إشارات صغيرة… نحو مشهد أكبر

في الأسابيع الأخيرة، تحرّك المشهد السياسي في مصر بطريقة غريبة… ليست صاخبة، لكنها أيضًا ليست صامتة. بدا وكأن البلد تتنفّس بعمق قبل خطوة لا تريد أن تعلنها، وتفتح ملفات ظنّ الجميع أنها انتهت، أو على الأقل نُسيت بفعل الوقت.

أول الخيط بدأ من الإيجار القديم. ملف يخرج فجأة كأنه قادم من زمن آخر، لكنه يشتعل في ساعات، ويدخل كل بيت، ويقلب نقاشات المصريين رأسًا على عقب. لم يكن مجرد خلاف اجتماعي عادي؛ كان اختبارًا كاملًا لفكرة: هل الناس مستعدة تسمع عن تغيير حقيقي في قواعد تعوّدوا وجودها؟ المدهش أن الإجابة لم تكن “لا”. كان هناك غضب، نعم… لكن لم يكن هناك رفض مطلق. المجتمع في لحظة نادرة بدا مستعدًا يسمع، حتى لو لم يعجبه ما يسمعه.

بعدها مباشرة، حدث ما هو أكثر دلالة: قانون الإجراءات الجنائية يعود إلى البرلمان قبل لحظة النهاية. خطوة ثقيلة، لا تشبه الأيام الأخيرة من عمر أي مجلس نواب. الخطوة لم تقل إن هناك خطأ قانونيًا فقط، بل قالت إن هناك طريقة كاملة في إدارة الملفات… لم تعد مناسبة. الرسالة لم تكن للبرلمان وحده، بل كانت للجميع: “في حاجات لازم تتراجع… قبل ما نبدأ صفحة جديدة.”

ثم جاءت تصريحات اليوم بخصوص الانتخابات، وكان واضحًا أنها ليست مجرد دعوة للاطمئنان. كانت أشبه بإشارة ضوئية في نفق طويل. كلام عن التدقيق، وإعادة النظر، واحترام إرادة الناس، وإمكانية إلغاء نتائج. كلام من النوع اللي ما يتقالش إلا عندما يكون المشهد نفسه محتاج إعادة ترتيب من مكان أعلى. الملف الانتخابي تحديدًا كشف أن بعض الجهات لم تتحرك بالدرجة نفسها من التنسيق، وأن الأداء لم يكن منسجمًا كما يجب… ولا مناسبًا لمرحلة يبدو أنها لن تشبه ما سبقها.

وما جرى كشف أيضًا أن بعض الأصوات التي اندفعت للدفاع عن مسارات بعينها، وجدت نفسها تعيد التموضع سريعًا بعد صدور توجيه مختلف، في مشهد يعكس الفارق بين من يملك القرار… ومن يكتفي بالتعليق عليه.

عندما نضع المشاهد الثلاثة جنبًا إلى جنب—الإيجار القديم، قانون الإجراءات، تصريحات الانتخابات—نكتشف أننا لسنا أمام أحداث منفصلة، ولا أمام صدفة سياسية. وما يجعل الصورة أكثر وضوحًا هو أن هذه المشاهد الثلاثة لم تكن وحدها، بل سبقتها وتزامنت معها إشارات صغيرة أخرى، ربما لم تلفت الانتباه، لكنها تُكمّل الإيقاع نفسه الذي يتحرّك به المشهد. نحن أمام لوحة ترسم نفسها ببطء، وتترك فراغات صغيرة ليُكملها من يلاحظ جيدًا. هناك طريقة قيادة جديدة تظهر، ليس لأنها قيلت، بل لأنها انعكست في طريقة إدارة الملفات التي ظلت لعقود خارج دائرة الضوء.

المثير أن كل هذا يجري من غير إعلان، ومن غير مفردات كبيرة. لا أحد يتحدث عن “مرحلة جديدة”، ولا أحد يقول “مسار مختلف”، لكن كل شيء—اللغة، الإيقاع، التوقيت—يوحي بأن البلد تعيد ترتيب بنيتها من الداخل. ليس تغييرًا صادمًا، ولا انتقالًا معلنًا… بل عملية هادئة تتفحّص ما يصلح وما لا يصلح، وما يمكن أن يتحمّل اللحظة القادمة، وما يجب أن يُستبدَل قبل أن نصل إلى النقطة التي لا يصلح فيها الترقيع.

وإذا كانت هذه الإشارات قد ظهرت بهذه السرعة، فالغالب أن ما تراه البلاد الآن ليس سوى بداية لإيقاع أكبر… وأن المشهد قد يرسل إشارات أخرى في لحظاته التالية، كما تفعل كل التحولات الكبرى قبل أن تعلن نفسها.

لا أعرف إن كان هذا تمهيدًا لشيء أكبر أم مجرد محاولة لضبط المشهد قبل قرارات اقتصادية صعبة. لا أحد يملك الإجابة. لكن المؤكد أن ما نراه الآن ليس نسخة مكررة من السنوات الماضية. هناك شيء يتحرك خلف الجدار، ليس سريعًا بما يخيف، ولا بطيئًا بما يطمئن. شيء يعيد ضبط الإيقاع، ويختبر المجتمع، وينظر في المؤسسات، ويفتح الأدراج القديمة، وكأنه يطلب من الجميع أن يستعدوا… دون أن يقول استعدادًا لِمَ.

وفي لحظات زي دي، عادةً ما تتغيّر البلاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!