محمد زكي الكراني  يكتب..  القطاع الصحي في مصر بين مؤشرات نجاح ومخاطر متوقعة

 

تُشكل خدمات الرعاية الصحية الركن الأساسي لتحقيق العدالة الاجتماعية، وينص الدستور المصري في المادة 18 على أن ” لكل مواطن الحق فى الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقاً لمعايير الجودة، وتَكفُل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التى تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافى العادل”. ورغم التاريخ الطويل لإنشاء النظام الصحي بمصر بدءاً من تأسيس أول مدرسة للطب عام 1827 في عهد محمد علي باشا، وما تبع ذلك من تطور النظام الصحي المصري حتى إنشاء الهيئة العامة للتأمين الصحي عام 1964 إلان أن الشعب المصري يعاني منذ عقود طويلة من تردي مستوى الخدمات الصحية. فضلاً عن ذلك، وفقاً لإحصائيات البنك الدولي لعام 2019 فإن المواطن المصري يُساهم بدفع تكلفة مباشرة تصل إلى 62% من إجمالي الإنفاق على الصحة وهو من أعلى المعدلات عالمياً.

وقد ألقت الدولة المصرية في السنوات الأخيرة الضوء على ذلك القطاع وحاولت تطويره من خلال عدد من السياسات والبرامج. ويأتي على رأس تلك السياسات قانون التأمين الصحي الشامل والذي يُعد من أهم الخطوات في تاريخ النظام الصحي المصري، إلى جانب عدد من الحملات التي تستهدف القضاء على أمراض مستوطنة ومنتشرة بين عموم المصريين، مثل حملة القضاء على فيروس سي الذي ساهم في الكشف على 52 مليون مواطن وعلاج 2.2 مليون مواطن وفقاً لبيانات البنك الدولي الممول الأساسي للمشروع. وحملة الكشف عن الامراض غير السارية التي انطلقت ضمن نفس المشروع بالإضافة إلى حملة الكشف المبكر عن سرطان الثدي التي قامت بالكشف عن أكثر من 22 مليون و250 الف وو741 سيدة حتى فبراير الماضي وفقا للإحصاءات المعلنة من الحكومة المصرية.

إلا أن دراسة معمقة للوضع الصحي بمصر تكشف عن عدد من المخاطر التي قد تؤدي إلى عرقلة الخطوات التي تتخذها الدولة لتطوير قطاع الصحة. هنا تأتي أهمية فتح الحوار السياسي حول أولويات تطوير قطاع الصحة، وما يجب البدء به لضمان استدامة الخدمات المُقدَمة من المشاريع التي تطلقها الدولة بجانب تحقيق فلسفلة نظام التأمين الصحي الشامل وهي إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية وتقليل الفجوات بين المواطنين فيما يخص تلقي الخدمات الصحية. وعلى رأس تلك المخاطر التي يتناولها المقال أزمة تناقص عدد الأطباء في السنوات الأخيرة، وارتفاع نسبة المدفوعات المباشرة من اجمالي تكلفة الانفاق على الصحة ، وتوسع القطاع الخاص في الاستحواذ على عدد كبير من المستشفيات، كلها أمور يجب النظر إليها بعين الاعتبار لحماية حق المواطن المصري في تلقي خدمة علاجية لائقة بأقل تكلفة ممكنة.

الطاقة البشرية المتمثلة في تعداد الأطباء:
أشارت دراسات مختلفة إلى عدد الأطباء المُصرح لهم بممارسة المهنة في مصر لعدد 212 ألف و 835 طبيب وطبية بمعدل 21,3 طبيب لكل عشرة آلاف مواطن وهو معدل قريب جداً من المعدل العالمي وهو 23 طبيب لكل عشرة ألاف مواطن.
إلا أن المفاجأة هي أن 62% من قوة الأطباء المصرح لهم بالعمل لا يمارسون مهنة الطب داخل مصر بسبب هجرة الأطباء، مما يجعل النسبة الحقيقية لعمل الأطباء هي 8,6 طبيب لكل عشرة آلاف مواطن.
وقد ألقت نقابة الاطباء في اكثر من مناسبة الضوء على أزمة هجرة الأطباء والأسباب التي أدت إليها ، منها ضعف المرتبات حيث يسعي معظم الأطباء للهجرة لممارسة الطب في دول أخرى تتيح رواتب ملائمة للظروف المعيشية، وعدم وجود آلية لائقة لضبط حقوق الأطباء كعاملين في جهاز الدولة، مثل الحماية الشخصية من التعديات بالمستشفيات الحكومية وضبط ساعات العمل والمعاملة اللائقة داخل نظم التدريبات بالأخص بالمستشفيات الجامعة. وقد انتشرت في الآونة الأخيرة شكاوِ متعددة عن نواب متدربين بمختلف الجامعات المصرية حول التعامل الغير اللائق والغير مراقب الذي يواجهه بعضهم أثناء العمل بدون رد فعل يتعلق بسياسات لحماية الأطباء المتدربين بالجامعات من اي انتهاك خاص بالعمل.
وقد حاولت الدولة مكافحة تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة ، بجانب مجهودات وفيرة من نقابة الأطباء للمطالبة بزيادة مرتبات الأطباء وحمايتهم من المخاطر أثناء العمل، وأيضا في ظل رغبة مُعلنة سياسياً لتطوير النظام الصحي وجذب الأطباء للعمل بالقطاع الحكومي والحد من هجرة الأطباء من مصر. إلا أن تلك المجهودات لم تؤتٍ ثمارها إلى الآن، حيث أن تصريح الدكتور إيهاب طاهر عضو مجلس نقابة الأطباء في الشهر الماضي تحدث عن التوقعات التي تشير إلى هجرة أكثر من 60% من الأطباء. بالرغم من عدم وجود دراسات دقيقة تدعم النسبة إلا أنها تقترب من نسبة ال62% من الأطباء الغير عاملين بالقطاع الصحي بالرغم من حصولهم على التصريح الخاص بذلك. فيجب على كافة الأطراف المعنية بحقوق الأطباء العاملين في الدولة متمثلين في نقابة الأطباء ووزارة الصحة التكاتف من أجل وضع سياسات طويلة المدى لجذب الأطباء المصريين للعمل بالقطاع الحكومي، وضرورة توفير الموارد المالية اللازمة لزيادة المرتبات وصياغة سياسات حماية للأطباء فيما يخص ساعات العمل وتطوير نظام التعليم المستمر للأطباء.

ارتفاع نسبة المدفوعات المباشرة والإنفاق على الصحة:
تكلفة المدفوعات المباشرة ((Out of pocket expenditure هو الرقم الذي يتكفل به المواطن كإنفاق مباشر على القطاع الصحي، النسبة العالمية لهذا الرقم تصل إلى 18.05% بينما تصل إلى 62.75% في مصر وفقاً لإحصائات البنك الدولي. فحقيقة أن تكلفة الإنفاق على القطاع الصحي يتحمل المواطن أكثر من نصفها تعود إلى العديد من الأسباب، أهمها انخفاض نسبة الإنفاق على الصحة ضمن الموازنة العامة للدولة. فبالرغم من ارتفاع نسبة الإنفاق على الصحة في العام المالي 2021-2022 إلى 108 مليار جنيه، إلا ان تلك النسبة لا تتعدى 1.5% من الناتج المحلي الاجمالي، وهو ما يتنافى مع النسبة المحددة دستورياً بـ 3% والتي قد تصل إلى أكثر من 10% في عدد كبير من بلدان العالم. هذا بجانب تردي مستوى خدمات الرعاية الصحية الأولية في القطاع الريفي، المتمثل في الوحدات الصحية التي تُعتبر الركن الأهم لبناء أي قطاع صحي يُلبي احتياجات المواطنين.
يتفهم عموم المصريين أن الدولة المصرية مُثقلة بمسئوليات عديدة تتعلق بالاقتصاد والسعي لتحقيق الاكفتاء الذاتي من الغذاء فضلا عن ارث كبير من التأخر في مجال التعليم، ولكن يجب وضع أولوية للانفاق على القطاع الصحي. فالصحة لا يجب أن تمثل حقاً دستورياً للمواطن فقط، بل يجب أن يتم النظر لها كاستثمار في رأس المال البشري مما سينعكس إيجاباً على النمو الاقتصادي وزيادة معدل الانتاج.

تأثير القطاع الخاص على المنظومة الصحية:

يتواجد 1130 مستشفى بالقطاع الخاص المصري مقابل 652 مستشفى حكومي، لا يعكس ذلك الفارق حجم استيعاب المرضى بين القطاعين، فالقطاع الحكومي مازال يستوعب عدد أكبر من الأسِرّة باجمالي نسبة تتخطى 95% من عدد الأسِرّة بمصر. إلا أن تلك الأرقام تشير إلى توسع نسبة القطاع الخاص المُستثمر في القطاع الصحي في مصر، فتزايد عدد المستشفيات الخاصة على مدار عشر سنوات بنسبة تصل إلى اكثر من 66%، ويؤثر ذلك بالطبع على تسعير الخدمات الصحية.
ويكمن مؤشر الخطورة في سماح النظام الجديد للتأمين الصحي الشامل إلى التعاقد مع المستشفيات الخاصة ضمن منظومة التأمين، وهو أمر يثير التساؤل حول مصير المستشفيات الحكومية الغير مطابقة لمعايير الجودة الخاصة بالمنظومة بالرغم ارتفاع عدد الأسِرّة (القدرة الاستيعابية) في تلك المستشفيات. وتنص المادة 10 من قانون التأمين الصحي الشامل على إنشاء لجنة لتسعير الخدمات من الهيئة العامة للتأمين الصحي ، والمادة 11 تحدد اختصاصات الهيئة بأن تقوم بدعم التنافسية وضمان هامش الربح. مما سيؤدي لزيادة أسعار الخدمات الصحية المقدمة داخل المنظومة والتي سيقوم المواطن بدفع نسب منها أثناء تلقي الخدمة مثل قيمة الدواء والآشعات والتحاليل.
ولقد أشارت عدد من التقارير الصحفية أثناء جائحة الكورونا إلى رفض غرفة مقدمى الخدمات الصحية وضع حد أقصى كتكلفة علاج الكورونا لليلة الواحدة ، وهو عشرة آلاف جنيهاً مصرياً وفقا لما اقترحته الوزارة. وبالرغم من تحمل المستشفيات الحكومية للعبء الأكبر أثناء الجائحة ، إلا أن ذلك لم يمنع من الارتفاع المبالغ فيه لأسعار الخدمات المُقدمة من المستشفيات الخاصة لحالات الكورنا. حدث يستدعي أن يدق ناقوس الخطر لاشتراك القطاع الخاص في منظومة التأمين الصحي الشامل واعطائه أحقية تحقيق هامش ربح. لذلك فبدون وجود ضوابط حقيقية تُقيد أسعار الخدمات التي يقدمها القطاع الخاص في مجال الصحة سيؤثر ذلك حتماً على تسعير الخدمات الصحية في منظومة التأمين الصحي الشامل الجديد.

إجمالاً، لا يمكن إنكار الجهود المبذولة لتطوير قطاع الصحة بمصر، وحجم التحديات في ظل تنامي عدد السكان وضغط الأوضاع الاقتصادية داخلياً وعالمياً في الآونة الاخيرة. ولكن من أجل تطبيق السياسات الطموحة التي تتبناها الدولة في إنشاء نظام تأمين صحي شامل يقدم خدمات لائقة باسعار ملائمة لجميع المصرييين، يجب الأخذ في الاعتبار الأزمات العالقة في بينة النظام الصحي، والبدء في إيجاد حلول وسياسات للقضاء عليها من أجل خدمة صحية أفضل للمواطن المصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار