الدين في السوق

استكمالًا لمقالنا السابق التجارة شطارة، حيث تناولنا كيف تحوّلت التجارة من معنى أصيل يقوم على الأمانة إلى فهلوة واحتكار، وكيف دخلت الدولة نفسها على خط المنافسة كتاجر، نعود إلى ساحة أخرى لم تتركها الرأسمالية كذلك: سوق الدين. فمنذ أن بدأ الانفتاح الاقتصادي وتغلغلت قيم رأس المال الطفيلي، تحوّل الدين من قوة ضمير تحكم السوق إلى سلعة يتنافس عليها اللاعبون. لم يكن الأمر وليد اللحظة، بل مسارًا ممتدًا عبر عقود، وجزءًا من عملية تفكيك ممنهجة لقيم المجتمع، انتهت إلى أن الدولة نفسها لم تكتفِ بدور المنظم، بل شاركت عبر مؤسسات وأذرع تحمل اسم الدين، لتصبح حتى ساحة التكافل والرحمة جزءًا من لعبة النفوذ والمنافسة.
منذ القدم كان الدين هو الضابط الأخلاقي للسوق. لم يكن مجرد شعائر فردية، بل قوة اجتماعية تحدد القواعد: الغش حرام، الاحتكار ظلم، وأكل حقوق الناس فساد. هذه القواعد كانت تمنح السوق استقراره، وتجعل المواطن يثق أن العلاقة بين البائع والمشتري تقوم على أساس من الضمير. لكن مع تغوّل رأس المال، بدأ الدين يتعرّض للتفريغ الممنهج. لم يعد قيمة عليا، بل صار أداة لتزيين الصفقات. نسمع عن مشروعات تُقام باسم الخير، لكنها في حقيقتها استثمارات ضخمة تُدر أرباحًا على أصحابها أكثر مما تخدم الفقراء. نرى إعلانات توظف الخطاب الديني لإقناع الناس بشراء سلعة أو الدخول في قروض “مغلفة بغطاء شرعي”، وكأن الدين مجرد ديكور لإضفاء قدسية على ما هو في الجوهر عملية تجارية بحتة.
ولعل شهر رمضان هو أوضح مثال على هذا التداخل. ففي الوقت الذي يفترض أن يكون فيه شهرًا للتأمل والرحمة والتكافل، تحوّل إلى موسم اقتصادي ضخم. الشاشات تغرق بالإعلانات التي تخلط بين الثواب والاستهلاك، الجمعيات الخيرية تتعامل معه كساحة موسمية للتنافس على التبرعات، والشركات تجد فيه فرصة لتسويق منتجاتها تحت شعار “خدمة الخير”. حتى المواطن البسيط أصبح يرى في شراء سلعة أو إرسال رسالة نصية للتبرع عملًا دينيًا، بينما الحقيقة أنه يشارك – بوعي أو من دونه – في دورة سوقية ضخمة تستغل مشاعره الدينية.
وحتى هذا السوق لم يُترك للجمعيات الخاصة وحدها. فالدولة دخلت المنافسة عبر مؤسسات وأذرع مرتبطة بها مثل بيت الزكاة والصدقات، ومستشفيات كبرى تُقدَّم كرموز وطنية. وبذلك لم تعد المنافسة في رمضان بين جمعيات أهلية مستقلة فقط، بل صارت بين كيانات خاصة وذراع رسمي للدولة. وهكذا تحوّل التكافل إلى ساحة نفوذ، وفقد المواطن يقينه إن كان ما يقدمه صدقة لوجه الله، أم إسهامًا في دورة مالية وسياسية تُدار بعقلية السوق.
المسألة هنا ليست مجرد ممارسات موسمية، بل تعبير عن مسار طويل استُخدم فيه الدين لتجميل السياسات الاقتصادية أو تمريرها. منابر دينية استُغلت لإقناع الناس بالصبر على الغلاء، وخطابات تُصوّر التضحية بالحقوق كجزء من الإيمان، ورسائل تربط التفاوت الاجتماعي بالقسمة والنصيب بدل أن تراه خللًا في توزيع الثروة. هذه الممارسات لا تضعف الوعي فقط، بل تزرع التباسًا خطيرًا بين الدين كقيمة عليا والدين الموظف كأداة سلطة.
الخطورة أن المواطن نفسه فقد البوصلة. فحين يرى الدين يُستخدم لتبرير الاستدانة أو لتغطية الفساد أو لتسويق الاحتكار، يضعف أثره في الضمير العام، وتنهار الثقة في المرجعيات التي يفترض أن تحمي القيم. بدل أن يكون الدين حصنًا ضد الفساد، صار غطاءً يُسوغ الفساد نفسه. وهذه لحظة فارقة، لأن المجتمع الذي يفقد ثقته في قيمه العليا يصبح هشًا أمام أي سلطة أو رأس مال يريد إعادة تشكيله وفق مصالحه.
لكن ما جرى ليس قدرًا محتومًا. فكما كان الدين في مراحل تاريخية سندًا للعدالة والرحمة، يمكن أن يعود اليوم ليكون قوة موازنة أمام جشع السوق. الدين ليس سلعة في يد التجار ولا أداة بيد الدولة، بل ضمير حي يضع حدودًا للغش والاحتكار، ويمنح المواطن الثقة في أن السوق يمكن أن يكون عادلًا.
ومن هنا تصبح مسؤولية الدولة واضحة: أن تحمي الدين من التلاعب، وأن تخرجه من منطق المنافسة السوقية ليعود قوة ضمير عليا تضبط العلاقات وتبني الثقة. الإصلاح هنا ليس حلمًا بعيدًا، بل فرصة حاضرة، والنظام الحالي يملك من الأدوات ما يجعله قادرًا على تحويل هذه الفرصة إلى واقع ملموس.
ما يحتاجه المواطن اليوم هو إشارة صادقة بأن القيم ليست مجرد شعارات، وأن الدين ليس سلعة تُسوَّق، بل ركيزة تُبنى عليها السياسات. وحين يخطو النظام خطوة في هذا الاتجاه، سيجد المجتمع مستعدًا للمشاركة، وسيكتشف أن استعادة الثقة ممكنة، وأن الطريق إلى الاستقرار يبدأ من إعادة الاعتبار للقيم.
التاريخ لا يكتب بالنوايا، بل بالقرارات التي تفتح آفاقًا جديدة. واليوم، أمام النظام فرصة ليُسجَّل له أنه أعاد للدين مكانته كقوة جامعة، وحوّل التكافل من سوق موسمي إلى قيمة حقيقية تُبنى عليها دولة أكثر عدلًا واستقرارًا .




