حلم حسن أرابيسك ورحلة البحث عن الهوية… يوم آخر من سلسلة «أرواح في المدينة»
ظل موقع الفن الرائد في مصر لسنوات – وما بقي منه – انعكاسا للمجتمع والثقافة يساعدنا على فهم ما نحن عليه كبشر وكيفية ارتباطنا ببعضنا.
وبنفس المقياس كانت «الهوية الوطنية المصرية» عنصرا حيويا في أغلب الأعمال الفنية المقدمة خاصة خلال فترة التسعينيات؛ إذ سعى الكثير من المؤلفين غرس «الثقافة الوطنية» في أعمالهم بما يعزز الانتماء والتفاني في العمل والاحتماء بأصل الأشياء والمبادئ النبيلة، وبحث آليات التفكك الناجمة عن الغزو الثقافي المعادي.
ولعل من أبرز ما سعى إليه هؤلاء في نظري، هو المؤلف الكبير أسامة أنور عكاشة؛ إذ تتقدم أعماله الدرامية وتحديدا (ليالي الحلمية، أرابيسك) وغيرها ما أشرنا إليه بشأن التحولات السياسية والاجتماعية في المجتمع المصري خلال مراحل انتقالية متعددة.
ويأتي الحديث هنا عن العمل الدرامي الخالد والأكثر تأثيرا في العديد من الأجيال المتعاقبة هو مسلسل «أرابيسك»، الذي جسد الصراع أو العداوة بين القيم والفن والأصول والأخلاق، وبين الفلوس والتجارة وقلة الأصل والمصلحة الشخصية في المقابل.
وهي كلها أمور مثلت حيزا واسعا من جيل أكتوبر؛ الذي انتصر في حرب العاشر من رمضان وخرج إلى المجتمع بعد سنوات الجهاد الحربي ليجد نفسه أمام عالم آخر، يغلب فيه «الاستهلاك» على «الإنتاج» وتسوده فيه “الغلبة” بالفهلوة عن الغلبة بالإتقان والمجهود.
ورغم تعدد أوجه الصراع في العمل الدرامي “أرابيسك”، إلا أنني أحصره في طرفي النقيض وهما «حسن النعماني» الشهير بـ«أرابيسك» والذي قدمه الفنان صلاح السعدني، و «رمضان الخضري» للفنان المنتصر بالله؛ إذ جسد الأول عنوانا للتمسك بالفن الأصيل والاتساق مع الذات، والأخير الآخذ بركاب التقليد الأعمى لمستحدثات العصر وقتها، والبحث فقط عن الربح السريع، ويتوسطهم في ذلك مهنة عتيقة ذات إرث ممتد وهي حرفة «الأرابيسك».
وعلى مدار «41 حلقة» هي مدة العمل الدرامي، ظلت هذه الثنائية وما تتضمنه الأدوار الأخرى في حالة صدام ثقافي وفني وتاريخي وديني، وهو ما يعد دافعا لأي متلق للمتابعة والمشاهدة لمعرفة ما آلت إليه الأمور.
وانطلاقا من هذا التصادم الشامل، ظل هذا العمل الدرامي قابعا في ذاكرتي وفي ذاكرة كل من شاهده، خاصة إنني أرى أنه أفضل الأعمال الدرامية المصرية على الإطلاق، بما يحمله من شجون إلى الماضي ومعارك الاقتحام الدرامي لما يشغل الناس.
كان هذا دافعا للانطلاق إلى مقر “مركز الإبداع” بساحة دار الأوبرا، مساء الأحد، حيث تقع ندوة بعنوان (حلم حسن أرابيسك… القاهرة قبل ٣٠ سنة رائعة أسامة أنور عكاشة)، والتي يقدمها الكاتب الصحفي محمود التميمي، في إطار سلسلة «أرواح في المدينة» التي بدأها منذ أكثر من عام.
في البداية… تحدث الكاتب الصحفي محمود التميمي، عن الكارثة التاريخية التي عانت منها «مصر» إبان الاحتلال العثماني، عندما سيطرت الميليشيات العسكرية العثمانية على كل شيء في مصر، من عمران وزراعة وحرفة… إلخ.
«التميمي» مع حفظ الألقاب، فهو أستاذ في فنون الصحافة والتلفزيون، نقلنا خلال عرضه الذي تكدسا بالمتابعين، إلى أحد مشاهد المسلسل في بدايته، عندما تبدت الدهشة والذهول السلطان العثماني سليم الأول، أمام التطور العمراني الهائل في القاهرة على أيدي المماليك، والذي كان قد تمكن من التخلص منهم قبلها في معركة «مرج دابق».
استشهد «التميمي» بنص ذكره المؤرخ العبقري ابن إياس، والذي أشار بدوره إلى ما فعله المحتل العثماني، من شحن كامل للحرفيين والصناع وأرباب الحرف من أصحاب المهن المختلفة، وحتى التحف والمجوهرات وقناديل المساجد وغيرها إلى إسطنبول، وهو ما سبب انقراض 50 حرفة.
وكان من بين هؤلاء الذين استقدمهم المحتل العثماني عنوة، جد «حسن النعماني» الشهير ب «أرابيسك»، وهي صورة رمزية عبر بها المؤلف الكبير أسامة أنور عكاشة عن فداحة ما خلفه الاحتلال العثماني.
وربما يغيب على البعض أن قصة «حسن أرابيسك» المتمسك بفنه وحرفة أجداده التي توارثها تباعا هي في الأصل قصة حقيقية؛ وبطلها الحقيقي يدعى «علي حمامة» ولا تزال «ورشته» قابعة في منطقة مصر القديمة.
وسلط التميمي الضوء على «التيمة» الأساسية التي اتبعها المؤلف الكبير أسامة أنور عكاشة، عند تقديمه العمل الدرامي؛ إذ جعل من حسن النعماني أيقونة تعبر عن البطل المصري، بكل تناقضاته وصراعاته الداخلية والخارجية؛ فكان حسن جزءا من تكوين جيل بحالة، وبما يحمله هذا الجيل من صراع بين الحفاظ على القيم والأخلاق في كفة وبين سطوة المادة وطغيان الفلوس في الكفة الثانية، وهي الحالة التي عبر عنها الأبنودي في إحدى قصائده عندما قال «ودلوقتي لعبة اخطف طيرا».
بدأ ذلك بمظاهر تمسك «حسن» بالفن الأصيل؛ بداية من تصاميم منزلة المزدان بفنون «الأرابيسك» العتيقة والأثاث ذي الطراز التقليدي، وورشته القابعة بين أطلال القاهرة القديمة والتي تجد بتصدرها باقي «المحال والورش» كأنها وصاحبها يمثلان مصدرا لغوث العباد، وملاذا لكل سائل أو حتى عابر سبيل، وهو ما تعبر عنه مصر منذ فجر التاريخ وحتى الآن.
ولأن ورشة «المحروسة» وصاحبها حسن، يمثلان مصر وضميرها الجمعي، فلا يقبل «حسن النعماني» أي محاولات لشراء «الورشة» أو المشاركة بها، رغم سقوطه في «فخ» الفقر والديون بدافع «الكسل» والتمادي في رفض إنجاز أعمال يرى أنها لا تناسب ذوقه.
وبين ثنايا هذا العرض المتميز لمشاهد العمل الدرامي الذي مر عليه ٣٠ عاما، يبرز «التميمي» العديد من الحوارات الثنائية بين أبطال المسلسل، خاصة تلك التي عبر عنها الفنان الراحل حسن حسني، والذي جسد شخصية الموظف المثقف ويدعى «وفائي» وهو اسم ذات معنى.
وفائي الموظف الذي يقبع في مبنى آيل للسقوط، يستند في الوقت ذاته على مخزون ثقافي ممتد، ويمثل بالنسبة لحسن النعماني نداء الوعي الداعم للتمسك بالفن الأصيل والمبادئ والقيم النبيلة.
وعلى النقيض، نجد «رمضان الخضري» تاجر الموبيليا، تحتشد عنده كل أدوات الثروة بفعل مجاراة الحداثة والتطوير حتى ولو كان ذلك على حساب العمل المتقن والذوق الرفيع.
وخلال حلقات متصلة، انتقى منها «التميمي» المشاهد الأكثر تعبيراً وحيوية، حيث ركز على الحوارات التي تأخذ طابع الصراع بين مبادئ الأصالة والشرف والذي يمثلهم «حسن النعماني» وبين معايير الزمن الجديد بتقلباته وتطوره السريع نحو التقدم المنطقي حينا والغش والتلاعب أحيانا أخرى، وأيضًا ما عانت منه مصر خلال فترة التسعينات من موجات الإرهاب والتطرف.
لم يكن حسن النعماني “المنتصر في حرب أكتوبر” كما صوره المؤلف أسامة أنور عكاشة، نقيا من الشوائب رغم تمسكه بالفن الأصيل، بل دفعه الكسل والتعالي حينا عن العمل إلى «مواخير المزاج» وشرب الحشيش، حتى أصبح ملاما لكل من حوله؛ وهو ما يعبر عن حالة «التية» التي وقع فيها العديد من جيل أكتوبر حينها بفعل التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وقتها.
وبعد سنوات من منهج حسن في الإدارة ورفضه المتكرر للعمل الذي لا يتناسب مع ذوقه، أصبحت ورشة «المحروسة» في حالة يرثى لها؛ إذ انخفض الإقبال عليها من الزبائن وتجار الجملة، حتى جاءه الغوث عن طريق أحد أصدقائه «مهندسي الديكور» والذي يسعى لتصميم صالة شرقية من الأرابيسك لـ «فيلا» دكتور جامعي يدعى “برهان”، كان قد عاد مؤخرًا من سفره الطويل في أمريكا حيث عمل في إحدى وكالات الطاقة الذرية.
ومن هنا، كانت الفرصة سانحة لـ “حسن النعماني” من جديد للعودة للعمل وتنفيذ مشروع مربح ويناسب ذوقه أو كما كان يردد “هي دي فتح الانطلاقة”، وعلى إثرها استدعى كل العمال الذين فارقوه في وقت لاحق بسبب حالة الركود في البيع والشراء.
ولكن “حسن النعماني”، هذا الفنان الموهوب، المتسائل دومًا عن أصل الأشياء وماهيتها، اصطدم برؤية زوجة الدكتور برهان، الراغبة في أن تكون الصالة الشرقية لـ«الفيلا» جامعة لكل تاريخ مصر (فرعوني، وروماني، وإغريقي، ومملوكي)، وهو ما يعكس ازدحامًا واضحًا لمختلف الفنون فلكل حقبة زمنية لونًا مختلفًا عن الآخر، وهو ما يعبر عن حالة شرود وضياع حول مفهوم «الهوية»
وبشكل مدهش، نقل المؤلف الكبير أسامة أنور عكاشة “قضية حسن” في تصميم الشكل الداخلي للفيلا التي انهارات بعد ذلك بسبب أساسها الهزيل، إلى حديث مباشر للعقل الجمعي المصري، حول “مفهوم الهوية” وهو الأمر الذي يصل بنا في الوقت ذاته إلى طرح سؤال جوهري (من نحن؟ .. وماذا نريد؟) وهي في رأيي الخطوة الأولى لـ “فتح الانطلاقة الحقيقية” كما قال «أسامة أنور عكاشة» على لسان “حسن النعماني”، فالإنسان لا يعيش لحظته الحاضرة فقط، بل يعتبر نفسه امتداداً للماضي.
وحقيقة مثل هذه الأعمال الدرامية، الذي استدعاها الكاتب الصحفي محمود التميمي بعد 30 عام، والتي تسعى إلى أن يكون هناك ارتباطًا وثيقًا بين المواطن والوطن هي خير داعم لجهاز المناعة لحماية المجتمع المصري من التشرذم أو موجات التطرف.