فريد زهران يكتب.. قراءة جديدة في إجابات قديمة (٤)
قراءة جديدة في إجابات قديمة (٤)
كتبت هذه الورقة في أواخر 2014، وهي إعادة قراءة، أو بالأحرى كتابة لجُزءٍ كبير من ورقة كتبتُها وتَمَّ تَداوُلها في منتصف فبراير 2011 والثورة لا تزال في الميدان، وأعيد هنا نشر هذا الجزء لأنني أعتقد أنه لا يزال صالِحًا ومُفيدًا حتى هذه اللحظة، ويحمل إجابة على كثير من الأسئلة المثارة من 25 يناير وحتى الآن، وفيما يلي الحلقة الرابعة من هذه الورقة.
كيف نقرأ دور الشباب في الثورات؟
كان من بين الأمور المهمَّة جدًّا التي لفَتَت نظري مُبكِّرًا أن قوى الدولة القديمة، أو بتعبيرات أخرى: قوى الثورة المضادة، وبالتحديد بعد أيام قليلة من اندلاع الثورة، ومن خلال أجهزة الإعلام الرسمية التي كانت لا تزال تسيطر عليها بالكامل، راحت تشنُّ حملة منظَّمة تؤكِّد على: أوَّلًا: أن الثورة قام بها الشباب والشباب وحده، وثانيًا: أن هذا الشباب لا علاقة له بأي قوى أو شخصيات سياسية، وأن هذه القوى والشخصيات تحاول استغلال الشباب، وثالثًا: أن هذا الشباب ليس له أچندة، وهو ما يعني أنه ليست له مَطالِبُ أو رؤية أو أهداف، ومن خلال هذا المدخل بدأت قوى الدولة القديمة تحاول احتواء هذا الشباب بعد أن “تَخَّنِت مُخُّه” ووضعت حاجِزًا مفتَعَلًا من الشَّكِّ وعدم الثقة بينه وبين الأجيال الأكبر سِنًّا، وكذا القوى السياسية، ودفَعَته دَفعًا إلى إنكار علاقته بالسياسة باعتبار ذلك أمرًا حَسَنًا ومحمودًا، وبدأت محاولات الاحتواء بدعوة الحوار التي وجَّهها عمر سليمان للشباب، ثم باللقاءات والصفقات المتكرِّرة بعد ذلك بين بعض كبار المسؤولين وبعض الشباب، وتُوِّجَت هذه اللقاءات والصفقات بتوظيف -ومن ثَمَّ إفساد- عدد كبير من الشباب في مشروعات وخطط قوى الثورة المضادة، وهكذا انتهى الأمر ومعظم الشباب قد تمَّ إفسادهم أو إحباطهم نتيجة عدم قدرتهم وحدهم على تحويل أحلامهم إلى إستراتيچيات وتكتيكات قابِلة للتطبيق؛ لأنهم ببساطة لم يكن لهم ارتباط بذوي الخبرة السياسية، وأيضًا لم يبنوا لأنفسهم رؤية سياسية، بل بعضهم بدا وكأنه فخور بجهله وسطحيَّته.
كانت المؤامرة على الشباب واضِحة ًأمامي منذ الأسبوع الأول من فبراير ٢٠١١؛ ولذلك طرَحتُ في ذلك الوقت في الورقة التي حملت عنوان “اللحظة السياسية الراهنة” السؤال التالي: “كيف نقرأ دور الشباب في الثورات؟”، وقدَّمتُ الإجابة التالية: “كل الثورات التي عرفتها مصر كان بعضٌ مِن أبرز قادَتِها -فضلًا عن كل وقودها- هم الشباب، وهذا أمرٌ طبيعي؛ فالمظاهرات والمواجهات مع قوات الأمن ومعارك الشوارع هي كلُّها أمور لا يستطيع تحمُّلها -بشكل أساسي- سوى الشباب، والأفكار الجديدة والمبادرات الإبداعية وروح المبادَأة هي الأخرى أمورٌ لا يضطلع بها سوى الشباب؛ ولذلك لم يكن صُدفَةً أن أغلب شهداء الثورات هم من الشباب، وليس صُدفةً أن اللجنة الوطنية للطلبة والعُمَّال التي قادت انتفاضة 1946 كان أغلبها طلابًا وشبابًا نقابيِّين، وعندما حمَّلَت الأجهزة الأمنية مسؤولية انتفاضة يناير 1977 إلى 176 مُتَّهمًا كان أكثر من 80% منهم شباب لا يتجاوز متوسط أعمارهم 25 سنة، فى يناير 1977، وبناءً على كل ما تقدَّم فإننا لم نُرحِّب كثيرًا بالخطاب الرسمي، الذي تَلوَّن بفعل محاولات الالتفاف وركوب الموجة، وراح يغازل الشباب، مؤكِّدًا على أنها ثورة شباب لا ينتمون لأي فكر أو حزب سياسي، بل وذهب هذا الخطاب إلى أن الشباب خرجوا بثورتهم -التي فاجَأَت الجميع- فى مواجهة القديم، الذي يشمل ضمن ما يشمل: الأحزابَ والقوى السياسية والفكرية… إلخ. نحن على يقينٍ من أن هذا الخطاب -حتى لو كان بعض الذين يُردِّدون بعضَ مُفرَداته حَسَني النِّيَّة- يهدر أوَّلًا كُلَّ النِّضالات التي قام بها الشعب المصري على مدى تاريخه الحديث بصفة عامَّة، ويهدر على نحو خاصٍّ نضالات القوى والنُّخَب في الفترة من 2002 وحتى 2011، وهي نضالاتٌ قَدَّمَت فيها هذه النُّخَب تضحيات جسيمة في ظل الاستبداد والقهر الذي عاشته هذه القوى والنخب ما قبل 25 يناير، ويحاول هذا الخطاب أن يقطع ما بين الشباب وما بين هذه النُّخَب التي قدَّمَت للشباب النموذج الاحتجاجي، جنبًا إلى جنبٍ مع ترسانة من الأفكار التَّقدُّمية والليبرالية من خلال هامش ديمقراطي انتزعته هذه النُّخَب والقوى عندما تمَكَّنَت من إصدار صُحفٍ مُستقلَّة (مثل المصري اليوم، والبديل… وغيرهما)، وهذا الخطاب يهين الشباب أصلًا عندما يعتبرهم “أبيض يا ورد”؛ لأن الكثير من هؤلاء الشباب الذين قدَّموا مساهمات قيادية في هذه الثورة ينتمون فكريًّا -وسياسيًّا أيضًا في كثير من الأحيان- إلى تيارات ليبرالية ويسارية، فضلًا عن انتماء كثير من شباب التحرير إلى الإخوان المسلمين.
ما نَودُّ أن نقوله باختصار هو أن هذه الثورة فجَّرها وساهم في قيادتها الشباب، لكنَّ أغلب فئات الشعب وكذا أشخاص من مراحل عمرية مختلفة قد شاركوا فيها، والأهم أن كل القوى السياسية المعارضة شارَكَت أيضًا في كل فعاليتها بدرجات مختلفة، وكلٌّ على قدر طاقته وكفاحه، والأهم من كل ما تقدَّم أن عددًا كبيرًا من الشباب الذي أشعل فتيل الثورة ينتمي بعضهم إلى تيارات فكرية وسياسية مختلفة، فيما يتبنَّى نسبة كبيرة منهم أفكارًا إصلاحية وديمقراطية عامة، ومن المفترض، ولمصلحة تحقيق أهداف هؤلاء الشباب أنفسهم، أن يبني الشبابُ مستقبَلَهم السياسي على التراث النضالي للشعب المصري، وأن يتواصلوا مع هذا التراث، إمَّا من خلال الانخراط في مؤسسات قائمة ذات تَوَجُّهات سياسية أو ثقافية… إلخ، تجمع بين الشيوخ والشباب، أو من خلال استبعاد الشيوخ دون إهمال قراءة تجاربهم وتضحياتهم السابقة والبناء عليها، وفي كل الأحوال فإن الشباب المنتمين سيكون من السهل عليهم الانخراط في قوى سياسية قائمة أو سيكون لزامًا عليهم أن يبنوا أو يشاركوا في بناء قوى جديدة، أمَّا الذين يتبنون أهداف عامة فسيكون عليهم أن يطوِّروا أفكارهم بحثًا عن موقع على الخريطة السياسية التي يُعاد تشكيلها في خِضَمِّ هذه الثورة.
إن مَهمَّة بناء علاقة بين الشباب والأجيال الأكبر سِنًّا أمر في غاية الأهمية، وإذا اعتبرنا أن الأجيال الأكبر سِنًّا لها خبرة فإن المسؤولية تُلقَى على عاتقهم إذن بشكل أساسي في القيام بهذه المهمة، وهي مَهمَّة لا تحتاج إلى فهم هؤلاء الشباب فقط، بل تحتاج أيضًا إلى تقدير إمكاناتهم ومواهبهم وقدراتهم الواعدة، والثِّقة في أنهم قادرون على احتلال موقع القيادة في عملية التحوُّل الديمقراطي الجارية أو على الأقل المساهمة في هذه العملية بدور قيادي رئيسي، ونجاحنا في ذلك -على صعيد الحزب أو على صعيد الوطن- معناه ببساطة أننا في طريقنا إلى المستقبل الذي يحتاج بالفعل إلى دماء جديدة وأفكار جديدة وأساليب جديدة، ولعلَّ اعتماد الشباب الذين أشعلوا فتيل الثورة على الفيس بوك والإنترنت هو خير دليل على أننا -في ظل هذه المبادرات الخلَّاقة من شباب مُبدِع وقادر على استخدام أدوات العصر- نسير بالفعل، وبفضل إسهام هؤلاء الشباب، في طريق المستقبل.
لن أنسى أن بعض الشباب لم يَرُق لهم عندما اطَّلعوا عليه في الأيام الأولى للثورة، لكنني على يقين من أن مَن تَبقَّى من الشباب داخل حَومَة الوغى ونجا من الإفساد أو الإحباط ويطالع ما كتبتُ في فبراير ٢٠١١ سيفهم أن تخوُّفاتي كانت في موضعها.
نشر في البوابة نيوز بتاريخ
12/11/2014