د. أمانى فؤاد تكتب : لفيروزها ألوان أخرى
انطلقت بسيارتها صوب طريق العلمين الجديد بعد أن تلقت مكالمة من “سيّد” السمسار الذي أكد لها أنه وجد ما أرادته تماما، الفيلا المواجهة للبحر مباشرة بعيدا عن الصخب، حيث الالتصاق الحميم بثورات الطبيعة وأوقات سكونها، ذكر أيضا أنها كبيرة المساحة، وبإمكانها أن تخصص دورا كاملا لمرسمها ولوحاتها كما طلبت، وأردف أن العيب الوحيد فيها أن حديقتها الأمامية محدودة للغاية.
كان عليها أن تراها بنفسها؛ فعلاقتنا بالأماكن مثل الألوان والخطوط التي يمكن أن تأتلف فوق اللوحة أو تظل المتنافرات بينهما ممتدة وشاسعة.
حين وصلت إلى الموقع تجولت بالمكان فوجدت الفيلا كأنها ضالتها التي التقت بها بعد بحث طويل، وقدرت أنه يمكن معالجة الحديقة بتعديل هندسي بسيط، سألت عن ثمنها فأخبرها، وذكر أن مالكها شيخ خليجي، أبلغته أنها عزمت على شرائها، فقال: إنه سيتواصل مع محاميه.
بعد أيام اتصل بها وأعطاها رقم المالك ورغبته في التفاوض معها بنفسه، كما نقل لها تعجبه من التساؤلات الكثيرة التي لاحقه بها المحامي عندما ذكر لهم اسمها، ثم ألمح لحقه كوسيط فطمأنته.
اتصلت بدورها بالمالك فكان مهذبا للغاية، ذكر أنه في اجتماع وعليها أن تحدد الوقت المناسب ليعاود الحديث معها لاحقا. أخبرها أنه يريد البيع لأنه يملك في المكان نفسه عددا من الفيلات، تفاوضا قليلا في السعر وأخبرته أنها لا تريد كل المفروشات التي يحتويها المبنى، كما أنها ستجري به لاحقا كثيرا من التعديلات والديكورات، فذكر أن شركة مقاولاته بمصر يمكن أن تقوم لها بالأمر. حددا موعدا للاطلاع على أوراق الملكية واستكمال التفاوض، حيث ذكرت له أنها لا تستطيع أن تفي بثمنها دفعة واحدة دون أن تأخذ قرضا بضمان العقار نفسه من البنك.
في نهاية حوارهما أكد على سعادته بمعرفتها، كما أثنى على لوحتها المسماة “ما قبل الموت مباشرة” وسألها إن كانت لم تزل بحوزتها أم أنها قد بيعت؟ وذكر أن اختيارها للتيار الفني الذي انطلقت منه في معرضها الأخير هو الأنسب للمرحلة التي تعيشها المنطقة في الشرق الأوسط، لم تكن تتبين حديثه كاملا للهجته الخاصة، لكنها كانت تفهمه.
حين ذهبت للقاء المالك لم تجده كما الصورة النمطية لشيوخ الخليج، كان رجلا ناضجا، في منتصف العقد الرابع من عمره، يرتدي ملابس أسبور أنيقة، جذاب الطلة، تحدث بلهجة بلده التي وجدت بها بعض الصعوبة رغم أنه ذكر إجادته للهجة المصرية تماما، طلب منها أن تدعوه على الغذاء فهو ضيف في بلدها ــ رغم إقامته شبة الدائمة ــ ففعلت، أثناء تناول الطعام ذكر أنه أُغرم ببعض لوحاتها منذ زمن أثناء دراسته للهندسة بلندن، ثم ظل يتابع تحولات رؤاها في معارضها المتتالية، كما اشترى اثنتين، فكانت ترد بابتسامة حيية غير مبالية إلى أن أخبرها بأزيائها وتعليقاتها في ثلاثة معارض حضرهم لها في أوروبا دون أن تلحظه. ذكر أن تخصص شركته الأساسي في إعادة ترميم وتجهيز الأماكن الأثرية، وأنه اختار مصر لانطلاق أعماله لعراقتها، لكنه ألمح بإحباطه من انعدام الرؤية، واستهانة المسئولين بقيمة الأثر وكيفية توظيفه سياحيا، ولذا فكر في نقل نشاطاته لبلد آخر لكثرة التعقيدات التي يجدها، لم تكن تبادله الحديث قدر ما تستمع، فقد كانت منذ لحظات وهي في طريقها للقائه تفكر لماذا تعشق هذا الوطن رغم ما تلاقيه من تجاهل لفنها الذي يقدر كثيرا بالخارج!؟
حين أنهيا اللقاء كانا قد اتفقا على الذهاب معا إلى المحامي للانتهاء من الإجراءات القانونية بعد عودتها من رحلة قصيرة إلى ابنتها التي تدرس الاقتصاد والعلوم السياسية بلندن، وهو يوصلها لسيارتها جذب بأصابعه طرف بلوزتها الدانتيل البيضاء لتغطية جزء من برونز كتفها الدائري بتلقائية.
تعجبت حين تلقت منه اتصالا بعد ثلاثة أيام وهي تتجول مع وحيدتها في متحف الشمع بالعاصمة الإنجليزية ليخبرها أنه بنفسه قد أشرف على التعديلات الهندسية للفيلا، وأنه على يقين أنها ستروق لها، قال كلاما من قبيل: أنه يساعدها لأن تحقق رغبتها بالاتحاد بالبرق والرعد، بالذوبان في روح هذا الكون، أمنياتها التي لم تذكرها لأحد من قبل، كما أخبرها أنه قد غيَّر من واجهة المبنى ليصبح نسيجه المعماري قريبا منها، وليتسق مع أرستقراطية ملامحها وصوتها، تحدث بما لم تتبينه تماما عن كائن خرافي يستيقظ بداخله و يتحد مع شكل أصابع يديها وهي تمسك بالفرشاة ليطيرا به في مناطق مفارقة لجمود هذا العالم. وأعقب حديثه هذا مباشرة بأن كل ما يخشاه ألا توافق إدارة المكان على هذه التعديلات لمخالفتها لاشتراطات البناء هناك، لكنه ذكر أنه سيتصرف. واختتم كلامه بأنه قد أرسل العمال للبدء في إجراء التعديلات منذ أمس.
شكرته مندهشة من قدرته على قراءة رغباتها التي لم تعلنها بوضوح في أي لقاء أو حوار معها من قبل، ثم طلبت منه أن يوقف كل هذه الإجراءات لحين عودتها، والانتهاء من إجراءات البنك وموافقته على القرض، كما الاتفاق معه على تكلفة تلك التعديلات التي شرع في تنفيذها. أنهت المكالمة وهي تشعر أنه لا يهبها فرصة أن تريد، أو تقرر بذاتها شيئا، لكنها لاحظت أنه يسعى بدأب لتلمس عقلها ووجدانها وتنفيذ كل ما يروق لها حتى مالم تحدده هي لذاتها واضحا.
مباشرة بعد أن أنهى الاتصال تلقت منه رسالة على هاتفها: ” اشتقت لرؤية عينيك الذاهبتين بعيدا دائما، ماذا لو أنهما توقفتا لوهلة لدي!! قد يلحظا الفرح الغامر الذي أشعر به منذ أن التقينا، مالا تعرفينه أني انتظرتك طويلا”. سمعت بأذنيها صوتا يعلو، يشبه تتابع موجات يشتد عودها.
بعد عودتها وانتهائها من إجراءات البنك المعقدة عاودت الاتصال به للقاء عند المحامي لإنهاء الاتفاق وتسلم جزء من الثمن لحين إتمام طلبات البنك، فضّل تأجيل اللقاء لحين ذهابها إلى الفيلا مرة أخرى لرؤيتها، شعرت بالحيرة، لكنها ذكرت له أنها لن تستطيع السفر للساحل قريبا لبعض انشغالاتها، بداخلها بدأت الصفقة تأخذ سمت السيولة القلقة فحاولت تناسي الأمر، لكن إلحاح موظفي البنك لإنهاء الإجراءات دفعها بعد أسابيع للذهاب للمكان لتنجز الاتفاق معه وتنتهي.
أخذتها الدهشة حين سافرت ورأت المبنى، فلقد نسخ على واجهة الفيلا كاملة نموذجا حجريا ضخما يمثل في حجمه أضعافا متعددة من لوحتها الأشهر “ثورة الوجود”، ومهرها باسمها في طرفها الأيسر كما تفعل دائما، ووضع اسمه أيضا في الجانب الآخر، وجدت التغيير قد شمل واجهات الفيلا جميعها وخاصة الأمامية المواجهة للبحر، كما طال شكل الحديقة والأشجار والورود التي حوطتها، تلفتت حولها غير مصدقة سرعة هذا الإنجاز وجماله حيث لم يمر سوى شهرين.
تعجبت من كيفية التقاطه للطابع الذي حلمت به، تجولت بالمبنى من الداخل فكان مكتظا بعمال التشطيبات من تخصصات مختلفة، لاحظت كيف حوّل البدروم لأماكن مخصصة للوحات، حين صعدت للطابق الأعلى جهة البحر سمعته يقول: “هيأتُ لك هنا حوائط زجاجية من الجهتين الأمامية والجانبية لينكشف لك العالم من كل زاوية، تخيلتك تقفين بالضبط على هذا النحو، تمتد أطراف ملابسك فتصلك بالبحر كما تطير بك إلى السماء، استدار و وقف أمامها مباشرة، قال: افتقدتك سنوات طويلة رغم تجوالك اليومي بأحلامي، بحضورك الطاغي هذا تجتاحين كياني رغم صمتك الدائم الذي لا أعرف له سببا، انتظرتُ طيلة الشهرين الماضيين أن أرى لمعة عينيك تلك وهي تشعر بحلمها الذي لم تبح به قد تحقق على أرض الواقع، هل تعرفين أن جُل سعادتي أن أجذب الأحلام الهائمة وأجعلها كيانات مادية، صناعتي أن أستدعى روح الموجودات التي اندثرت بفعل الزمن وأحييها ثانية، وقتها أقبض على ما فقد قوامه، فأعيد لملمته وتجسيده. راقها وهي تنصت إليه أنه يتحدث عن عمله بعشق الفيلسوف.
دعاها إلى الشرفة مندهشة لترى كيف ضاعف مساحتها ثلاث مرات، قال: في حضرة كل هذا الفيروز الممتد الواسع حلمتُ بك، اصطدت شتات سحرك المعلق بالذاكرة منذ سنوات لأودعه في روح هذا المكان ليكون لنا معا.
بغتت حين استكمل حديثه بمنتهى الثقة قائلا: حلمي أن أراك تقفين في مواجهة هذا البحر الشاسع في ليلة مقمرة عارية تماما، أن تتوجه عيناك نحوي، تنظران إليّ أنا لا إلى المدى، أثق أنني في يوم سآخذك بين ذراعي لألملم أمواج البحر الهادر من شعرك هذا، سعادتي أن أصبح أنا فرشاتك وخطوطك وألوانك.
تركته وعاودت القيادة إلى بيتها بالقاهرة. وهي تغير ملابسها وتنضو عن جسدها قطعة تلو أخرى، ارتسمت ابتسامة ساخرة فوق شفتيها فلقد رأت النهر بموجاته الصغيرة الأزلية يضرب فوق جسدها العاري بتؤدة، على أحد ضفتيه لمحت “مختار” طفلا صغيرا يشكل من طينه وطميه أول تماثيله المنحوتة في تكوينه العميق قبل أن تشكلها أصابعه، في الزاوية هناك فوق كتفها البرونزي لمحت عصا الحكيم وأهل كهفه حائرون، بجوارهم كانت نظارة “طه” الدائرية وأيامه التي أضاءت العتمة تومض، يمسك صلاح عبد الصبور بيده ويعبرون للناس في بلادها، استقامت وقفتها فوق الأرض وهي تطالع الأهرامات ومراكب الشمس التي تبحر لأعلى جبينها، وهي تتحسس رقبتها تعثرت أصابعها بكتاب “تحرير المرأة”، وجرت أمام عينيها أسطر “الشحاذ” وحرافيش محفوظ الملحمية، فوق صدرها شعرت بثقل قدمي “إيزيس” تصحبان “بنات بحري” برفقة “محمود سعيد” ليعاودن لملمة الأشلاء، و ينفضن الصمت عن وجه الحياة، يحطمن عبودية الأشياء، في شهيقها العميق وهي تنظر في المرآة نحو جسدها امتزجت بروح “حمدان”، فامتدت يدها تدير “أغدا ألقاك” لأم كلثوم، ارتدت ثوبا فضفاضا زاهيا وبداخلها إيقاع صاخب يعلو على صوت “دنقل” وهو يردد “هي أشياء لا تشترى”، كان الجميع يروحون ويجيئون على أرض الغرفة معها، يتبادلون الحكي والألوان والأفكار، ويملئون اللوحة برقصة الحرية.
صنعت قهوتها و ارتشفتها على مهل ثم اتصلت بسيّد السمسار تخبره أنها قد صرفت النظر عن شراء تلك الفيلا.