*عـامٌ بـلا أب.. لكن بـلا غـيـاب*

ليس الحزن أن نفقد أباً، فالفقد سُنّة الحياة التي تجري على الجميع.. لكن الحزن الحقيقي هو أن تفقد قيمةً استثنائية لا تتكرر، ورجلاً كان في ذاته “أمة”، كان صوته ميزاننا، ووجوده طمأنينتنا، وغيابه امتحاناً قاسياً لثباتنا.
يمرُّ العام الأول بلا أبي، لا كرقمٍ عابر في تقويم الأيام، بل كزلزالٍ صامتٍ في الروح. لأول مرة لا ألتفت فأجده خلفي، لا أسأل فأسمع إجابته الحكيمة، ولا أضعف فأشعر بيده تحصّن كتفي. ومع ذلك، لا أنحني.. لأن أبي علّمنا أن الرجال لا يسقطون حتى وهم يتألمون.
أكتب عنه، وأنا أعلم يقيناً أن اللغة أفقر من أن تحتويه، وأن الحروف أضيق من قامته، وأن أي وصفٍ يظل قاصراً أمام رجلٍ لم يكن له شبيه، ولن يكون له بديل.
*”ناجي تارح”.. عمود الدار وسقفها*
لم يكن أبي مجرد ربِّ أسرة، بل كان “عمود الدار” وأساسها الصامد. كان رجلاً إذا دخل المكان استقام، وإذا تكلم أنصت الجميع، وإذا صمت فُهمت مقاصده؛ لم يكن يحتاج لرفع صوته، فحضوره كان يفرض الهيبة والوقار.
علّمنا أن الرجولة ليست استعراضاً للقوة، بل قدرةٌ على الاحتمال، وأن الكرامة لا تُعلن، بل تُعاش وتُمارس.
كان صلباً دون قسوة، رحيماً دون ضعف، وحازماً دون ظلم؛ يجمع المتناقضات كما لا يجمعها إلا الكبار.
إذا غضب كان عادلاً، وإذا أحب كان بلا مدى، وإذا أعطى منح دون أن ينتظر المقابل من أحد.
*رحيلٌ وتوقيتٌ يليق بالعظماء*
حتى في رحيله، كان كالعظماء يختارون المواعيد الفاصلة؛ إذ اختار الله له الرحيل في “عيد الصليب”، وكأن السماء أرادت أن تختم سيرة رجلٍ عاش حاملاً صليبه في صمت، صابراً، شاكراً، ومستقيماً.
لم تكن صدفة، فالعظماء لا يغادرون الحياة عبثاً، بل يرحلون في توقيتٍ يشبه رسالتهم ونقاء سريرتهم.
وبموازين الله التي قُدّرت بمواعيد دقيقة، وبينما تستعد الأرض لاستقبال أجراس الميلاد المجيد، يحتفل هو بيوم ميلاده الأرضي في رحاب السماء، بين القديسين والأبرار وفي حضرة رب الأكوان.
*الأصالة التي لا تموت*
رحل الجسد وبقت الهيبة. بقى اسمه يُنطق بخشوع، وذكراه حاضرة في كل زاوية، وفي كل قرار نتخذه ونحن نسأل أنفسنا: “هل كان أبي سيرضى؟”.
وهذا وحده برهان كافٍ أنه لم يمت. عاش نظيف اليد، مستقيم السيرة، واضح المبدأ؛ لم يعرف الالتواء، ولم يجامل في حق، ولم يبدل مواقفه مهما اشتدت الظروف.
علّمنا أن الكبرياء ليس تعاليًا، بل احترام للنفس، وأن الفقر لا يُهين، لكن التنازل عن القيم يفعل.
زرع فينا شرف المحاولة، وصدق الكلمة، ورفض أن نكون “نسخة باهتة” من أحد.
كان يقول لنا بفعله لا بقوله: “كونوا أصلاء.. فالأصالة لا تموت”.
أبي حيٌّ فينا لا يغيب
يخطئ من يظن أن أبي غاب؛ فهو حيّ في ملامحنا، في صرامة مواقفنا حين يجب الحزم، في دمعةٍ نخفيها لئلا نضعف، وفي قراراتٍ نتحملها لأننا تعلمنا منه أن الرجال لا يهربون. هو حيّ في طريقتي في الوقوف، في صمتي، وفي إصراري على أن أكون مستقيماً مهما كان الثمن.
لم يتركنا هشّين، بل تركنا أقوياء. لم يتركنا تائهين، بل ترك لنا بوصلة لا تخطئ عنوانها: “الحق.. ثم الحق.. وما يرضي الله”.
*عامُ الاختبار والعهد*
هذا العام لم يكن عام الفقد، بل كان عام “الامتحان”.. هل نحن على قدر الاسم الذي نحمله؟ وهل نحن أمناء على تلك التربية التي تشربناها؟ إنني موقن أنه لو قُدّر له أن يرى ما نحن فيه، لقال كلمته الهادئة الواثقة، ثم ابتسم.
سنمشي مرفوعي الرأس لأننا أبناء “ناجي تارح”؛ ذلك الرجل الذي لم يكن عادياً. سننجح لنبرّ، ونصمد لنثبت أن الرجال العظماء لا يرحلون عبثاً.
أبي.. وعدٌ لا ينتهي يا من صار مقامك في السماء أرفع من كل كلام..أعدك أننا لن نخذل اسمك، ولن نفرط في وصيتك؛ سنحمل قيمك كما حملتها، ونحفظ العهد كما حفظته، ونمضي في الحياة بكرامة تليق بك.
*ميلادك السماوي عيدنا، وذكراك عزّنا، وسيرتك شرفنا.. وحتى نلقاك، صلواتك تسندنا*




