الدكتورة أماني فؤاد تكتب :الحداثة وشرك القداسة
بعض الخطابات التي تقابل بالتصفيق والتهليل من الجموع تدعوني للقلق مباشرة، فالجماعات تشعر بالخدر في الغالب في النطاق الذي اعتادوه، تنخدع بالأوهام لا الحقائق المنطقية، تدغدغ عواطفها اليقينيات المتأصلة السهلة التي خبروها وعاشوا وفق مقولاتها، خاصة لو أنها تعالت لمرتبة التقديس، وجاءت على لسان شيوخ العلماء والقادة، وعُدَّ محتواها أحيانا امتدادا للدين ومن مصدر السلطة فاكتسبت صفة التقديس.
تتهيب الجماعات التغيير حيث يُشعرهم بالفراغ و الوقوف في مواجهة هاوية، باهتزار هذا القادم لحداثته وعدم الوعي به، الخوف مما يمكن أن يحدثه من فوضى محتملة، أو يقلقل من أوضاعهم.
ويظل الخطاب الذي يقدمه معظم رجال الدين في كل الرسالات أول تلك الخطابات التي توظف الوهم المسكّن للنفوس، ذلك حين يوفرون إجابة لكل الأسئلة التي تشغل الإنسان، حيث يُطلق عليهم أهل اليقين، وحراس النقل والتقليد، وتظل قدرة رجل الدين الذي يستطيع إتقان الحديث في الفقه والشريعة والعبادات الأكثر استحواذا على مشاعر الجموع وتعاطفهم، خاصة لو أنه يحتل منصبا قياديا، وللتوسع يمكننا العودة لقراءة كتاب “سيكولوجيا الحشود” لجوستاف لوبون.
ويذهب كل اجتهاد يحاول تبديد هذا الوهم المريح، وتفكيك هذا اليقين المنجز ضحية انفعال ورعونة الجموع التي تسيرها الخطابات الأكثر يقينية وراحة، وليس الأكثر منطقية وعلمية. ولعل قتل الفيلسوفة المصرية هيباتيا لم يزل شاهدا تاريخيا على كيف تتحرك الجموع، ورفضها للرأي الآخر ووحشية اختلافها، ومدى تأثير الخطاب الديني على حركتها.
يتجلى الحوار الذي دار بين رئيس جامعة القاهرة وشيخ الأزهر بالأمس مؤشرا كاشفا لصراع قديم يتجدد كل آن منذ بدأ عصر النهضة الذي تراجعت أنواره مرات، وتكررت إخفاقاته مع تقويض كل مبادرة يقوم بها تيار التنوير من خلال أعلامه.
ينبئ هذا الحوار عن منهجين متقابلين في التفكير وفهم طبيعة الحياة: منهج يتوسل بالحداثة، حيث يثمن العقل الناقد، القادر على التساؤل ومناقشة الموروث وليس التسليم به، غير المتهيب من القطيعة مع كل ما يثبت عدم ملائمته لمقتضيات العصر الحديث وعلومه وحقوق الإنسان به، قادر على تقديم الرؤية التي تثق أن بإمكان الإنسان المعاصر بعد كل ما توفر له من علوم ونظريات ومعارف وتراكم خبرات ودروس التاريخ أن يبدع فكر لحظته، و ينظم احتياجاتها، كما يقدّر الأحكام التي تتلاءم معها.
الحداثة طريقة تفكير تعي معنى تاريخية الظواهر واختلاف العصور، بمقدورها أن تفرق بين النص “القرآن والسنة الصحيحة المؤكدة”، وسلطة النص أي الفهم البشري للنصوص الذي انتج ما يطلق عليه “أمهات الكتب” حين فسر النص وفق أفقه الذهني الإنساني، ومعطيات لحظته التاريخية بنسقها الثقافي الذي يختلف حتما في كل مرحلة تاريخية.
الحداثة رؤية تضع التراث في حجمه وتخضعه لإعادة الفحص والتقييم، تثمن ما به من معالجات مضيئة للقضايا البشرية أنارت للإنسانية طريقها، وعُدت في وقتها ثورة على القيم الأقدم، وتفكيك معالجات أخرى لم تعد تصلح لهذا العصر وبيان عوارها. فمن المؤكد أننا جميعا نرفض رفضا قاطعا الرق أو العبودية الذي ضيق نوافذه الإسلام لكنه لم يلغه تماما تماشيا مع لحظته التاريخية الاجتماعية ــ والاقتصادية الثقافية التي نزل فيها. نستنكر ألا يحسم أمر تقيد الطلاق الشفوي، وضرورة توثيقه للحد من نسب الطلاق التي تجاوزت السبعين في المئة لحماية الأسرة وعدم تفككها.
نرفض أيضا إجازة دم ومال الآخر لمجرد أنه مختلف في الديانة أو العرق، أو حتى إلزامه بالدية، فلقد باتت المواطنة هي المفهوم الأكثر إنسانية واحتراما للحريات البشرية، حتى في هزائم الحروب صار للأسير حقوق وواجبات ينظمها قوانين ومواثيق دولية، ولا يمكن بحال أن ينظر إليهم بحسبانهم سبي حروب وغنائم أو جواري، أليست هذه القضايا المعلق البت فيها برأي قاطع في أشد الحاجة للقطيعة معها، والحسم في أحكامها، حيث أن تعليقها على هذا النحو يفتح الباب لبعض التيارات ذوات الفكر المتطرف لأن يأتوا بأحكام وأفعال تسم الإسلام برمته بالعنف والتطرف، وفي ما فعلته داعش في غزواتها في العراق وسوريا شواهد على ما أقصد.
نحن بحاجة ملحة لرؤية واسعة لمقاصد الشريعة الإسلامية السمحة التي غايتها سعادة الإنسان وحريته، إقامة العدل، أن ينعم بالحب والسلام والإخاء، هذه المقاصد الإنسانية الواسعة تُعد محطات انطلاق تأسيسية وجذرية لخطابات التجديد والتطوير.
إن التحصن خلف ما يطلق عليه منجز السلف، واجتراره، والوصول به حد تقديسه وتحصينه للوصل به إلى مكانة النص ذاته، والخوف من الاقتراب منه بالنقد والتفكيك، وإرجاع الفتوحات الشاسعة له وللتراث الذي قدمه يعد افتئاتا على الواقع، كما أن اللا اعتراف بمواضع عدم الملائمة فيه مع العصر يعد عجزا ونكوصا عن مواكبة مقتضيات العصر الحديث وعلومه وحقوق الإنسان فيه. ليس كل التراث هو ما صنع الفتوحات، علينا الاعتراف أن بعضه أيضا هو ما ضيعها.
هل كانت العصور التي حكمت فيها الشريعة الإسلامية قبل الحملة الفرنسية هي أفضل العصور من وجهة نظر الفريق الذي يتهيب التجديد؟ هل تمتع الإنسان فيها بالحريات والمساواة والعدل؟ هل كانت هناك وفرة اقتصادية في العيش، هل امتنعت المؤامرات وانمحى الفساد وتضاءلت الفجوة بين طبقات الشعوب، هل اختفى الرق والعبودية رغم التضييق، هل أخذت المرأة حقوقها كإنسان كامل الخَلق؟
لم تزل عيوب الخطاب الديني التي نعرفها جميعا تتحكم في رجالاته مهما ادعوا الوسطية والانفتاح على الثقافات الأخرى، حيث تصورهم أنهم وحدهم من يملكون الحقائق، ولذا نجد نبرة السخرية من أي طرح آخر، والاستخفاف به، والتقليل من شأن علميته، رغم تغليف الكلام بمظلة الصداقة والاحترام. يرجعون كل الأمور التي يتصورونها لصالحهم للتراث والسلف فيصبح “التجديد” مقولة تراثية وغير حداثية، وهنا يتجلى رد الظواهر إلى مبدأ واحد لديهم استسهالا وخروجا من المواجهات المتأنية المتفحصة، في حين أننا لو ناقشنا التجديد في التراث والتفكر، والتعقل، سنجد الدعوة إليهم شريطة ألا يخرج هذا التفكر عما ورد في النص بحال من الأحوال، كما عانت الحضارة الإسلامية من قفل باب الاجتهاد والتجديد حتى وصلت الأنساق الثقافية للمجتمع العربي لأسوأ أوضاعها، بالأمس انتشر فيديو لرجل يتصل بأحد البرامج لأخذ رأي الضيف حيث تطلب زوجته الطلاق بعد أن ضربها، كان يردد أنه غير مخطئ، يقول: لو ضرب كل زوج امرأته وطلبت الطلاق لخربت كل البيوت، وأحسب أن هذا الشخص قد استمع للحديث القريب الذي أدلى به شيخ الأزهر حين قال:” إن الهدف من ضرب المرأة جرح كبريائها لحماية الأسرة من التفكك والانهيار، أي استباحة تهميش كرامتها واعتدادها بذاتها وكأنها في مستوى أدنى من الرجل.
هذا بالضبط نسقٌ من التجديد الذي يُطلب من شيخ الأزهر، ألا يصدر عنه حديثٌ على هذا النحو، كنت أتصور قوله:” أن المرأة إنسان كامل الأهلية والكرامة والإنسانية، وأنه ممنوع منعا باتا ضرب الزوجة، فالمرأة التي كانت تضرب في عصور السلف وأول نزول القرآن لم تعد هي المرأة الموجودة الآن، تعلمت وعملت، شعرت بذاتها وأدركت حقوق إنسانيتها، لم يعد يمكن أن تعامل كأنها جارية. ولو أن إعداد رجال الدين يتضمن العلوم الحديثة مثل علم النفس وعلم الاجتماع، ودراسة مواثيق الحقوق التي اعتمدتها المنظمات الدولية العالمية لأدركوا أنه وفقا لتلك العلوم لا يمكن أن تظل المرأة التي تضرب تشعر بالسواء، أو المحبة للرجل الذي يمارس العنف ضدها، وأن تلك المرأة لا يمكن أن تربي أطفالا أسوياء؛ لأنها تشعر بالانتقاص وستعيد تربية بناتها وأولادها على نسق معيشتها في دورة لإعادة انتاج القهر.
الدعوة للنقاش والمشاركة والتفاهم هو الأجدى بدلا من جرح كرامة طرف اعتمادا على آية يمكن قصرها على قرأتها في التعبد، علينا التحرك وفق مقاصد الشريعة الإسلامية التي تعلي من شأن كرامة الإنسان وسعادته “المرأة والرجل”، لكن الخطاب الذي يصدر من السلطة العليا للأزهر ــ المؤسسة الدينية الأكثر رسوخا في قلب الجموع المصرية ــ يجعل الرجل يستسهل ضرب زوجته أو تعنيفها وسبها اعتمادا على مقولات المرجعية الدينية، وأقوال أخرى تتردد مثل: ناقصات عقل ودين”، لو تم تحديث مصادر ثقافة رجل الدين وعلومه لتساءل كيف تحمي المرأة الأسرة وهي مجروحة الكبرياء، لا تشعر بالمحبة، معنفة ومهدور كرامتها؟ لأدرك أن الإنسان حين يشعر بالقهر يحاول أن ينتقم بطريقته الخاصة وفي الخفاء، فحين تنكسر الروح تكمن الكراهية.
لعلنا نتساءل مع شيخ الأزهر لماذا لا نتقدم حتى أننا لم نصنع إطار لعربة حتى الآن؟ هل فكرت المؤسسة الدينية مرة أن النسق الثقافي الذي أشاعته بين الناس يجعلهم كسالى، فهم خير أمة أخرجت للناس دون فعل أو حث على ابتكار، يستمر شيوخها في طرح قضايا خلافية هامشية تنحصر في لبس المرأة وغطائها باعتباره دالا وعلامة على الهوية الإسلامية، في حين أن أقوى دول العالم من حولنا تحكمها النساء، وترأس حكوماتها وجامعاتها ومعاملها، وتصعد بسفنها الفضائية إلى اكتشاف المستقبل، المرأة لديهم مثل الرجل كائن متعدد الأدوار والمستويات، جسدها ملك لها وضمن منظومة حرياتها.
يتقدمون لإدراكهم أن الخطاب الذي لا يطرح أسئلة لا يحفز على التقدم، انطلقوا من العودة للأصول ثم تجاوزوها وبنوا فوقها. من أين يأتي التطور وكل شيء قد حسم وأنجزه السلف حتى بات الاجتهاد ضربا من هدم الدين ورموزه ومن يقدم على فعله أو الحث عليه يستوجب المحاكمة والسجن، أو التصفية الجسدية.
رجال الدين وتأويلاتهم ليسوا الدين، وإضفاء القداسة على التراث كله وأمهات الكتب لا يذهب بنا إلا إلى عصور ما قبل التاريخ.