أحمد سالم يكتب..الجيل زد وآمال هزيمة الهزيمة

ربما يعتبر من المبالغة في التفاؤل إسقاط كلمات كتبها نزار قباني منذ ما يقارب الخمس عقود في هوامش على دفتر النكسة عن جيل قادم سيهزم الهزيمة، “جيل غاضب يفلح الآفاق، ينكش التاريخ من جذوره وينكش الفكر من الاعماق” على الشباب اليوم، وربما يدفعني لذلك مستوى التفاعل القوي والثابت بل والمتصاعد في محيطي العربي وبين أبناء جيلي في أنحاء مختلفة من العالم مع احداث العدوان الوحشي الاسرائيلي على غزة، وهو تفاعل غير مسبوق بين الشباب -على الأقل عربياً- مع قضية شأن عام، وقضية راهنت إسرائيل وحلفاؤها وزملاؤها في احتراف تضليل الرأي العام على نسيانها، بالذات من جيل قد لا تمثل له أي من الحروب او الانتفاضات الكبرى إلا أجزاءً من التاريخ.

عند استخدام أي من محركات البحث، وبمجرد كتابة كلمتي الجيل زد وفلسطين (gen z and Palestine) تنهمر النتائج بسيل من المقالات المتسائلة، لتجد الكلمة الأكثر تكراراً هي لماذا، وهو ما يعبر بوضوح عن صدمة ومحاولة لفهم رد الفعل المختلف كمّا ونوعاً من هذه الفئة العمرية مقارنة بآباءهم في الغرب، والأكثر إثارة للتأمل أن أجد صدمة مشابهة في مقالات وتدوينات الكتاب العرب من مستوى تفاعل “الأجيال الجديدة” مع الأحداث في غزة منذ السابع من أكتوبر.

بينما أكتب هذا المقال، هناك عشرات الآلاف من الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا يعتصمون في ساحات جامعاتهم المختلفة للتضامن من الشعب الفلسطيني ويطالبون جامعاتهم بوقف التعامل والتعاون مع الشركات الداعمة لدولة إسرائيل، بل وادانتها علنياً.
تعد التظاهرات في الجامعات الأمريكية أمراً معتاداً ولكن هذه المرة تصاعدت التوترات بين الطلاب وبين إدارات الجامعات إلى مستويات غير مسبوقة في حراك طلابي لم تشهد مثله الجامعات منذ عقود، وعلى الرغم من قيام بعض هذه المظاهرات في بعض أرقى الجامعات الامريكية التي يتطلب الانضمام إليها سيرة ذاتية مبهرة إلى جانب مئات الآلاف من الدولارات، فقد قامت رئيسة جامعة كولومبيا مثلاً ذات الأصول المصرية باستدعاء الشرطة لفض المظاهرات واعتقال بعض الطلاب، ولان التظاهر حق طبيعي محفوظ -لا سمح الله- في الجامعات، فقدت حرصت على توقيع قرار بفصلهم أولاً ليتم القبض عليهم بتهمة التعدي على ممتلكات الجامعة!
أشعلت هذه المواجهة غضب الطلاب من جامعات مختلفة لينضمو إلى الحراك مطالبين بالإفراج عن زملائهم وإلغاء قرارات فصلهم بالإضافة للمطالب الأصلية الداعمة للشعب الفلسطيني ليكون الفضل كالعادة في توسيع الحراك الذي امتد إلى جامعات أمريكية وكندية وأوروبية أخرى وإكسابه الزخم ورفع سقف مطالبه، يرجع إلى القرارات التعسفية والقمع.

إن ردود الافعال العنيفة والمرتجلة من إدارات الجامعات وتصريحات السياسيين المرتبكة تعبر عن صدمة عميقة ليس سببها حجم الحراك فقط، ولكن المكان أيضا، فقيام حراك بهذا الحجم بشكل أساسي في جامعات بعينها تعد مراكز إعداد النخبة السياسية والإجتماعية يشي بفجوة كبيرة في وجهات النظر بين الجيلين، ولن يقتصر أثره على الضغط المباشر الآني على النخبة الحاكمة، وإنما سيمتد ويزيد أثره على السياسة الخارجية على المدى المتوسط والبعيد.

يمكن ببساطة تفسير هذا الصدام بأنه مواجهة بين طلاب يمثلون جيلاً جديداً لا يمكن التحكم به عبر أي سردية رسمية مفلترة أياً كانت، فهو لا يعترف بوسائل الإعلام الرسمية اصلا، ولم ترَ أعينه سوى مشاهد القصف المتعمد للمستشفيات ومراكز الإيواء وآلاف الضحايا بين قتيل أو مصاب أو مجوّع، وفوق ذلك يتابع القمع العنيف لزملائه المتضامنين مع قضية عادلة، وبين جيل في مواقع السلطة إن كان يشاهد أمام عينيه انهيار سيطرة السردية الإسرائيلية على المجال العام، فهو مكبّل وخاضع باستسلام للحسابات السياسية المباشرة اليوم وموازين القوة المختلة.

إن هذه الاحتجاجات لم تحدث في الفراغ ولا يمكن اختزال التيار الشاب الداعم لفلسطين في الغرب في مجموعة من الطلاب اليساريين المتحمسين او طلاب من أصول عربية او مسلمة، فقد خرجت المظاهرات الداعمة لفلسطين داخل وخارج الجامعات بمشاركة شباب من خلفيات عرقية ودينية وطبقية متنوعة، وتمتد المواقف الرافضة لجرائم اسرائيل لعاملين في مختلف الشركات مثل ابل وجوجل والمؤسسات الإعلامية وغيرها، والذين انتقدو علناً سياسة أماكن عملهم الداعمة لإسرائيل، ونموذج صادم على هذا الموقف الحاد جاء من قلب الجيش الامريكي وهو المشهد الذي لا يمكن محوه من الاذهان، جسد آرون بوشنل المشتعل بالنيران، وهو الشاب الأبيض ذو ال٢٥ عاماً، الطيار في سلاح الجو الأمريكي الذي قرر أنه لن يكون متواطئا في الإبادة الجماعية فأشعل في نفسه النار أمام السفارة الإسرائيلية وهو يهتف بالحرية لفلسطين.
وبعيداً عن التحليل النفسي العميق لدوافع آرون وحالته النفسية، وكيفية تعامل زملائه مع هذه الصدمة، وهي الطريقة التي فضلتها أغلب وسائل الإعلام وخبراء تفريغ الاشياء من معناها لتغطية هذا الحدث، فلا يمكني اعتبار آرون إلا كرمز لجيل كامل يختنق بالذنب ويشتعل غضباً لأنه رأى العالم على حقيقته.

وبالعودة إلى ما قبل هذه الاحداث، وبالتوازي معها أيضاً فقد كانت مواقع التواصل الاجتماعي ساحة مهمة من ساحات هذا الحراك باعتبارها وسيلة التواصل الأساسية لأبناء هذا الجيل، وأحيانا الوسيلة الوحيدة المتاحة كأداة للتعبير عن الرأي. ودارت نقاشات طويلة منذ بداية الأحداث في السابع من أكتوبر حول دور مواقع التواصل المختلفة في تشكيل الوعي باحداث العدوان وظهر جلياً الفارق بين سياسات المنصات المختلفة حول مدى تقييد المحتوى المتعلق بالقضية الفلسطينية، فمثلاً بينما يحتوي هاشتاج #freepalestine على منصة انستجرام التابعة لشركة ميتا والتي تقوم بتقييد المحتوى على ٩,٥ مليون منشوراً، يتجاوز نفس الوسم الربع مليار منشور على منصة تيكتوك ذات الإنتشار الأوسع بين الشرائح العمرية الأصغر، والتي لاقت اتهامات من بعض اعضاء الكونجرس بالترويج الفعلي للمحتوى الداعم لفلسطين.

وهكذا، لم تعد تمتلك المنظومة الداعمة لإسرائيل التي لا يقتصر إحتلالها على أراضي فلسطين التاريخية، وإنما تحتل أيضاً مساحات واسعة من أروقة صنع القرار ومجالس إدارات الشركات وعقول المفكرين وأقلام الكتاب، سوى الحملات الإعلامية الفاشلة وابتزاز الدعم أو محاولة حجب هذه المنصة أو تلك واتهامها بتعمد الترويج لمحتوى مسيس، بل واتهم رئيس مجلس النواب الامريكي الطلاب المتظاهرين بأنهم مدعومون من حماس!

يمكن اعتبار أحداث العدوان الإسرائيلي التالية للسابع من أكتوبر نقطة تحول أظهرت على السطح الدعم المتزايد بين أبناء هذا الجيل للجانب الفلسطيني، ولكنها لم توجد هذا الدعم من العدم، فبينما أظهرت استطلاعات الرأي على مدار الشهور التالية لاكتوبر دعماً متنامياً للجانب الفلسطيني بين الشباب الأمريكي الأقل من ٢٥ عاماً حيث يؤيد ٤٨٪؜ دعم إسرائيل مقارنة ب٦٣٪؜ و٨٣٪؜ للأجيال الأكبر وفقاً لاستطلاع نقلته اكسيوس، فإن استطلاعات أخرى قبل هذه الأحداث تظهر تبايناً كبيراً بين الأجيال الأكبر الأكثر ميلاً لدعم إسرائيل، واحة الديمقراطية في الشرق الاوسط والمحاطة بأعداء متربصين، وبين جيل متشكك لم يعرف سوى إسرائيل اليوم دولة الفصل العنصري وقصف المستشفيات، تحت قيادة مجموعة من اليمينيين المتعصبين لدرجة الجنون، ونتنياهو الهارب من الأحكام القضائية والذي لم يخرج من السلطة منذ أن عرفو الدنيا.

ويعيد بعض الباحثين مثل صامويل أبرامز زميل معهد إنتربرايز الأمريكي، ميل هذا الجيل نحو دعم فلسطين إلى أن هذا الدعم يتوافق مع “الحزمة” الشاملة من توجهات هذا الجيل، وفي مركزها فكرة الاتساق في تبني المواقف، بمعنى إذا كنت مؤيداً للعدالة إذن عليك الدفاع عن مجموعة العدالة كاملة، فمن الطبيعي ان تحركك مشاهد الابادة العرقية الموثقة بالصوت والصورة على هاتفك مثلما انتفضت ضد العنصرية ووحشية الشرطة على خلفية فيديو جورج فلويد، اتساقاً مع مواقفك الاخرى المطالبة بالعدالة الاجتماعية، والجندرية، والمناخية.

وبينما يمكن قياس الرأي العام في الغرب بسهولة نسبياً مقارنة ببلادنا بين المحيط والخليج، من المثير أيضاً تلمّس صدمة ما مشابهة من موقف الشباب بين سطور الكثير المقالات العربية التي قرأتها منذ السابع من أكتوبر، صدمة مخلوطة أحيانا بالإحتفاء وعودة الأمل لجيل آباء توالت عليه الخيبات، حتى كان قد استسلم قطاعات منه لمواقف ورؤى جميعها ينطلق أولاً من التسليم بشبه استحالة تحقيق اي مكسب في مواجهة اسرائيل، او إنجاز أي تقدم في القضية الفلسطينية التي لم تعد تشغل الذهنية العربية في ظل ظروف إقليمية إقتصادية وسياسية متقلبة وصعبة.

ولكن الشباب العربي المنهمك في البحث عن حلول للنجاة الفردية من ظروف صعبة عموماً، والمتهم أحياناً بالسطحية وعدم الإكتراث للقضايا الجمعية للأمة العربية -التي لم ير الا حطامها-، انتفض الشباب للمشاهد المروعة للقتل والتهجير، ولم يتركوا أي مساحة ممكنة أو شبه ممكنة الا واستغلوها بل وحاولو توسيعها للحد الاقصى للتعبير عن تضامنهم ودعمهم لحق الشعب الفلسطيني في الحياة والمقاومة، ورغم الأنظمة والقوانين شديدة التقييد في مسألة التعبير عن الرأي وحرية التظاهر خرج الشباب في مظاهرات في عدة عواصم عربية في الميادين وأمام السفارات الاسرائيلية شهد بعضها اشتباكات مع الشرطة، والقبض على اعداد من المتظاهرين، ووثقت مظاهرات متفرقة في بعض الجامعات، ومواقف مشرفة لبعض اتحادات الطلاب الميتة إكلينيكياً، ولكن في فضاء أكثر رحابة، وفي ساحتهم المعتادة، يظهر الشباب التعاطف والدعم بشكل أوسع في مدى التفاعل والاهتمام بمجريات الاحداث ونشرها، وامتد الامر لتحويل صفحاتهم الى منصات للمشاركة في جمع التبرعات وانشاء وترجمة ونشر محتوى حول تاريخ ومجريات الصراع.

يتشكل اليوم بين الشباب في المنطقة والعالم وعي جمعي جديد في عالم شديد الإختلاف عن سابقه، عالم لم يعرف فيه الشاب العربي خطاباً رسمياً أو شعبيّ عن رمي اليهود في البحر متبوعاً بهزائم وانتصارات ومسارات للتسوية، وانما يتابع اتفاقات التطبيع المتتالية بلا مقابل تقريباً، ويحفظ عن ظهر قلب جملة “التسوية الشاملة والعادلة للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود يونيو ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية” من تكرار سماعها على لسان مسؤوليه دون أي جديد، بينما يقرأ في استطلاع نقلته نيوز ويك عن مركز الدراسات السياسية الامريكية (CAPS) التابع لهارڤارد بأن أكثر من نصف أقرانه يؤيدون حل الدولة الواحدة وإنهاء دولة إسرائيل بشكلها الحالي، مشكلين للمرة الاولى أغلبية ضد حل الدولتين.

ومثلما لا يمكن التنبؤ بمسار الأحداث في غزة، لايمكن أيضاً التنبؤ بمدى تأثير هذا الحراك على الوعي الجمعي للشباب العربي الذي حركه بشكل اساسي حسه للعدالة، والذي سبق الأسباب القومية والدينية (والتي كانت أكثر تأثيرا على أجيال أكبر) وانتباهه لكارثة إنسانية ترتكب بحق الشعب الفلسطيني فقط لكونه فلسطينياً، ومحاولة إبادته وتهجيره على يد دولة يتظاهر شعبها في ميادينها لوقف الحرب العبثية واستعادة الرهائن، ويندد بجرائمها اليهود قبل غيرهم، ويتسابق معهم في إدانتها والتنديد بجرائمها الشرفاء من العالم بأسره، ويتبنى قضيتها كل الأحرار في إطار دعم شعب يناضل من أجل التحرر الوطني.

عالم جديد، وجذور تعاطف مختلفة، سردية جديدة تتشكل حول الصراع، وحلفاء جدد إلى جانب الشعب الفلسطيني، بما يستوجب عليهم وهم أصحاب الأرض والحق، وعلينا إن كنا جادين في دعمنا، المحاولة للوصول لفهم أعمق للواقع السياسي المتغير، وإعادة تقييم خطابنا واستراتيجيتنا، من أجل الإستفادة من هذا الزخم وتنميته، وتوجيهه إلى مسارات سياسية فعالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار