتعرضون لها ، حتى لو وصل الأمر للمواجهة البدنية العنيفة مع أعضاء هيئة التدريس العنصريين ، مما يعكس إنعدام ثقة لديهم في مؤسسات الدولة سواء المنوطة بتعليمهم أو تلك المنوطة بحمايتهم من تجاوزات أعضاء المؤسسة التعليمية .

الأحداث الطائفية وغيرها من التحرشات العنصرية بالمواطنين خصوصاً تلك الصادرة من أعضاء ممثلين لمؤسسات الدولة ومعبرين عنها ، هي ليست مجرد يوميات تحدث في تاريخ الوطن ويتلاشى تأثيرها بإنتهاء الحدث ، بل نقاط سوداء تلوث تاريخه وصفعات تؤثر في وجدانه الإجتماعي ، تنهل منه أجيال تولد في أجواء مشبعة بعوامل الحقد والكراهية والإقصاء ، فيتشكل منها مستقبل محمل بعوامل الصراع والفشل والتراجع والإنهيار .. أفيقوا يرحمكم الله .

  بقلم الباحث / نجاح بولس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار