المواطن تحت سطوة الخوف والمال

لم يكن تصوير المواطن كعدو محتمل كافيًا لإحكام السيطرة. فحتى يُبقيه النظام في موقع الضعف، كان لا بد أن يعيش في حالة خوف دائمة: خوف من عدو خارجي يهدد بقاء الوطن، أو خصم داخلي يُتهم دائمًا بأنه مصدر الفوضى.
هذا الخوف لم يكن عَرَضًا ولا نتيجة طبيعية للظروف، بل أداة سياسية ممنهجة. فالمواطن الخائف أسهل في الانقياد، وحين يشعر أن حياته مهددة يقبل التضييق ويتنازل عن جزء من حريته مقابل وعد بالحماية. وهكذا تحوّل الخوف إلى عملة سياسية: الطاعة تُشترى بالقلق، والسكوت يُنتزع عبر التلويح بالمخاطر.
ومنذ منتصف القرن العشرين، كان هناك دائمًا أعداء حاضرون في الخطاب العام. مرة العدو الخارجي: الاستعمار، إسرائيل، التدخلات الأجنبية. ومرة أخرى العدو الداخلي: فصيل سياسي يُصوَّر باعتباره طابورًا خامسًا، أو أصوات معارضة يُتهم أصحابها بأنهم يهددون استقرار الدولة. المواطن ظل دائمًا محاصرًا بين خطر بعيد يُلوَّح به وخطر قريب يُزرع في وعيه.
النتيجة أن المجتمع عاش في حالة طوارئ دائمة، محرومًا من الشعور بالأمان الداخلي. المواطن أصبح أكثر استعدادًا للتنازل عن حقوقه في مقابل الأمان، وأكثر انشغالًا بالمخاطر عن التفكير في الإصلاح أو المشاركة. وهكذا ظل معلقًا بين خوف يقيّده ورجاء ضعيف في تحسّن مشروط.
لكن الأثر الأخطر أن الخوف لم يكتفِ بتقييد المواطن سياسيًا، بل فتح الطريق أمام رأس المال ليملأ الفراغ. المواطن المنسحب من المجال العام ترك مساحة واسعة ليتمدّد رجال الأعمال، فيتحكموا في الأسعار والوظائف والخدمات، ثم يسيطروا على الإعلام، ويقدموا أنفسهم باعتبارهم المتحدثين باسم “المصلحة الوطنية”. وهكذا تحوّل الإنسان من شريك في وطن إلى مجرد مستهلك في سوق، محكوم بالخوف من السلطة، ومتحكم فيه من رأس المال.
بهذا المعنى، لم يعد الخوف مجرد وسيلة لإضعاف المواطن، بل صار الممر الذي منح رأس المال فرصة التوغل في السياسة والمجتمع. المجتمع أُدير عبر ثنائية قاتلة: سلطة تصنع الخوف… ومال يملأ الفراغ. وهي معادلة لم تنتج استقرارًا حقيقيًا، بل استقرارًا هشًا مبنيًا على الصمت والضغط، لا على المشاركة والانتماء.
واليوم، لم يعد السؤال عن الماضي ولا عن الأعداء المصطنعين، بل عن المستقبل وكيف نواجه التحديات الحقيقية التي تحيط بمصر داخليًا وخارجيًا.
النظام أمام فرصة تاريخية ليتحرر من سياسة الخوف، ويفكر بشكل مختلف: أن يحوّل المواطن من تابع خائف إلى شريك قوي، ومن عبء محتمل إلى سلاح يعتمد عليه.
إن الاستثمار الحقيقي ليس في استمرار صناعة الخوف، ولا في ترك الساحة للمال ليحكم، وإنما في بناء ثقة صلبة بين الدولة ومواطنيها. بهذه الثقة وحدها يتحول المجتمع من هشاشة الطوارئ إلى استقرار راسخ، ويصبح المواطن هو خط الدفاع الأول عن الوطن، لا مجرد متلقٍ للأوامر أو ضحية للضغوط .




