عاطف لبيب النجمي يكتب..القاضي شعبان الشامي واستقلال القضاء..حين يختلط العدل بالاختيار

في خضم الأحداث المتلاحقة، وموجات الغضب والجدل،ومن يترحم علي رحيل القاضي شعبان الشامي ومن يتشفي غابت عن الرأي العام المصري واحدة من أخطر القضايا التي تمس جوهر العدالة: قضية تخصيص دوائر معينة لنظر قضايا الإرهاب، واختيار قضاة بعينهم للنظر فيها خارج قواعد التوزيع العادل للقضايا. لم يكن القاضي شعبان الشامي ـ رحمه الله ـ إلا شاهدًا على هذا الانحراف، بل كان أحد الأدلة علي ترسيخ الظاهرة وتأكيد انها ممارسة مؤسسية تهدد استقلال القضاء برمّته.
ونحن انشغلنا بوفاة القاضي شعبان الشامي فرد في المنظومه التي أصبحت ظاهره ولم ننشغل بالمنظومه التي صنعت شعبان الشامي
حين يصبح القاضي طرفًا
إن جوهر العدالة لا يُقاس فقط بنوعية الأحكام أو شدتها، بل بمنهج إصدارها، والبيئة التي تُصدر فيها. وعندما يقبل قاضٍ أن يُعين بقرار إداري للنظر في نوع محدد من القضايا، دون اعتماد آلية توزيع عشوائي ومنصف، فإننا لا نتحدث عن خلل إداري، بل عن خلل دستوري يمس مبدأ استقلال القضاء ذاته.
المشكلة هنا لا تتعلق بحجم العقوبة، ولا بموقف القاضي من المتهم، ولا اهدار حق الدفاع بل بالسؤال الجوهري: هل بقي القاضي مستقلًا؟ أم أنه أصبح، بفعل آلية التعيين، طرفًا غير محايد في صراع سياسي أو أمني؟
الدستور المصري واضح… والتطبيق معكوس
تنص المادة 184 من الدستور المصري على أن “السلطة القضائية مستقلة”، وتؤكد المادة 186 أن “القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون”، كما تلزم المادة 94 باحترام الأحكام القضائية باعتبارها عنوان الحقيقة القانونية.
رغم ذلك، شهدنا في السنوات الأخيرة قرارات صادرة عن المجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل تقضي بتخصيص دوائر معينة لقضايا الإرهاب، مع اختيار القضاة المكلفين بها بناءً على معايير لا يُعلن عنها، وهو ما يناقض صراحة المبادئ الدستورية السابقة، ويُعد إهدارًا لقاعدة “القاضي الطبيعي”، المنصوص عليها أيضًا في الدستور.
ماذا يقول العالم المتحضر؟
النموذج الألماني: الشفافية أولًا
في ألمانيا، تعتمد المحاكم على نظام توزيع إلكتروني دقيق للقضايا (Geschäftsverteilungsplan)، يضمن أن تُوزع القضايا وفق مبدأ التناوب العشوائي، وتُمنع التدخلات الشخصية أو الإدارية في هذا الشأن. ويُعتبر تدخل رئيس المحكمة في التوزيع مخالفة خطيرة إلا في حالات الضرورة القصوى، وبشفافية كاملة.
النموذج الفرنسي: استقلال المجلس القضائي
أما في فرنسا، فيخضع القضاة لرقابة المجلس الأعلى للقضاء (Conseil Supérieur de la Magistrature)، وهو هيئة دستورية مستقلة. لا يمكن تعيين قاضٍ في قضية بعينها، بل يُنظر في الملفات بناءً على جدول دوري مسبق يضمن عدم التسييس أو التخصيص. أي تدخل في التوزيع يُعد مساسًا باستقلال القضاء وموجبًا للمساءلة.
النموذج الأمريكي: الفصل الصارم
رغم أن القضاة الفيدراليين في الولايات المتحدة يُعينون بقرار سياسي، إلا أن توزيع القضايا داخل كل محكمة يخضع لنظام تناوب صارم. ولا يمكن أن يُخصص قاضٍ لقضية معينة خارج هذا النظام دون اعتراض من الأطراف أو تدخل من جهات الرقابة القضائية.
القضية أكبر من الشامي
إن وفاة القاضي الشامي، بكل ما صاحبها من غموض، لا يجب أن تُشتت انتباهنا عن المسألة الأساسية: استقلال القضاء في مصر بات في مهب الريح.
لم يكن الرجل سوى مرآة عاكسة لمشكلة أعمق، وهي تحوّل بعض القضاة إلى أدوات تنفيذية، لا إلى حماة للعدل، من خلال قبولهم أداء أدوار مرسومة في دوائر مختارة سلفًا.
إن الدفاع عن استقلال القضاء لا يعني الهجوم على مؤسسة الدولة، بل هو دفاع عن الدولة ذاتها. فحين يفقد المواطن ثقته في عدالة القاضي، تسقط الدولة في عينيه، ويصبح البديل هو الفوضى.
يا شعب مصر، لا تنشغلوا بالموت كحدث فردي، بل انتبهوا إلى ما يُدبّر من تحويل للمحاكم إلى أذرع أمنية لا قضائية.
العدالة لا تُبنى بقضاة مختارين، بل بقضاء مستقل. وإذا كان القاضي الشامي قد غاب، فإن ما صنعه باقٍ، صوتًا لا يجب أن يُنسى، وجرسًا لا يجوز كتمه.