محمد أبو العيون يكتب: كيف أصبح المجتمع الإسلامي عقبة في وجه التجديد؟
هل نملك القدرة على التجديد؟ أم هل لدينا – على الأقل – النية المخلصة في القيام بهذا الواجب؟ والأهم من هذين السؤالين: هل العقل الجمعي الإسلامي في وقتنا الراهن قابل لأطروحات التنويرين؟ وأين تقف القيادة السياسية – في أي دولة إسلامية – في هذا المضمار؟
إن خوض مضمار التجديد وحمل راية التنوير أصبح أمرًا شائكًا يجلب على المشتغلين به متاعب جمة، قد تصل إلى حد عزلهم عن أبناء مجتمعهم جراء الاتهامات بالتكفير والإلحاد وعداء الإسلام.. إلخ هذه الاتهامات التي رسخها داخل عقول العامة والمغيبين فريق المقلدين والجامدين الرافضين لأي حديث من شأنه تحريك مياه الفكر الإسلامي الراكدة، ولا يعني هذا أننا فقدنا القدرة على التجديد الذي هو سنة إلهية إن تعطلت اختل توازن وتقهقرت الأمة التي عطلتها، كما لا يعني هذا أيضًا أن محاولات التجديد باتت صرخات يطلقها التنويرين في صحراء جرداء، وما تلبس أن تذهب بها الرياح بعيدًا عن الآذان فضلًا عن حجبها عن العقول.
لقد كان تجديد الفكر الإسلامي في العصور الأولى (وصولًا إلى القرن الثامن الهجري برأيي) أمرًا ميسرًا ومتاحًا وحادثًا بنسب متفاوتة، وكان الفاعل فيه أو الدافع إليه بتعبير آخر أربعة عوامل..
– العامل الأول: عالمية الإسلام وديمومته، ولذا فقد اقتضت سنة الله عز وجل أن يكون تجديد الفكر ومواكبته لظروف الناس في كل زمان ومكان خصيصة تحفظ لهذا الدين عالميته وديمومته، وعلى عكس ما يدعيه أرباب التقليد والجمود؛ فإن هذه السنة الإلهية لم تكن – ولن تكون – في يوم من الأيام حكرًا على رجال الدين دون غيرهم من باقي أبناء المجتمع، فتجديد الفكر الإسلامي فضاء مفتوح يستطيع كل مسلم أو مسلمة الإدلاء فيه بدلوه.
ولدينا في قصة السيدة خولة بنت ثعلبة ما يثبت قولنا؛ فهذه المرأة ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكيةً إليه زوجها الذي قال لها: أنتٍ عليّ كظهر أمي، وقد أفتاها النبي صلى الله عليه وسلم بحكم الظهار الذي كان مُشرعًا في ذلك الوقت، وهو التحريم على التأبيد؛ لكنها لم تأخذ جواب النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل «لا تجادلي ولا تناقشي يا أختاه» بل ناقشت وجادلت بعد أن أعملت عقلها، وبعد أن استقر في قلبها أن الغاية الكبرى من الدين (أي دين) هو تحقيق السعادة لأتباعه وليس شقائهم، خاصة وأن لها أطفال إن استمر هذا الحكم الشرعي دون تغييره وذهبوا إلى الزوج «ضاعوا» وإن بقوا معها «جاعوا»، كما أن هذا الزوج وفقًا لوصفها: «أكل شبابها ونثرت له بطنها، حتى إذا كبر سنها وانقطع ولدها ظاهر منها».
ومن جانبه جادلها وناقشها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمه ويقينه أن التجديد وثبر أغواره حقُ مكفول لكل مسلم، وليس حكرًا عليه وهو الموحى إليه من قبلِ السماء، وقد نزل القرآن الكريم مؤيدًا للرأي الذي تبنته السيدة خولة وهو إلغاء الظهار: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)».. إلخ الآيات.
ولدينا واقعة أخرى (والوقائع كثيرة وجميعها مثبت) تبين عدم صحة ما يدعيه أرباب الجمود والتقليد من أن التجديد والحديث في أمور الدين حكر عليهم دون غيرهم لأنهم رجال الدين وأصحاب التخصص. هذه الواقعة هي تشريع سنه خليفة المسلمين الثاني عمر بن الخطاب من فوق منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدد فيه المهر ونهى أن يزيد على أربع مئة درهم، وحين نزل من فوق المتبر اعترضته امرأة متحدثةً بصيغة السؤال الاستنكاري: يا أمير المؤمنين نهيتَ النَّاس أن يزيدوا في مهر النساء على أربع مئة درهم؟
قال: نعم..
فقالت: ليس ذلك لك يا عمر، أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟
قال: وأي ذلك؟
فقالت: أما سمعت الله يقول «وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا…»..
فقال: اللهمَّ غفرانك، كل النَّاس أفقه من عمر، ثم رجع فصعد المنبر، فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربع مئة درهم، فمن شاء أن يعطى من ماله ما أحب فليعطي.
– العامل الثاني من العوامل التي جعلت تجديد الفكر الإسلامي في العصور الأولى، أمرًا ميسرًا ومتاحًا وحادثًا بنسب متفاوتة: إرادة القيادة السياسية (خليفة المسلمين في ذلك الوقت، كوصف للحاكم وليس كنظام حكم منصوص عليه)، فالتاريخ الإسلامي ينبؤنا أن المسلمين لم يطرقوا أبواب تجديد الفكر (وبالأخص ما يتعلق منها بالتشريع) وينجحوا في هذا التجديد إلا بإرادة سياسية دافعة بل وقائدة لركاب المجددين، ولدينا العديد من الوقائع التاريخية الدالة على هذا نذكر منها:
تعطيل العمل بنصوص قرآنية قطعية الثبوت قطعية الدلالة (سهم المؤلفة قلوبهم، وحد السرقة.. أنموذجًا)؛ فلولا أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان الدافع والقائد لهذا الأمر وهو حينئذ حاكمًا للمسلمين لما نجحت الخطوة.
تنقيح الأحاديث النبوية في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز؛ فلولا أنه كان متسلحًا بقوة الحكم لباءت جهوده إلى الفشل.
الانفتاح على العلوم الإنسانية بشتى تخصصاتها (طبًا وفلسفةً وفلكًا و…..)، بدافع وقيادة ودعم من الخلفاء العباسيين.
– العامل الثالث: الإرادة المجتمعية، وهي عامل هام جدًا إن لم يكن هو الأكثر فاعلية في الدفع بأي مشروع تجديدي وترسيخه وتثبيت أركانه، وهي البديل الأنجع للإرادة السياسية، وبحسب قراءاتي وبحثي فإن المجتمع الإسلامي لم يكن طوال تاريخه عنصرًا دافعًا ومؤيدًا للتجديد؛ فالمسلمون يقبلون ما يفرض عليهم في هذا الشأن، وفي حال ترك زمام الأمر إليهم فإنهم يقفون في وجه المجددين ويرفضون رفضًا قاطعًا أطروحاتهم، دون دراية بما تحمله هذه الأطروحات من أفكار، ودون بحث أيضًا عن موافقة هذه الأطروحات للقرآن والسنة. الحقيقة الصادمة تؤكد أن العقل الجمعي للمسلمين يرفض التجديد لموروث خاطيء رسخ في وجدانهم (دون أن تعيه عقولهم) وهو أن كل مجدد شخص ناقم على الإسلام يريد هدمه وتبديل تشريعاته.
ولا يعني قولي هذا أن المجتمع لا يُعول عليه في التجديد، أو أن أي محاولة تنويرية لن تجدي نفعا؛ بل العكس هو الصحيح، إذا أخذنا في الاعتبار أن العقل الجمعي الإسلامي مجنىٌ عليه وليس جانيًا، ولذلك فإنه يحتاج إلى جهود صادقة لتحريره من الأسر الذي وقع في شركه منذ مئات السنين والذي نتج عما سأذكره في العامل الرابع..
– العامل الرابع: علماء الدين ذوي العقليات الجامعة، وليس رجال الدين، والفارق كبير بين الاثنين؛ فالعالم شخص وهب حياته لتنوير العقول وتحريرها، وهو في كل الأحوال مترفع عن الترزق باسم الدين، لذلك فإنه – إن وجد – هامل رئيس من عوامل التجديد؛ أما رجل الدين فالذي يعنيه في المقام الأول هو بقاء الركود والجمود، ولذا نجده يقف حجر عثرة – ولو احتاج الأمر إلى قتال لقاتل – أمام أي محاولة تنويرية، لأنه لا يستطيع العيش وسط مجتمع تضيء عقول أبنائه ومضات التجديد، كما أن التقليد وتقديس آراء السابقين يُكسبه شرعية البقاء، وينصبه وصيًا على الدين ومتحدثًا باسم الله وأمينًا على الفتوى، وهذا بدوره يُدر عليه مكاسب جمة (مادية وغيرها) ولذا فإن نظرته للأمر هنا، نظرة نفعية بحتة، وهؤلاء يصدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ، يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَبِي يَغْتَرُّونَ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئِونَ ؟ فَبِي حَلَفْتُ ، لأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانَ».
ولأن الأمر في منظور رجل الدين نفعي بحت، فقد عمل هؤلاء طوال عقود عديدة مضت على تغييب العقل الجمعي، ونجحوا – للأسف – في تنشئة العامة على أن الدين هو ما تلاقيناه من السابقين، وأن الآراء الفقهية جزء لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية، متعمدين في هذا على تزييف الحقائق وغض الطرف عن أن الفقه اجتهاد ما يعني أنه أقوال بشرية تقبل الصواب والخطأ ولا تقبل في كل الأحوال التقديس أو إضفاء العصمة على أصحابها، والأمر ذاته فعلوه مع التفسير وجمع الأحاديث النبوية، وقد استطاع هؤلاء إحكام قبضتهم على عقول العامة بعد أن مارسوا ما يشبه بـ«عملية التخدير» أو بوصف آخر ممارسة أكبر عملية خداع للعقل الإسلامي، ونتج عن هذا التخدير مجتمع مغيب.. مستسلم.. متواكل.. رافضًا لإعمال العقل.. كاره للعمل والإنتاج.. معادٍ للعلم والبحث والإبداع.. متطرف لمظاهر التدين.. لا يعرف عن جوهر الدين شيئًا.. يعيش في فجوة مترامية البعد أخرجته من ركاب التقدم الأممي.
ولذلك وغيره فإن رجل الدين هو العقبة الرئيسية أمام أي محاولة للتجديد، وهذا المقلد الذي يُريد إيقاف الزمن عند القرون الهجرية الثلاث الأولى، استطاع – ويستطيع الآن أيضًا – أن يجعل المجتمع يرفض بل ويثور ضد أي محاولات للتجديد، وبرأيي إن مواجهة هؤلاء والدخول معهم في مناظرات أو ما شابه أمر غير مجدي، بل إنه مضيعة للوقت والجهد؛ لأن المنتفع أسير لمصدر نفعه، ويقاتل حتى الرمق الأخير بغية الحفاظ على هذا المصدر، وصدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وصف هؤلاء بقوله: «رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ»، أي: ينتزعون خيرات الدنيا ويحصدونها باسم الدين تمويهًا علي الناس.
إن تركيز التنويرين يجب أن ينصب على تحرير المجتمع من الأوصياء وكهنة الدين، ولكن بهدوء ودون التعرض من قريب أو بعيد إلى إهانة الأشخاص، يجب أن يكون التركيز على الفكرة وكشف زيفها دون التعرض لصاحبها. كما يجب أن يكون هدف التنويرين تحرير العقول فقط، وليس ممارسة وصاية أخرى، أو توجيه الناس إلى اعتناق هذه الفكرة ولفظ غيرها، والأهم من كل هذا أن يكون السير في طريق التنوير مجردًا، لا يبتغي صاحبه أي عطايا أو مكاسب مادية أو معنوية.
إن أي فكرة تنويرية – برأيي – تشبه المصباح المضيء للطرق (حسنها وسيئها)، هدفها فقط هو إضاءة الطرق بنور الحقيقة ثم ترك الشخص يختار الطريق الذي يراه وفقًا لقناعاته ومعتقده صوابًا، كما أن اتباع نظرية الصدمة حيال كشف عوار الفكر الجامد أثبتت فشلها، وأثبتت كذلك أن رجال الدين يجيدون توظيفها في تأليب المجتمع ضد التنويرين ورفضهم من قبل حتى سماعهم.
إن طريق التنوير وإستعادة العقل الإسلامي المختطف رغم صعوبته؛ إلا أنه أمر سيتحقق لا محالة، مهما جيش المقلدين جنودهم من الأفكار المضللة الزائفة؛ فالمجتمع الإسلامي لم يصبح عقبة في وجه التجديد إلا بعد أن غُيب عقله وزُيفت قناعاته وأصبح آسيرًا للجهل والخرافة، ولذلك فإن هذه الومضات التنويرية التي ندعو لتكثيفها وتركيزها على الفكرة دون التعرض لصاحبها، هذه الومضات التي تتسلل مذهبة ظلمات العقل الجمعي ستثمر قريبًا – وقريبًا جدًا – ووقتها سنجد المجتمع هو الذي سيقود ثورة تجديد الفكر الإسلامي