منى النشار تكتب ..من جدة إلى أديس أبابا كثير من اللقاءات .. كثير من الضباب

 

أسبوعان صاخبان مرت بهما المنطقة العربية وإفريقيا, شهدتا خلالهما أمواجا هائجة من اللقاءات والقمم, بدأت بقمة جدة ,تلتها قمة طهران, ثم زيارة وزيرالخارجية الروسى سيرجى لافروف إلى القاهرة وإفريقيا, علاوة على لقاء الرئيس محمد ابن زايد مع الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ,والذى التقى أيضا بالرئيس عبد الفتاح السيسى وولى العهد السعودى ضمن جولتهما الأوروبية ,وكذلك قمة الرئيس السيسى والمستشارالألمانى أولاف شولتز.
وقد عقدت تلك القمم فى سياق إقليمى ودولى شديد التعقيد
فعلى المستوى الإقليمى ,أصبحت إيران على بعد خطوات قليلة من امتلاك القنبلة النووية ولم يعد ينقصها سوى القرار السيادى.
وعلى جانب آخر, برزت المنطقة العربية خاصا مصر والخليج بما يمتلكونه من قدرات إنتاجية للطاقة فى هذا التوقيت العصيب الذى شهد إخلالا جسيما بإمدادات الطاقة واضطراب أسعار المحروقات ,علاوة على معطيات إقتصادية وسياسية ,كلاعبين مؤثرين على المسرح الدولى بما يستدعى من الأطراف الدولية على طرفى النقيض مغازلة المنطقة.
على مستوى أوروبا كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن ثلاثة مؤشرات عميقة
-العالم الجديد متعدد الأقطاب الذى ولد, والوهن الذى أصاب مكانة الولايات المتحدة كقطب أوحد
-الشقاق الذى بدأ يزحف ببطء لكن بثبات نحو الجدران الشاهقة التى تجمع العالم الغربى,
حيث بدأت أوروبا الغربية تدرك أن الولايات المتحدة لم تعد الحليف القوى الذى يؤتمن, وأن عليها حماية نفسها بنفسها.
فضلا عن اختلاف الأولويات الأوروبية الأمريكية ومحددات القرارالسياسى, والتخبط والارتباك الذى تعانى منه الإدارة الأمريكية والتى تسببت فى جرأوروبا لأكبرأزمة طاقة ونقص المواد الغذائية وتضخم فى تاريخها,
وبدلا من أن تقدم الولايات المتحدة يد العون إلى أوروبا, سارع البنك الفيدرالى الأمريكى برفع الفائدة مما تسبب فى مزيد من تدهوروضع اليورو.
-التغيرالعميق فى السياسة الخارجية الأمريكية, حيث انخرطت واشنطون فى هذا الصراع المحتدم ضد موسكو فى نفس الوقت الذى تصعد فيه ضد بكين, وهذا على خلاف ما كان متفقا علية وقت الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب والذى كان يميل فيه إلى التهدأة مع موسكو حتى يتفرغ لبكين.
ولكن الرئيس الأمريكى جوزيف بايدن أتى بما يخالف نصائح عقلاء الفكرالأمريكى وقام بالتصعيد على الجبهتين معا دون رؤية وخطة واضحة ومدروسة ,مما كان له كبيرالأثرعلى إضفاء الارتباك والتخبط على القرار الأمريكى.
على مستوى آسيا تتصاعد السنة اللهب فى بحرالصين الجنوبى, ويتنامى الوضع الحرج لجزيرة تايوان ليكشف عن ملعب آخر للصراع الدولى بين الولايات المتحدة والصين.
إصرار نانسى بيلوسى رئيسة مجلس النواب الأمريكى على زيارة تايوان الشهرالقادم كما أعلنت , سيكون جواز المرورلمواجهات عسكرية صينية أمريكية فى المنطقة ستسكب مزيدا من الزيت على بركان الغضب المشتعل أساسا لما يمثله من تنصل صريح للتعهدات الأمريكية بمبدأ الصين واحدة ,وهوما لن تسمح به الصين حتى وإن اضطرت لتغييرجذرى فى مبادئها المتعلقة بعدم الانخراط فى مواجهات عسكرية فى المدى القريب.
هذة البيئة الدولية الملتهبة هى الإطارالعام الذى تتشكل فيه العلاقات العربية العربية, والعربية مع جوارها الجغرافى, إسرائيل وإيران وتركيا, والعربية مع الأقطاب الدولية روسيا والصين والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبى.
وهى السياق الزمنى الذى تقيم فيه هذه القمم واللقاءات المتعددة التى عقدت على مدارالأسبوعين الماضيين.
على مستوى قمة جدة فقد فشل الرئيس الأمريكى فى تحقيق معظم أهدافه.
وقد استهدف تحقيق عدة أهداف على عدة مستويات
المستوى العسكرى: تأمين تنسيق إقليمى بين الدول العربية المعتدلة وإسرائيل فى مواجهة إيران على خلفية اقترابها من امتلاك القنبلة النووية.
علاوة على الدفع بمزيد من الإتفاقات حول منظومة الدفاع الجوى الإقليمى ضد الهجمات الإيرانية.
المستوى الإقتصادى :ضبط سوق النفط من خلال الضغط على الخليج لزيادة إنتاجه عقب العاصفة التى اجتاحت الأسواق العالمية على خلفية الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا.
مستوى السياسة الخارجية :حصد المزيد من إتفاقات السلام مع إسرائيل من أجل دمجها فى المنطقة العربية.
تصحيح العلاقات الأمريكية مع محور الإعتدال فى المنطقة العربية عقب سنوات من التوتر من أجل إبعاد روسيا والصين عن المنطقة.
مستوى السياسة الداخلية: تحقيق انتصارأمام الناخب الأمريكى خاصا على ضوء تدهور وضع الديمقراطيين والرئيس بايدن بسبب الحرب الأوكرانيا وما ترتب عليه من إرباك سوق النفط وأزمة غذاء وارتفاع الأسعار.
والحقيقة أن بايدن قد يكون نجح فى هدف واحد وهو منظومة الدفاع الجوى الإقليمى والتى بدأت بالفعل مع الإمارات والبحرين,وليس هناك مؤشرات تدل على أن السعودية قد أغلقت الباب أمام هذا الملف.
وأذكرأن مصر كانت سباقة فى رؤيتها المخلصة إزاء المخاطرالجديدة التى تتعرض لها المنطقة العربية, حيث طرح الرئيس السيسى خلال افتتاح أعمال القمة العربية السادسة والعشرين تشكيل قوة عربية مشتركة,وذلك وفقا لمعاهدة الدفاع العربى المشترك.
أما عن أخطرالدلالات التى كشفت عنها قمة جدة فهى ثلاثة أمور:
-عودة الولايات المتحدة إلى المنطقة العربية بعد سنوات من الإعداد للتوجه شرقا وإعطاء الأولوية إلى الصين,بما يمثل إخلالا بالسياسات الأمريكية والانخراط مجددا فى الشرق الأوسط دون خطة واضحة المعالم لذلك.
-انسلاخ الخليج من العبائة الأمريكية بل وتحدى القرار الأمريكى من منطلق إدراك الخليج طبيعة اللحظة الزمنية وما تكشف عنه من تغيرات عميقة فى النظام الدولى أزاحت الولايات المتحدة من على عرش القطب الأوحد وأعطت له المجال الواسع للمناورة وإقامة علاقات مؤثرة مع جميع الأطراف الفاعلة فى النظام الدولى,
والمميز هذة المرة أنه يبدوأن الخليج وتحديدا السعودية والإمارات تسعيان لإقامة شراكات عميقة وناجزة مع روسيا والصين ليس فقط من باب النكاية بالولايات المتحدة أو المناورة ,وإنما من أجل الاستفادة بما يمكن أن تسفرعنه العلاقات مع هذين القطبين العالميين الذين أثبتا فاعلية وقوة فى تحريك دفة الأمورعلى المسرح الدولى.
وقد جاء موقف الخليج انطلاقا من أربعة أمور:
إدراك الخليج لطبيعة اللحظة الزمنية ومتغيرات موازين القوى,افتقاد الثقة فى الولايات المتحدة كحليف لم يعد يؤتمن خاصا على ضوء التفاهمات الأمريكية الإيرانية ,رغبة الخليج فى إقامة علاقات متوازنة تقيه شرالغدرالأمريكى الذى ذاقه لمرات ,وتوظيف احتياج الصين وروسيا للخليج من أجل تحقيق أهداف وطنية,رغبة الخليج فى أن يكون فاعلا فى لحظة زمنية تتشكل فيها الخريطة الإقليمية والدولية.
وفى المقابل كانت هناك قمة طهران وجولة وزيرالخارجية الروسى سيرجى لافروف إلى إفريقيا,
من حيث قمة طهران فالأمرأشبه بمؤتمر يالطة الذى عقد فى فبراير1945قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية حينما توحد الحلفاء ضد النازية ولكنهم احتفظوا بتناقضاتهم التى ما لبثت أن فرضت نفسها على أجندة علاقاتهم ما بعد سقوط برلين.
فتركيا تدرك جيدا موقعها الجغرافى بالغ الثراء الذى يتيح لها هامشا رحبا من المناورة مكنها من اللعب على وتر التناقضات بين روسيا والولايات المتحدة لتحقيق أهداف وطنية بعيدا عن الناتو والاعتبارات التى يفرضها.
فتركيا بعد انهيارالإتحاد السوفيتى لم تعد دولة الناتوالمطيعة
وتصدعت الركائزالقائمة عليها العلاقات التركية الغربية ,ولكن أنقرة لازالت تبعد خطوات قليلة عن سيفاستبول الميناء العسكرى الروسى فى البحرالأسود مما يثيرشهية الناتو, وفى نفس الوقت هى الدولة المتمردة على الناتوالتى تثيرشهية روسيا فى ترويضها من أجل شق الصف الغربى وتأمين البحرالأسود بمضائقه الدردنيل والبسفورلإجهاض فرص الغرب فى تهديدها, بالإضافة إلى أنها عضوة الناتو الذى لاتؤخذ قراراته إلا بالإجماع والرئيس الروسى يطمح أن يكون له موطئ قدم فى الناتو,وهذا ما يبدو جليا فى موقف تركيا فيما يتعلق بقضية انضمام فنلندة والسويد إلى الناتووهى قضية خصبة جدا للرئيس التركى للمساومة والمقايضة لتسجيل أهداف فى الملفات العالقة مع طرفى النقيض روسيا والغرب.
أما تركيا وإيران فرغم العلاقات الصراعية تاريخيا ,دائما كانت الدولتان متفقتين على إيجاد التفاهمات فى خضم الصراعات ,وإيران لديها الكثيرمن الطاقة وتركيا لديها كثيرمن الأحلام فى الحصول على الطاقة أولا وأن تكون مركزا لوجستيا للطاقة فى المنطقة لزيادة أوراقها التفاوضية فى معاركها مع أوروبا ثانية , كما أن طهران تريد كسرالخناق الأمريكى عليها وتجد فى تركيا عضوة الناتو مجالا رحبا للمناورة,علاوة على الملفات الصراعية العالقة بينهما فى سوريا والعراق واليمن وناجورنوكارباخ والتى يشتبك فيها الطرفان بما يحتم عليهما التنسيق والتشاور.
أما العلاقات الروسية الإيرانية فمختلفة ,فإيران قادرة على رفع كلفة أى عمل عدائى أمريكى إسرائيلى ضدها من خلال الأدوات الجيوسياسية ,فإيران قادرة على الوصول إلى أهداف أمريكية تقع فى جوارها الجغرافى كما أنها تحاصر إسرائيل.
أما الخطير من الأمرهو ماحدث مؤخرا خلال زيارة الرئيس الفنزويلى نيوكلاس مادورو إلى طهران والتوقيع على إتفاقية تعاون إستراتيجى شامل ,كل هذة الأمور تثير شهية روسيا التى تتحد مع إيران فى العداء مع الولايات المتحدة,
أما الجديد الآن فروسيا تريد الإستفادة من الإنجازات الإيرانية فى مجال تصنيع المسيرات.
من جانب إيران تريد من روسيا الغطاء الإستراتيجى والخبرة النووية.
وفى هذا التوقيت من أزمة الطاقة الأوروبية من جانب واحتمالية التوقيع على إتفاق نووى إيرانى من جانب آخر, فإنه من المهم التنسيق بين موسكو وطهران من أجل انضباط سوق النفط.
أما عن الأهداف الرئيسية لقمة طهران فهناك هدفان:
الأول: الملف السورى والتأكيد على الإنسحاب الأمريكى من سوريا ومواجهة الإرهاب وهذا أيضا فى ذاته تناقض كبيرآخر, حيث أن الثلاثة أطراف غير متفقة على تعريف الإرهاب, قد تكون روسيا وإيران متفقتين على أن كل من يحمل السلاح بخلاف الجيش السورى فهو إرهابى, لكن الأمرليس كذلك بالنسبة لتركيا, حيث أن الإرهابى بالنسبة إليها هو حزب العمال الكردستانى بكل أجنحته خاصا تلك التى فى سوريا وهو قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيا والتى تفرض نفوذها فى الشمال الشرقى السورى ضمن المناطق التى تستهدف تركيا إقامة المنطقة الآمنة بها ,وهى قضية جدلية كبيرة بين تركيا من جانب وروسيا وإيران من جانب آخر,وقد تلقى الرئيس التركى تحذيرات واضحة بعدم تنفيذ ما سبق أن أعلن عنه بشن عملية عسكرية فى سوريا.
وختم الرئيس التركى حديثه فى القمة بأن العمليات العسكرية فى سوريا مستمرة ,كما صرح أن تركيا لا تحتاج لإذن, الأمرالذى يقوض ليس فقط نتائج القمة بل مسارأستانا ككل.
كذلك أعلنت الأطراف أنها تستهدف إلى التوصل لإتفاق بشأن تصدير الحبوب الأوكرانية العالقة للتخفيف من أزمة الغذاء العالمى, وهو ما تم فعليا بعيد القمة بإتفاق رباعى تاريخى شاركت فيه الأمم المتحدة.
من حيث أهم النتائج التى تحققت فهى:
أولا: إتفاق تصدير الحبوب
ثانيا: فشل السماح بالعمليه العسكرية التركية المزمعة فى الشمال الشرقى السورى, وتعهدت الأطراف جميعا بوحدة الآراضى السورية وسيادتها واستقلالها ومواصلة العمل المشترك لمكافحة الإرهاب ورفض خلق حقائق جديدة على الأرض السورية بذريعة مكافحة الإرهاب,مع تأكيد الرئيس التركى على عزمه مواصلة ما يسميه مكافحة الإرهاب.
ثالثا: تم الإتفاق على رفع مستوى التبادل التجارى بين تركيا وإيران ثلاثين ملياردولار وتمديد الإتفاق حول ضخ الغازالإيرانى إلى تركيا لمدة خمسة وعشرين عاما أخرى.
رابعا: بخصوص العلاقات الروسية الإيرانية فكانت أكثر حظا من المكاسب ,فتم الإتفاق على استثمارات روسية ممثلة فى شركة جازبروم فى قطاع النفط الإيرانى بقيمة أربعين مليار دولار بمشروعات الوقود الأحفورى ,تشمل تطوير ثلاثة حقول غاز فى إيران من ضمنها حقل بارس الشمالى والجنوبى الذى يعد من أكبر حقول الغاز بالعالم وتقدر كمياته بأربعة عشرتريليون متر مكعب بالإضافة إلى ثمانية عشر ملياربرميل من المكثفات علاوة على مشروعات إسالة الغاز
الأمرالذى يعد التفافا روسيا على الخطط الأوروبية الرامية لإيجاد بدائل للغازالروسى.
خامسا: الإتفاق على حصول روسيا على عدد ضخم من مسيرات إيرانية والتدريب عليها لمواجهة المسيرات التركية المستخدمة على نطاق واسع فى أوكرانيا.
سادسا: الإتفاق على استخدام العملات الوطنية فى عمليات التبادل التجارى.
إذا فقمة طهران أكثر نجاحا من قمة جدة ولكن إتحاد روسيا وإيران وتركيا ضد الولايات المتحدة يشبه إتحاد الحلفاء ضد النازية ,ومسارأستانا بهذة التناقضات الكبيرة ضبابى وهوقد يحقق أهدافا تكتيكية, إلا إنه لايحمل مؤشرات مؤكدة عن العلاقات المستقبلية.
الخاسر الوحيد فى هذة القمة هى سوريا ,لأنه من الواضح إصرار اردوغان على عدوانه الهمجى حول شنه عملية عسكرية على سوريا رغم التحذيرات.
أما الأطراف الثلاث فقد حققت انتصارات كبيرة, فإيران أكثرالفائزين علاوة على الإنتصارات الإقتصادية فقد أكدت على قوة علاقاتها الإقليمية والدولية فى مواجهة الولايات المتحدة.
أما تركيا فأثبتت فاعلية دولية فى القيام بدورالوسيط الذى أنقذ العالم من المجاعة, وأمنت احتياجاتها النفطية فى هذة الأزمة العالمية الطاحنة.
أما روسيا فمكسبها الأكبر خاصا فى هذا التوقيت هو العصف بالعقوبات الغربية وإتفاقها النفطى مع إيران الذى سيمكنها من حصد مزيد من أوراق لعبة الطاقة.
أما على مستوى زيارة وزيرالخارجية الروسى سيرجى لافروف إلى مصر وعدد
آخر من الدول الإفريقية إثيوبيا والكونغوالديمقراطية وأوغندا وجميهم دول حوض نيل, تكتسب أهمية خاصة فى هذة البيئة الدولية ,وتفسر فى السياق الإقليمى والدولى السابق ذكره, والهدف الأسمى لموسكو من زيارة القاهرة والخطاب الذى القاه لافروف فى جامعة الدول العربية ,هو التشاورحول ما يمكن أن تقدمه الدول العربية وعلى رأسهم مصر والخليج فى سياق الحرب الأوكرانية , كما تستهدف موسكو التأكيد على فشل الغرب فى محاولته الفاشلة فى عزلها والتأكيد كذلك على قوة علاقاتها الدولية خاصا مع المنطقة العربية والتى وصفت مواقفها إزاء الحرب الأوكرانية بالمتوازن فى إشارة إلى فشل الإدارة الأمريكية فى فرض قرارها على قمة جدة المتعلق بإبعاد روسيا عن المنطقة ,وكذلك رفض هذة الدول العربية الإنسياق خلف العقوبات الغربية على روسيا, الأمر الذى ثمنته موسكو جيدا.
ويأتى على رأس جدول الأعمال مناقشة الحرب الأوكرانية على سوق النفط وسلاسل الإمداد واضطراب الأسعاروالتى أثرت على المنطقة بشدة.
علاوة على مناقشة الموضوعات ذات الإهتمام المشترك بين القاهرة وموسكو سواء على المستوى البينى أوالإقليمى.
وأهم نتائج زيارة لافروف إلى القاهرة ذات طابع إقتصادى ,حيث بدأت الأعمال الإنشائية فى محطة الضبعة النووية ,بالإضافة إلى مناقشة المنطقة الصناعية الروسية الحرة بقناة السويس الجديدة ,وفتح المجال أمام مصر للإنضمام إلى مجموعتى بريكس وشنغهاى,علاوة على طمأنة مصرفيما يتعلق بالأمن الغذائى.
أما على المستوى السياسى ,فيمكن لروسيا أن تقوم بمساعى حميدة فى قضية مصرالأم المتعلقة بسد النهضة.
وتأتى جولة لافروف الإفريقية بالتزامن مع جولة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون وقبيل جولة المبعوث الأمريكى للقرن الإفريقى.
وبالتزامن أيضا مع حزمة المساعدات التى أقرتها الوكالة الأمريكية للتنمية إلى إثيوبيا والتى تقدر بما يزيد على الربعائة والثمانين مليون دولار.
علاوة على أنها جاءت بعيد إتفاق تصدير الحبوب
أما عن الأهداف العامة لجولة لافروف الإفريقية :
-دحض الإدعاءات الغربية وتبرأة أو تحسين الصورة الذهنية السلبية الروسية لدى المجتمعات الإفريقية التى تضررت نتيجة تداعيات الحرب الأوكرانية ,من خلال شرح دوافع السلوك الروسى.
-طمأنة الدول الإفريقية التى تعانى أزمات إقتصادية بسبب الحرب الأوكرانية خاصا فيما يتعلق بالأمن الغذائى.
-التأكيد على العلاقات الإفريقية الروسية الممتدة تاريخيا وسعى موسكو لترسيخ أقدامها فى القارة السمراء فى خضم منافسة دولية كبيرة.
-التمهيد للقمة الإفريقية الروسية المزمع عقدها نوفمبرالقادم فى سوتشى.
-اجتذاب أصدقاء جدد لما تتمتع به الدول الإفريقية من كتلة تصويتية هائلة فى المحافل الدولية والتأكيد على ما تتمتع به روسيا من علاقات دولية واسعة لإفشال المحاولات الأمريكية لعزلها.
-تصحيح ما تعتبره موسكو خطأ تاريخيا بالإنشغال عن إفريقيا.
-زيادة التبادل التجارى خاصا فيما يتعلق بالصادرات العسكرية ,مع فتح المجال لاستخدام العملات الوطنية.
أما عن ركائز جولة لافروف الإفريقية فتنبنى على قمة سوتشى التى عقدت فى 2019 وتستند كذلك على رفض الدول الإفريقية الإنسياق خلف العقوبات الغربية ,ورفض الكثيرمنهم التصويت على قرارإدانة روسيا فى الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن حربها على اوكرانيا ,ونظرة الشعوب الإفريقية إلى روسيا باعتبارها الصديق الذى وقف بجانب حركات التحررالوطنى ,والذى يلبى الإحتياجات الأمنية باعتبارها المورد الرئيسى للسلاح.
واتسم خطاب لافروف فى الإتحاد الإفريقى بتقديم وافر الإحترام إلى أصدقائه الأفارقة وسعيه لتعزيزالمصالح المشتركة ,وإعلاء مبادى ميثاق الأمم المتحدة الذى يقوم على المساواة والندية ,بعكس الخطاب الغربى الإستعمارى.
وأهم ما يميزموسكو هو تنحية الجوانب الثقافية والقيمية من علاقاتها بعكس الولايات المتحدة التى تربط مساعداتها بالمشروطية السياسية ,أى فرض القيم الديمقراطية الغربية بما لا يتناسب مع المجتمعات الإفريقية,مما يجعل من موسكو الشريك الأكثرثقة.
أما التحدى الأكبرالذى كشفته جولة لافروف فى المنطقة العربية وإفريقيا ,هومدى قدرة روسيا على التوفيق بين المتناقضات التى تموج بها المنطقة, بين مصروالخليج من جانب وإيران من الجانب الآخر, وبين مصرمن جانب وإثيوبيا من الجانب الآخر.
وكذلك وضع مجموعات فاجنر شبه العسكرية الروسية المثيرة للجدل.
علاوة على البيئة التنافسية الشديدة بين روسيا وعدد من الدول ذات النفوذ الراسخ فى إفريقيا ,خاصا وأن موسكو ليست الطرف الأقوى إقتصاديا.
وأهم نتائج جولة لافروف الإفريقية ,هو تقديم روسيا كصديق جدير بالثقة والإحترام , وحشد الاصطفاف إلى جانب موسكو ,وتعزيز نظرة الدول الإفريقية لأنفسهم بأنهم جزء من نزعة لتشكيل عالم متعدد الأقطاب ,علاوة على عدة أمور تتعلق بالجوانب العسكرية والإقتصادية ذات البعد التنموى الاجتماعى.
وقد عكست جولة لافروف الإختلاف الكبيربين السياسة الروسية والأمريكية ,حيث تحرص الأولى على إقامة علاقات دولية وفقا لميثاق الأمم المتحدة ومبادئه من الندية والإحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل فى الشئون الداخلية, كما عكست وعى وتعايش روسيا مع متغيرات النظام الدولى وذكاءها فى اللعب على أوتار التوترالتى تنتج عن السياسة الأمريكية التى أفرطت فى قوتها الغاشمة وغالت فى تعاليها وعنادها الأعمى تجاه متغيرات النظام الدولى, فلم تتحمل مواجهة منافسين ,فباتت تبطش وتتوعد وتتخبط فى قتال عقيم عل الساعة تعود إلى الخلف,وفى خضم هذة الأمواج المتلاطمة ,تقلص شاطئ علاقاتها الدولية الفسيح وباعدت الرياح بينها وبين حلفائها بينما نمى عدد خصومها وثقلت فاتورة صراعها مترامى الأطراف ,فغرقت فى بحر الأوهام والماضى, وبينما يتأمل حلفاؤها وضعها المهين ويغاشهم الارتباك والشك ,تمد لهم روسيا مصباح الإحترام المتبادل والمصالح المشتركة فيهتدون إلى الحاجة لإعادة حساباتهم وخريطة علاقاتهم.
وفى خضم أمواج القمم واللقاءات رفيعة المستوى التى جرت على مدارالأسبوعين الماضيين,تجد أوروبا نفسها تائهة لا مكان لها حقيقى على طاولة الاجتماعات وتعيش كابوسا من نقص أووقف إمدادات الطاقة بخلاف التضخم, الأمرالذى عصف بثلاث حكومات أوروبية حتى الآن, نتيجة الإنسياق الأعمى خلف الآراء الأمريكية العبثية التى لم تقدم حلولا منطقية لما تعانيه أوروبا وتسببت أساسا فى تدهور أوضاعها.
وتقاتل أوروبا الآن وحيدة فى معركة خاسرة ,تبحث فى هوامش تلك اللقاءات المتعددة عن بضعة براميل من الغاز, وشبح الركوع أمام روسيا يطاردها, أما أوكرانيا فلا مكان لها فى زحام المعاناة الأوروبية.
إن تلك الأيام العصيبة التى تمربها أوروبا ,يمكن أن يتمخض عنها قريبا جدا ما هو أشد ألما من هذة المعاناة ,ألم إعادة منظومة علاقاتها الدولية ,وقد يكون ليس من المغالاة أن يشهد العالم تحولات دراماتيكية بين أوروبا وروسيا والولايات المتحدة.
أما المنطقة العربية فأفضل حالا,إلا أنها لازالت تستكشف معالم الطريق الجديد الذى فجرته الحرب الأوكرانية, وتبحث بين طرقاته غير الممهدة عن بصلة علاقاتها المستقبلية, وتعيد تموضع نفسها بين لهيب الإختيارات الصعبة, بينما تلوح لها الولايات المتحدة عجوزا متصابية وقد زالت عنها مساحيق التجميل وتقف مترنحة فى عاصفة عاتية من المنافسين.
إن الإستغلال الأمثل لهذة اللحظة الزمنية يقتضى المعرفة الدقيقة للمحددات والأهداف الرئيسية لقطبى الصراع روسيا والصين فى جانب ,والولايات المتحدة فى الجانب الآخر, وفقا لمقتضيات الوضع الراهن ,وذلك من أجل إدراك الأرضية المشتركة التى تنبنى عليها المصالح المشتركة.
ولابد أن يتم ذلك بأكبر قدر ممكن من التوازن وعدم الإنحياز لطرف باستعداء الطرف الآخر,فلسنا فى وضع يسمح لنا باستغضاب أى من القطبين,علينا ألا ننحازولكن ليس على طريقة كتلة عدم الإنحياز,وعلينا التنسيق مع الغرب ولكن ليس على طريقة حلف بغداد ,بل فقط التنسيق الشامل مع الجميع وفقا لمبادئ الندية والإحترام المتبادل وفى حدود المصلحة المشتركة لكل طرف على حدة ودون معاداة الآخر.
وهكذا مرالأسبوعان الصاخبان ,رغم ما شهداه من أمواج القمم واللقاءات ,لم تتبلور بعد خريطة علاقات إقليمية أو دولية حاسمة ,بل نعيش ضبابا وسيولة لم يتمخض عنها بعد ملامح محددة ,ويبدوأن العالم قد تهيأ لحرب عالمية ثالثة ,لترسم بالدماء والدمار, خريطة عنت على مراقبين اليوم اكتشافها ,ولتحسم القوة فى ميادين القتال ما عجزت عنه طاولة المفاوضات ,لينهارالغد الأفضل فى أعين الإنسانية التى أعيتها أزمات اليوم ولن يغيثها المستقبل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار