د. امانى فؤاد تكتب: طرف ورقتين من قصة متخيلة

بمجرد وصولها إلى البيت أخذت مديرة المنزل حقائبها لتباشر عملها، سارعت هي لتطمئن على قططها وأشجارها الصغيرة التي تركتها لأكثر من أسبوع دون أن تحكي معها أو ترعاها، سألتها السيدة الخمسينية مابكِ؟ لملمت شعرها إلى الخلف وقالت لا شيء.
دقائق وسمعت صوت المرأة يعلو، يدعوها لتأتي إلى غرفتها لتشاهد ما اكتشفته، فكلما فتحت حقيبة من الثلاثة التي كانت معها وجدتها فارغة تماما، قالت: ليست هذه حقائبك، أحد ما قد استبدلها بلا شك. وقفت صامتة تماما تحدق أمامها. راحت السيدة تتساءل: أين ملابسك وكتبك، أين أدوات زينتك وعطورك، أين أحذيتك وأوراقك؟ حقائبك هي نفسها لكنها فارغة.
أمام عينيها يشرئب الفراغ برقبته يتطلع إليها، يواجهها اللاشيء، لمحت من بعيد فقط في جيب إحدى الحقائب الكبيرة طرف ورقتين، هما بلا شك القصة التي كتبتها منذ يومين، تلك الرحلة التي طلبَ منها أن تتخيل أنهما قاما بها معا.
طلبت المرأة منها أن تصحبها إلى المطار، أن تعود لتعرف ماذا حدث، ثم شرعت تقفل الحقائب. أمرتها أن تصمت، وأن تغادر الغرفة دون كلمة واحدة، تهاوت على المقعد الذي بجوارها وتعجبت.
في تجويف الحقيبة الكبيرة لمحت باقة الورد البديعة التي وجدت السائق يقف بها في صالة الوصول مدون تحتها اسمها، طلب منها أوراقها لينهيها سريعا وليأتي بحقائبها، انتظرته عشر دقائق وهي تعيد قراءة البطاقة الملصقة على الباقة مرات: “إليكِ، صرت أعشق هذا الوجود واتسامح معه منذ أن رأيتك، لا أعرف كيف تفرعت الأشجار بيننا”. سارت خلف الرجل بخطوة وهي تنظر إلى الورد دون أن تحدد شيئا.
فتح السائق باب السيارة فوجدته بالداخل ينتظرها، شعرت كأن العالم قد أشرقت شموسه دفعة واحدة، جلست بجواره مندهشة، جذبها إلى حضنه فحلقت في غيمة عطر مباغت، منذ أن عرفته تعايشها بهجة غامضة وحالمة، نظر إلى عينيها وقال: ما أجمل تلك العينين، شهور مضت وأنا أنتظر الغرق في دفئهما الساحر، اعذريني لم استطع ملاقاتك لتمزق حاد ألمَّ بساقي. تعاود النظر إلى الحقيبة أمامها فتجدها فارغة تماما. لا باقة ورد، ولا كلمات في بطاقة، لم ينتظرها، ولم يغمرها عطره.
مدت يدها تبحث في الحقيبة الأخرى، ابتلت ملابسها من رذاذ موج المحيط الصاخب الذي دعاها للمشي على شاطئه، حدثته بأمانيها أن يكونا معا فوق الحافة العارية المفتوحة بين السماء والمحيط، بينهما والرمال والصخور، في النقطة التي ينفتح فيها نسيج موجودات الكون نحو فيض متسع ودافئ، تمنت لو سكنا معا في النور المطلق. طلب منها أن تقص عليه رحلة سنواتها التي مضت، رغبت هي أن تصمت لتستمع إليه.
توالت أمواج المحيط ممزقة بين الأمنيات بسعادات كبيرة في مواجهة فراغ تام. تلاش حاد أصاب الكلمات كما الأحلام والوعود، انسحبت مع جَزر مياه المحيط المباغت ثم تركت نفسها تغوص في أعماقه، تساقطت أعضاؤها واحداً تلو الآخر، قدماها فذراعاها، رأسها وجذعها، تلاشت في الفراغ الذي بلا نهاية لكنها لم تعد تقاوم، لماذا استسلمت دون أن تفتح أجفانها للحظة، دون أن تمسك بذاتها !؟
أغلقت الثالثة على تجويفها الفارغ وذهبت نحو النافذة، شرعت بطاقات صغيرة تتطاير من الحقيبة في اتجاهها، من كل واحدة تنطلق رصاصة، تعجبت، كانت قد ألقمتهم كبسولات مخدرة منذ أسابيع، يتطايرن من الحقيبة المغلقة على فراغها ليرتطمن بوجهها.
صمت تام يشمل كيانها دون أدنى مقاومة، فقط ينزعها الجميع من المقاعد، من الصور، من القاعات، صارت بلا ملامح، فراغ حاد يمحو ما انطبع فوق أيامها الماضية وسنواتها جميعها ..
لم يكن هو، ولا اشتراطات الجريدة التي تكتب فيها، لم تكتب القصة تلك التي دعاها لكتابتها، لم تكن الجهة الأمنية التي تمحو آثار بصماتها فوق الأماكن والأشياء، ولا المحيط، لم تكن أوراق كتبها التي لم تطبعها، فقط الفراغ الذي شغل حقائبها حط على عينيها فابيضت المشاهد كلها في ومضة ضوء بعيدة، ومضة واسعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار