محمد زكي الكراني يكتب ..كيف نشارك في العنف دون دراية؟

 

هل يمكن أن يؤدي تشجيع فنان موجه إليه تهم بالاغتصاب إلى انتشار جرائم الاغتصاب بالمجتمع ؟ هل تأييد مجموعة من الأفراد لداعية ديني يسخر من طفلة تنتمي إلى أقلية دينية في أحقيتها في الحصول على طعام يساهم بشكل مباشر في ارتفاع معدل جرائم التمييز القائم على الدين؟
وهل نقد مفكر لمواطن يقرأ كتابه المقدس أثناء عمله هو وصم للمتدينين بالمجتمع ويساهم في التمييز ضدهم؟ هل تبادر إلى ذهنك آيضاً أن ربط مظهر وسلوك السيدات بجريمة التحرش يؤدي إلى زيادة تلك الجريمة ؟
يظن قطاع من المواطنين أن آرائهم البسيطة التي يتداولونها يومياً كفصل حياة الفنان الشخصية عن عمله او آراء دينية تحمل طابع اقصائي لمواطنين في المجتمع او محاولة التقصي عن سلوك ومظهر السيدات المُعنفات ليس له علاقة مباشرة بجرائم العنف التي تنتشر في المجتمع. نحاول في ذلك المقال البحث عن إجابات تلك الأسئلة وعن دور الفرد كمكون أساسي للمجتمع في مجابهة تلك الجرائم.
“انتشار جرائم العنف والدور الأمني”
حينما تطفو على الساحة الإعلامية جرائم العنف الغير معتادة، يتبادر دوماً إلى الأذهان الحلول المتعلقة بحفظ الأمن الداخلي للمواطنين في مواجهة تلك الجرائم ، لا سيما مع بروز جرائم شديدة القسوة أثارت صدمة العديد من المواطنين خلال السنوات الأخيرة ، من حادثة تعرية مواطنة مسيحية في صعيد مصر، إلى التحرش بطفلة في مدخل أحد العقارات، مروراً بالتحرش بطفل آخر في قطار ، وقتل رجل دين مسيحي في قارعة الطريق ، ونهاية بجريمة ذبح فتاة المنصورة بالحرم الجامعي. تلك الحوادث على سبيل المثال لا الحصر.
لا شك أن الدور الأمني في منع تلك الجرائم، وتعقبها والقبض على الجاني لتقديمه للمحاكمة لا غِنَى عنه ولا يمكن بأي شكل التقليل من أهميته، وقد حازت تلك الجرائم -التي انتشر صداها في الإعلام المصري ووسائل الاتصال الاجتماعي- على اهتمام وتحرك واسعة من أجهزة الأمن للقبض على الجناة، ولكن هل يكفي هذا لمنع تكرار الجرائم مستقبلاً؟ وهل نتخذ كمجمتع الخطوات اللازمة لمكافحة انتشار الجريمة؟
“التطبيع مع العنف”
التطبيع في العلوم الاجتماعية هو أن تتحول السلوكيات والخطابات إلى ما هو مقبول وطبيعي في المجتمع (Normalization)، والعنف هو “الاستخدام الواع للقوة المادية كتهديد أو ممارسة، ضد النفس او ضد الغير او ضد المجموعة او المجتمع، الذي يُنتج عنه او يُزيد من احتمالية الإصابة، القتل، الإيذاء النفسي، النمو غير السليم او الحرمان” وذلك وفقا لتعريف العنف في تقرير عالمي عن العنف والصحة في عام 2002 صادر عن منظمة الصحة العالمية.
نستنتج من ذلك خطورة التطبيع مع العنف، الغير مقتصر في تعريفه على ارتكاب جريمة القتل او الإيذاء البدني، ولكن يمتد آيضاً الإيذاء النفسي او كل سلوك يزيد من احتمالية الإيذاء للغير. ومن هنا يجب أن نلتفت – في خضم مواجهة المجتمع لتلك الجرائم- إلى السؤال التالي، هل نُطبع مع العنف دون دراية؟
“الجرائم القائمة على النوع الاجتماعي والتمييز”
يظن البعض أن رفضهم وتعبيرهم بشكل واضح عن ذلك الرفض في مواجهة ذلك النوع من الجرائم (جرائم القتل المباشر، جرائم العنف كالاغتصاب والتحرش، الجرائم المرتبطة بالتمييز القائم على الدين، الهوية، العرق أو الثقافة) هو كاف للقضاء على مبررات العنف، وأن بقية الدور قاصر على مكافحة المجرمين من خلال أجهزة الأمن.
الحقيقة أن الاعتماد المقتصر على المجابهة الأمنية لذلك النوع من الجرائم لا يُقدم النتائج المَرجوُة دائما في الحد من الجريمة، فمهما كانت قدرات الأجهزة الأمنية، لا يُمكن تخيل وتوقع منع مواطن قام بذبح فتاة داخل الجامعة او في قارعة الطريق، ولا يمكن توقع أن تصل وحشية المجرم للنكاية بسيدة مُسنة وتعريتها عمداً أمام أهل قريتها، او التحرش بطفلة في مدخل بناية. حتماً توجد أسباب أكثر جذرية أدت لذلك السلوك المُشين، لا نستبعد بالطبع وجود أشخاص يُقدمون على تلك الممارسات بدوافع “الشر”، ولكن السؤال الأصعب، هل يجد هؤلاء الأشرار من يُبرر جرائمهم في المجتمع؟
“تبرير الجريمة”
” التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض.”
وردت تلك العبارة في المادة 53 من الدستور المصري الحالي، فأشارت صراحةً إلى التمييز والحض على الكراهية كجرائم، ويعني ذلك أن تبرير أي سلوك عنف قائم على التمييز او يحض على الكراهية هو جريمة لا يقل تأثيرها عن جرائم العنف المباشر. وهذا هو جوهر ما نتجاهله في مواجهة ذلك النوع من الجرائم.
لا شك في وجود دوافع مادية وجذور خلافية تدفع مُرتكبي ذلك النوع المخيف من الجرائم التي نشهدها في مجتمعنا، وهذا بالطبع دور التحقيقات الخاصة بالجهاز الشرطي والنيابة العامة، ولكن الاكتفاء بذلك كما أشرنا في بداية المقال لا يكفي للقضاء على تكرار تلك الجرائم مُستقبلاً، وهنا يأتي دور آخر يتعين على الدولة بكافة مؤسساتها القيام به ، والأفراد كمواطنين مسئولين ومشاركين في هذا المجتمع ، وهو رفع الوعي المجتمعي الخاص بقضايا التمييز، ومكافحة الخطاب القائم على التمييز بكافة اشكاله وأي كان مصدره الذي يُعد أحد جذور ارتكاب الجرائم المجتمعية.
ما يمكن أن يتصوره البعض خطأً انه خطاب ضمن حرية الرأي والتعبير، قد يكون جريمة تمييز وحض على كراهية مثلما أورد الدستور، أو قد يكرس للعنف ويسبب الإيذاء النفسي كما وُرد في تعريف العنف المذكور في بداية المقال. لا نشير هنا فقط إلى الجريمة المباشرة من قتل او عنف او ايذاء بدني، ولكن نتحدث عن تبريرات واضحة لتلك الجرائم من خلال خطاب شخصيات عامة أو أفراد، ويظن هؤلاء ان رفضهم للجريمة المباشرة القائمة على التمييز هو تبرئة لساحتهم ، ولكن العنف في الحقيقة هو شبكة من الخيوط التي تنتهي بوقوع جريمة، تبدأ من فرد قام بتبرير ممارسة التمييز ضد فئة ما، وتنتهي إلى مجرم ترسخت لديه تلك التبريرات كمُسَوِغ لممارسة العنف.
“العنف الذي تمارسه العصابات مرتبط بالتنمر الذي يرتبط بالعنف داخل المدارس الذي يرتبط بالعنف بين الشركاء في المنزل الذي يرتبط باساءة معاملة الأطفال الذي يرتبط باساءة معاملة الكبار”
تصدرت تلك المقولة تقرير نشرته منظمة مكافحة الأمراض والوقاية منها ( cdc) في 2014 عن الروابط بين أشكال العنف المختلفة (Connecting the Dots: An Overview of the Links Among Multiple Forms of Violence ). وقد لخص التقرير في احدى نتئاجه أن المجتمعات المُطبعة مع مظاهر العداء والإكراه تزداد فيها معدلات جرائم العنف. كيف نساهم كمواطنين في مجتمعنا وكيف تساهم الدولة في مواجهة التحريض على العنف و تبريره؟
“مفوضية مكافحة التمييز كدور للدولة، والكفاح النشط ضد التمييز كدور للفرد”
نصت المادة 53 الدستورية على إنشاء تلك المفوضية لمحاربة التمييز والحض على الكراهية، وقد ناشد الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي في أكثر من مناسبة بضرورة إنشائها وفقا للدستور لمجابهة الجرائم. وقد آن الآوان للالتفات إلى خطورة أي خطاب يُصدر من مؤسسة، أو افراد يبرر أو يحض على التمييز والعنف ضد الأفراد سواء تم نشره من خلال وسائل الاتصال الاجتماعي،أو داخل المؤسسات التعليمية او خلال أي مؤسسة إعلامية رسمية كانت أو غير رسمية، واعتبار تلك الخطابات جرائم مجتمعية ترفضها الدولة المصرية وتجرمها.
وعلينا كمواطنين أن نعي أن دورنا لا يقتصر فقط على إدانة جرائم العنف، أو مطالبة الدولة بإنشاء مفوضية تكافح خطاب التمييز، ولكن أن نمارس دوراً نشطاً في الحديث عن ذلك بشكل توعوي، فمكافحة التمييز لا تزدهر في أي مجتمع من خلال الدولة والمؤسسات السياسية فقط، ولكنها تتطلب مجهوداً مجتمعيا من الأفراد لإدانة وتوجيه اللوم ومقاطعة كل شخص يقوم بتلك الجرائم لاسيما من الشخصيات العامة. فلا سبيل لحدوث سلام واستقرار مجتمعي ومجابهة للتمييز في وجود شخصيات عامة تمارس تلك الخطابات.

وآخيراً، علينا أن نعي ان خطابات التمييز والحض على العنف والكراهية ، تمتد وتتجدد ما لم يكن للمجتمع بكافة مكوناته رغبة صادقة في مجابهتها، فما نظن أنه مجرد خطاب مكروه في المجتمع، سيتحول في النهاية لجريمة أخرى تحمل شبهات التمييز القائم على النوع الاجتماعي ، الدين او غيره. وإذا أردنا بجدية فتح حوار مجتمعي حول تلك الجرائم، فلا يجب تجاهل خطورة الخطابات التمييزية السائدة عبر وسائل الاتصال الاجتماعي والإعلام.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار