محمد حسن خليل يكتب .. ترامب وبايدن بين الشعبوية والعولمة

 

لعله من المهم تفسير التناقض الذي برز بظهور الشعبوية مع ترامب في مواجهة الاتجاه العولمي السائد داخل الطبقات الحاكمة في أمريكا والغرب. منذ انهيار الكتلة السوفيتية حول عام 1990 ساد النظام الأحادي القطبية بزعامة أمريكا مرتبطا باتجاه العولمة بما يعنيه من سيادة السياسات النيوليبرالية المتوحشة المعسكرة طوال عقدين من الزمن. وتميزت تلك الفترة بتقارب شديد بين طرفي الطبقة الحاكمة في الدول الغربية الرئيسية، الجمهوريين والديمقراطيين في أمريكا، المحافظين والعمال في بريطانيا، الاشتراكيين والجمهوريين في فرنسا…الخ.

ولكن عقدين من العولمة نتجت عنهم مشاكل ضخمة فرضت نفسها، وارتفعت الأصوات تندد بالتمايز الشديد بين الأغنياء والفقراء بين الدول وداخل كل دولة متقدمة أو متخلفة، مع زيادة الفقر والبطالة. من هنا ارتفعت الأصوات المعادية للعولمة، ولن نتحدث هنا عن الأصوات الشعبية التقدمية، بل فقط عن الاتجاهات داخل الطبقات الحاكمة، بما لها من تأثيرات بالطبع وامتدادات داخل الطبقات الشعبية. برز اتجاهان رئيسيان للمعارضة:

أولهما الاتجاه اليميني الشعبوي الذي يرفض سياسات العولمة لصالح التركيز على حماية الحدود والهوية القومية المتعصبة بالذات ضد المهاجرين باعتبارهم سبب المشاكل. كما رفضوا حرية التجارة والاستثمار التي قادت إلى نزع التصنيع عن الدول المتقدمة بالذات أمريكا وانجلترا بنقل مصانعها إلى دول العمالة الرخيصة في آسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها، والتركيز في الداخل على قطاع الخدمات سواء الالكترونية أو المالية، مما تسبب في تصاعد البطالة في الداخل. على مستوى القمة عبر هذا الاتجاه عن قطاعات الرأسمالية المحلية المضارة من سياسات الانفتاح الكامل في مواجهة رأس المال العولمي الذي يسعى للربح بغض النظر عن حدود الوطن، ويؤيد بالكامل تحرير التجارة والاستثمار بدون قيود. وعلى المستوى الشعبي تميز هذا الاتجاه بتحميل الأزمة الاقتصادية الاجتماعية بالداخل للمهاجرين والأجانب والأقليات العرقية ذات الأصل الأجنبي، مع اللجوء لسياسات العنف العنصرية والفاشية.

والاتجاه الثاني هو اتجاه نقد السياسات النيوليبرالية انطلاقا من الحنين للسياسات الكينزية التي سادت الدول الرأسمالية بين نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى السبعينات، والتي تقوم على تدخل الدولة ودورها في تقديم الخدمات الاجتماعية للطبقات الفقيرة والمتوسطة من خلال ضمان حق التعليم والصحة والتأمينات الاجتماعية من معاش وتعويضات وفاه وبطالة وإعاقة، وضمان وصول خدمات المرافق (كهرباء، مياه، صرف صحي…) للمواطنين من خلال مؤسسات غير ربحية مملوكة للدولة بسعر التكلفة.

تجسد هذا الاتجاه في أمريكا في يسار الحزب الديمقراطي وممثله بيرني ساندرز الذي يدعو للاشتراكية، ويقصد بها الاشتراكية الديمقراطية التي سادت في مرحلة الكينزية، وتزعم الدعوات إلى حقوق الجماهير في الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة وغيرها، وفى الأجور العادلة وإعانات البطالة. وشكل هذا الاتجاه نفوذا قويا داخل الحزب الديمقراطي رغم كونه ليس الاتجاه السائد، فقد كان نصيب ساندرز أحد عشر مليون صوتا في انتخابات مؤتمر الحزب الديمقراطي للترشح للرئاسة في مواجهة هيلاري كلينتون التي نجحت بثلاثة عشر مليون صوت. وله الآن كتلة في المجلس التشريعي تقدر بسبعة وثلاثين عضوا.

لم تكن الدولة العميقة في أمريكا، المجمع الصناعي العسكري، يتوقع نجاح ترامب عام 2016، بل ولا حتى ترامب نفسه كان يتوقع النجاح، فرغم أنه يمثل قطاعا داخل الطبقة المالكة الكبيرة إلا أنه لا يمثل المجمع الصناعي العسكري. وبعد نجاحه خاض معه هذا المجمع معركة هائلة في بداية حكمه حتى تخلى عن البنود الواردة في برنامجه التي تتعارض بقسوة مع مصالح هذا المجمع مثل حل حلف الأطلنطي وتقليص الميزانية العسكرية للولايات المتحدة ونبذ سياسة العداء لروسيا. كان نبذ تلك السياسات هو الوسيلة الوحيدة لديه في مقابل الضغط عليه بمحاولة عزله من الرئاسة بتفجير قضية نجاحه بالتآمر مع روسيا.

حافظت سياسات ترامب كما رأينا على الكثير من جوانبها الشعبوية والعنصرية والجمع بينها وبين تحقيق مطالب المجمع الصناعي العسكري. ويتضح هذا الاتجاه المتأصل في المجتمع الأمريكي وداخل قطاعات في الطبقة الحاكمة في مستوى شعبية ترامب الذي حصل في الانتخابات الأمريكية الأخيرة على نحو 74 مليون صوتا رغم هزيمته، ورغم أن هذا الرقم أقل بحوالي ستة ملايين صوت نالها بايدن، إلا أنه أعلى من عدد الأصوات التي نالها أي مرشح رئاسي من قبل.

أما المعسكر الديمقراطي فلم يتمكن من إنجاح بايدن إلا بتحالف مشروط مع الجناح اليساري في الحزب، حينما تنازل ساندرز عن ترشحه للرئاسة وتأييد بايدن. وتمثلت تلك الصفقة في التعهدات التي قدمها من ناحية البرنامج الصحي وتعويضات البطالة مراعاة المعايير البيئية، وكذلك التنازلات التي وضحت في اختياره لفريقه الرئاسي بدءا من تعيين أول امرأة، وأول سياسي من أصول لاتينية هندية في منصب نائب الرئيس، أي كمالا هاريس. أيضا في اختيار نساء وملونين في مناصب حكومته الرئيسية. وسنرى في الأيام المقبلة تطور الصراع بين هذين الاتجاهين.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار