حسام خضرا يكتب: غزة.. إمبراطورية الوهم..!!

في نهاية التسعينيات نشطت الحركة الثقافية بقوة داخل الأراضي الفلسطينية، وأفرزت مجموعات من الكتاب والفنانين والأدباء كما بدأت بعض الدول العربية ترسل قوتها الناعمة إلى مناطق السلطة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية للمساهمة في تنشيط تلك الحالة وكان القطاع في تلك الفترة هو المركز الأساسي للقرار فمنه انطلق تلفزيون فلسطين لأول مرة ومنه كان المطار والميناء وحركة التجارة والعمال.
ولا أنسى أنني شاركت في إحدى هذه الفعاليات في تلك الفترة حين حضر الفنان الأردني ربيع شهاب صاحب المسلسل الشهير “عليوة والأيام” إلى قطاع غزة وقام بعرض مجموعة من المسرحيات في قاعة منتجع النورس، كما لا أنسى سلسلة معرض الكتاب السنوية التي كانت تقام في المنطقة الشمالية من السودانية وكيف كانت تلك الأيام مبشرة بطفرة ثقافية لمجتمع أنهكته المعاناة وكان بحاجة إلى ضخ دماء المعرفة في أجياله الجديدة، ولا أنسى أيضاً حين كنت في طالباً في الابتدائية ومع تلك الطفرة الثقافية بدأت ثقافتنا أيضاً تتطور حتى أصبحنا ننتج مسرحاً وكانت تقام لنا الرحلات في مسارح متواضعة للتعرف على ذلك النوع من الفنون، وأذكر جيداً اسم المسرحية التي حضرتها في ذلك الوقت وكانت بعنوان “الفيل يا ملك الزمان”، كما لا أنسى أننا كنا من أوائل الدول العربية في إدخال الكمبيوتر إلى المدارس وكانت هناك قاعة مخصصة للتعليم على جهاز الكمبيوتر في ذلك الوقت، وكان إسم المدرس لتلك المادة في مدرستنا الأستاذ ماجد الزئبق، وكان رجلاً بشوش الوجه طويل القامة دمث الخلق.
إن ما ذكرته وغيره كثير لا تسعفني الذاكرة على تذوق مرارة ذكراه كان منهاجاً يسير بخطى ثابتة لبناء جيل يقدر الثقافة والعلم والفنون بأنواعها ويفرز أفراداً ومجموعات تؤثر بقدرتها على زرع الكلمة في موضعها وقيادة المستقبل باتجاه معلوم، لكن وبما أن الجهل هو سيد المعرفة بالنسبة للمجموعات التي تتشدق بالإسلام كمنهاج لتحقيق تطلعاتهم وأطماعهم بالسلطة والحكم كان أول شيء دمره عناصر حماس مع اندلاع الانتفاضة في مظاهراتهم التي كانت تنطلق أسبوعياً من أمام المساجد التي أصبحت وكراً استعمارياً للعقول هو تلك الأماكن بما كانت تحويه من مقاهٍ ومطاعم ومكتبات وبيوت متواضعة للمسرح على اعتبار أنها من مفسدات المجتمع، ولا أنسى أنني كنت شاهداً على حرق ما كنا نسميها منطقة الطاحونة، وأذكر جيداً اسم الشخص الذي بدأ بإلقاء قنابل المولوتوف وهو الآن لاجئ سياسي يعيش في دولة أوروبية يحمل جنسيتها ويتنعم أطفاله بالثقافة والفنون والعلوم فيها، وظني أنه نادم على تلك الخطوة التي كانت حمقاً كبيراً في تلك الفترة لشبان مسحت أدمغتهم وأصبحوا عبيداً لمنظمة تجيد فن غسيل الأدمغة.
إن حرق تلك الأماكن في بداية الانتفاضة الثانية وتدميرها ووصمها بأنها أماكن للفساد والدعارة من قبل حماس وزمرتها كان كفيلاً بتشريد جيل كامل وتدميره ثقافياً ومعرفياً، لكن وفي نفس الوقت عملت الحركة على تحويل المساجد من أماكن للعبادة إلى مراكز رياضية وأسواق وبازارات ومحال تجارية وملاعب لكرة القدم، وكان الهدف وراء ذلك هو ترغيب الأجيال الجديدة في المساجد بعد أن تم مسح كل شيء يتعلق بالثقافة الحضارية للإنسان، بداية بإقامة دوريات لكرة القدم وليس نهاية برحلات يمكنك الانضمام إليها حتى إن لم تكن إبناً للمسجد كما كانوا يصنفون الأطفال في ذلك الوقت، وكانت الأموال تغدق بكثرة على تلك الأنشطة خاصة في الأمور التي تخص الطعام والشراب والمواصلات وهو أمر غاية في الأهمية، فأنت كطفل لم تكن مطالباً حتى بدفع اشتراك لتلك الرحلات وهو ما أعطى حالة من الشعور بالارتياح حتى بالنسبة للسكان المحليين.
وخلال سنوات قليلة انقسم المجتمع على نفسه وأصبح السكان يصنفون الأطفال على أن هذا إبن مسجد وهذا إبن شارع وسادت ثقافة التدين السطحي السمج والأزياء الرديئة المتمثلة بالتصنيف الاجتماعي وأصبح كل شيء له إسمان “إسلامي-حَبَتي” بلغة سكان القطاع، وحرصت حماس على تعبئة الأدمغة بما يتماشى مع سياستها ومخططاتها المستقبلية حتى وصلنا إلى مرحلة أصبحنا فيها قادرين على هدم جبل بإبرة ولكن قدرتنا تختفي عند النقاش مع شخص ينتمي للحركة، فالعقول تيبست وسادت ثقافة الموت والسلاح أصبح في كل منزل، لكن ولأمانة النقل لا ننسى اهتمام الحركة بالتعليم لعناصرها لكن التعليم بالنسبة لهم هو التخصص فالطبيب لديهم لا يعي شيئاً بغير تخصصه، ومهندسهم لا يفقه شيئاً بغير أقلامه ومنقلته، فنيل العلم في تخصص محدد لا يعني بالطبع أن تكون مثقفاً أو ملماً بالحياة الاجتماعية أو غيرها من العلوم، بل إن تفكيرك وعلمك يقتصر على ما درسته إلى جانب التعليم الديني الذي اقتصر استخدامه على تمييز المنتمين للحركة على أنهم أهل الصلاح وغيرهم أهل الفساد والمكر والخذلان.
إن تلك الأدمغة التي نراها اليوم في الشوارع تحمل أسلحتها وتنهب وتقتل وتعذب الفلسطينيين المخالفين الرافضين لاستمرار وجود حماس في الحكم هي نتاج سنوات من الجهود التي بذلتها الحركة في التجهيل وتدمير الحركة الثقافية وقمع الاختلاف وقتل الرأي المنافس وزرع الاستعلاء والغرور في نفوس المنتمين والمناصرين بأفكار دينية مغلوطة، حتى وصلنا إلى مرحلة من الغرور أوصلت مناصري الحركة لأن يمنحوك شعوراً بأن القرآن قد نزل على حماس ولم ينزل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فلا يكاد يخلوا نقاش مع عناصرهم من آية أو حديث يستخدمونها وكأنها أنزلت لهم خصيصاً.
وعلى ما نحن عليه الآن فقد وصلنا إلى مرحلة النهاية لكل هذا التردي، وأصبح لزاماً على المجتمع الفلسطيني تطهير نفسه من تلك الآفة التي زرعت الخراب واستخدمت أسمى مقومات الصمود الفلسطيني “الإنسان”، وأصبح من الواضح للعيان أن سلاحهم لا هدف له حتى بات مشبوهاً في يد حامليه من المغيبين، وإذا لم تضعوا حداً لهذا السلاح فإنه حتماً سيضع حداً لوجودكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار
الضرائب توضح خضوع مطاعم وكافيهات محددة للضريبة وتحذر من محتوى تحريضي مضلل البلشي يعلن تضامن "الصحفيين" مع"المحامين" في موقفها من الرسوم القضائية رحلة حياة الرئيس السوري.. حقيقة إنتاج هوليوود فيلمًا سينمائيًا عن أحمد الشرع مصر تدين الهجوم الإرهابى فى الصومال وزير الخارجية والهجرة يستقبل كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشئون العربية والشرق الأوسط والمستشار رفيع المستوي للشئون الأفريقية كلمات الترحيب بلقاء المحبة بين قداسة البابا تواضروس الثاني والآباء بطاركة الكنائس الأرثوذكسية الشرقية في الشرق الأوسط في جلسة نقاشية بحضور برلمانيين وسياسيين "حزب الوعي "يناشد الحكومة باعتماد حلول واقعية لمشكلة الايجار القديم رئيس الأعلى للإعلام يستقبل نقيب الصحفيين لمناقشة عدد من ملفات العمل المشتركة محمد شحاتة : مصر مليئة بفرص العمل ويجب علي الشباب استغلالها حصيلة جديدة للضحايا في قطاع غزة مع استمرار القصف الإسرائيلي على المدنيين