د. مجدى عبد الحميد يكتب ..الوباء وما فعله بالبشر
تشير الأرقام الرسمية المعلنة إلي أن عدد الإصابات بفيروس كوفيد ١٩ و الذي تم حصره حتي الآن بلغ حوالي ٧،٥ مليون شخص علي مستوي العالم وأن عدد الوفيات قد بلغ حوالي النصف مليون، وذلك خلال ستة أشهر تقريبا منذ الإعلان عن ظهور الفيروس وتحوله إلي وباء حتي يومنا هذا.
وهو ما يعني أن نسبة الإصابة حوالي واحد في الألف من سكان الكرة الأرضية وأن نسبة الوفيات حوالي سبعة لكل مائة الف.
و بالنظر الي ما تعرض له سكان الكوكب من كوارث علي شكل أوبئة أو حروب عالمية أو كوارث طبيعية خلال القرنين الماضيين والتي أودت بحياة بضع مئات من الملايين من البشر، سنجد أن ذلك الوباء ربما يكون هو الأقلها تأثيرا و خطورة علي حياتنا حتي الآن، فلماذا كل هذا الفزع و الرعب الغير مسبوق ؟
ماذا يعني ذلك ؟
وهل من تفسير لتلك الصدمة الكبري التي هزت بل وزلزلت كيان العالم كله رغم عدم بلوغ الوباء حتي الان مبلغ الخطورة التي تهدد الحياة علي الكوكب أو حتي تهدد بأن يحصد الوباء أرواح نسبة كبيرة من سكانه ؟
في اعتقادي أنه توجد بالفعل أسباب حقيقية و كبيرة وراء الهلع الذي أصاب العالم، و التي يمكن الوقوف علي البعض منها حسب أهميتها و ترتيب أولوياتها :
أولا : لم يفرق الفيروس المسبب للوباء بين الشمال الغني و الجنوب الفقير، بل ربما العكس تماما هو ما حدث، فنسبة الإصابات و الوفيات في الشمال الغني المدجج بكافة الأسلحة الحمائية من ثروات لتقدم علمي وتكنولوجي لحداثة علي كافة المستويات وتمتع برفاهة إستخدام أحدث التقنيات، أعلي منها في الجنوب الأكثر تراجعا علي كافة المستويات السابق ذكرها والتي تصور الشمال أنها جعلت منه عالم مختلف كيفيا عن عوالم الجنوب المتخلفة.
ثانيا : لم يفرق الفيروس المسبب للوباء لا في الجنوب المتخلف ولا في الشمال المتقدم بين أغنيائه وفقرائه ولَم تحل الفوارق الطبقية و الإجتماعية بينه وبينهم فوصل الي الجميع بسلاسة ويسر، صحيح الأكثر فقرا هم الأكثر عرضة للإصابة واحتمالات الوفاة بينما يستطيع الأغنياء الوصول الي الرعاية الطبية و العلاج ولديهم الفرص الاكبر للوقاية ثم الشفاء اذا ما اصيبوا، ولكن كل هذا لم يحمهم من وصول الفيروس اليهم و الفتك بهم مثلهم مثل أي فقير لا يملك قوت يومه.
ثالثا : تصور علماء وفلاسفة ومفكري وقادة العالم و خاصة القسم الشمالي منه بأنهم أصبحوا مسيطرين بالعلم و التكنولوجيا والتقنيات الحديثة علي الطبيعة وقادرين علي تسخيرها وتسييرها بالكامل وفق إرادتهم وحدهم وإيهام البشر جميعا بذلك، ما أصابهم بالغرور وخلق عندهم يقين راسخ بأنهم أصبحوا كلي القدرة ثم أتي ذلك الفيروس التافه ليهز تلك القناعات و يزلزل أركان أفكار ترسخت حتي أنها باتت كما لو كانت اله جديد يعبدونه دون سواه من آلهة.
ان الاثر العميق للوباء الذي سببه فيروس كوفيد ١٩ و الذي سوف يكون له تداعيات كبري علي مستقبل الحياة علي الكوكب، لا يكمن بالاساس في اعداد ضحاياه حتي الان أو مستقبلا، ولا حتي في الاثار الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية الكبري التي ستنتج عنه، ولكنه يكمن في الزلزال الذي أصاب البشر، في رؤيتهم للحياة ولأنفسهم، في اهتزاز القناعات الراسخة، في سقوط العلم كدين جديد وثبوت ضعفه وهشاشته رغم كل ما وصلوا اليه من سيطرة علي حياتهم باعتناقه، ان الاثر الأبعد و الذي لن يستطيع النظام العالمي الحالي السيطرة عليه والابقاء علي استمرارية وضعه كنظام عالمي كما هي الحال حتي الان، يكمن في فلسفة الرؤية، رؤية الانسان لذاته وفهم حدود قدراته ذلك الشئ الذي بدأ بالفعل يسري في عقول وتفكير و وجدان البشر و الذي لن تستطيع أي قوة مهما بلغت إيقافه، فهي تغيرات داخلية سواء في العقل و الرؤية الفردية أو الجمعية علي السواء، فما حدث قد حدث بالفعل أما تداعياته فهي مسألة وقت نحتاجه جميعا للإستيعاب والهضم وإستخلاص الاستنتاجات.