منى النشار تكتب..الحرب الأمريكية على أوكرانيا

حبس العالم أنفاسه بعد تعرض بولندة “عضو بحلف الناتو ” للقصف بصاروخ روسى ومقتل شخصين فى قرية على حدودها مع أوكرانيا , واستعاد العالم ذكرياته المؤلمة حول الحرب العالمية الثانية والتى اندلعت بسبب هجوم الزعيم الألمانى ادولف هتلر على ممر دانزنج داخل العمق البولندى وعلى حدوده الشرقية , فى الأول من سبتمبر عام 1939 .
طالبت بريطانيا وفرنسا هتلر بالإنسحاب من بولندة التى كانت تتمتع بتعهد بريطانى بالدفاع عنها ,ومع رفض هتلر ,أعلن الجانبان البريطانى والفرنسى الحرب على المانيا .
فكانت بولندة شرارة حرب ضروس استمرت لستة أعوام كبدت الإنسانية الملايين من الأرواح و المشوهين والأيتام والأرامل والعشرات من المدن المدمرة ,كما أعادت تشكيل موازين القوى والنظام الدولى ورسمت حياة الإنسانية حتى وقتنا هذا .
كل هذة الآلام المبرحة استعادتها الإنسانية وهى تتابع التطورات الخطيرة التى شهدتها بولندة عقب تعرضها للقصف وتأهب المجتمع الدولى لنهاية العالم , ولكن لم تنتظر الإنسانية كثيرا حتى انجلت المواقف ,فجاء الرد الأمريكى سريعا بما يمكن اعتباره تبرأة الجانب الروسى من تعمد القصف ,حيث قال الرئيس الأمريكى جوزيف بايدن , إن الصاروخ الذى سقط ببولندة من غير المرجح أن يكون اطلق من روسيا .
تلاه المواقف الأوروبية , حيث قال ينس ستولتنبرج الأمين العام لحلف الناتو , إن الصاروخ أوكرانى اطلق بطريق الخطأ ,
حتى رئيس بولندة اندريه دودا قال لا دليل يثبت هجوما متعمدا على اوكرانيا .
واتفق الجميع حول حقيقة واحدة , أولا أن روسيا لم تطلق هذا الصاروخ ,وثانيا أنه اطلق من منظومة دفاع جوى أوكرانية عن طريق الخطأ .
من جانب روسيا , نفت موسكو منذ البداية مسئوليتها عن الحادث واتهمت كييف بتوريطها فى أزمة الإعتداء على أرض للناتو , الوحيد الذى يصر على اتهام روسيا والصاق تلك التهمة بها ودفع المجتمع الدولى لاتخاذ موقف تصعيدى ضدها ,هو الرئيس الأوكرانى فلودمير زلينسكى .
العديد من الأسئلة تفرض نفسها ,لماذا جاء رد حلف الناتو هادئا ؟ وما هى دوافع هذا الموقف الباهت ؟ وما هى الدلالات التى يحملها ؟ لماذا يصر الغربيون على تبرأة روسيا على الرغم من الأجواء التصعيدية التى يعيشها الطرفان منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية ؟ لماذا يصر زلينسكى على اتهام روسيا ؟ وما هى مصلحة كل طرف من التصعيد أو التهدأة ؟
أما السؤال الأبرز والأخطر هو هل حقا أطلق الصاروخ عن طريق الخطأ أم تعمدت أوكرانيا إطلاقه واصابة بولندة ؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه فى سياق هذة السطور ,ولكن علينا أن نأخذ فى الاعتبار تلك المؤشرات ,
– نقص مخزون السلاح الذى تعانى منه دول الناتو والذى دفع ستولتنبرج إلى التحذير من هذا الأمر , كما أعلن البنتاجون عن قلقه نتيجة ما اسماه باستنزاف بعض أنواع الذخيرة الأمريكية وأثار مخاوفا عن جهوزية الولايات المتحدة العسكرية واحتمال تعرضها للخطر .
وهذا نتيجة المساعدات العسكرية الجبارة التى قدمتها دول الناتو إلى أوكرانيا والتى مثلت استنزافا عسكريا كبيرا فى الوقت التى لم تكن تلك الدول على استعداد لمثل هذة المساعدات , واستعادة هذا المخزون يتطلب عدة سنوات ويواجه بمعوقات كبيرة نتيجة شح الطاقة .
الأمر الذى يجعل قدرة دول الناتو على الدخول فى مواجه عسكرية مباشرة مع روسيا أمرا محفوفا بالمخاطر إن لم يكن مستحيلا .
– تشرزم الموقف الغربى على مستوى العلاقات الأوروبية البينية وعلى مستوى العلاقات الأوروبية الأمريكية ,
فمن جانب , تتنامى الخلافات بين فرنسا والمانيا نتيجة عدة أسباب أبرزها القرارات التى اعتبرت انفرادية التى اتخذتها المانيا ,فمثلا قدمت دعما بقيمة مائتى مليار يورو لتخفيف معاناة المستهلكين نتيجة الإرتفاع الكبير فى أسعار الطاقة , علاو ة على الزيارة المثيرة للجدل التى قام بها المستشار الألمانى أولاف شولتس إلى الصين , إضافة إلى الاختلاف الكبير فى وجهات النظر حول تحديد سقف لسعر الغاز الروسى .
أيضا فالدول الأوروبية ليست على مسطرة واحدة فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا , فهناك الجناح المتوازن الذى يرغب فى التهدأة وهم المانيا وفرنسا وإيطاليا ,وهناك جناح الصقور والذى تتزعمه بولندة إضافة إلى دول البلطيق ويجنح إلى التصعيد والتشدد ضد روسيا , وهناك جناح المهادنة والذى يتخذ موقفا داعما لروسيا ورافضا للعقوبات وإدانة روسيا وهى المجر والتى ينظر إليها باعتبارها الحليف الروسى فى الإتحاد الأوروبى ,هذة التبايانات جعلت من الإجماع الأوروبى أمرا بعيد المنال .
أما على مستوى العلاقات الأوروبية الأمريكية , فقد شعرت الدول الأوروبية وعلى رأسها المانيا وفرنسا بغصة كبيرة نتيجة ما اسمته برلين بالأسعار الخيالية للغاز الأمريكى كبديل للغاز الروسى , علاوة على القانون المثير للجدل الذى صدق عليه بايدن المعروف باسم خفض التضخم .
وقد اعتبرت الدول الأوروبية السياسات الأمريكية بمثابة طعنة أخرى فى الظهر لا تتناسب وعلاقة التحالف التاريخى بينهما .
أما أسوأ مؤشرات التوتر بين أعضاء الناتو هو المزاعم الروسية بشأن ضلوع المملكة المتحدة بتفجير خطوط نورد ستريم الواقعة فى الأراضى الأوروبية .
– التسريبات بشأن اللقاء السرى بين جاك سوليفان مستشار الأمن القومى الأمريكى ومسئولين روس ,وتشى تلك التسريبات بوجود صفقة سرية روسية أمريكية بما يعرف بمنسك 3 لا يعرف على وجه التحديد ملامحها , إلا أن هناك من الوقائع التى تجرى حاليا قد تكون مؤشرا على طبيعة هذة الصفقة , فالإنسحاب الروسى السريع والسلس من شمال خيرسون مع الاحتفاظ بالأهداف الجيوسياسية للمنطقة فى الضفة الجنوبية لنهر دنيبرو ,والتغير الجذرى فى الموقف الأمريكى حول ضرورة بدء عملية تفاوضية بما يخالف التعنت والتعسف الأمريكى حول هذا الشان والذى استمر منذ بداية الحرب .
أما المفاجأة فهى إعلان الكريملين عن بدء مباحثات مع الجانب الأمريكى فى القاهرة فى التاسع والعشرين من الشهر الجارى حول معاهدة ستارت للحد من الأسلحة النووية , بما يؤكد أن الطرفين الروسى والأمريكى يتواصلان بشكل معمق منذ فترة طويلة خلف الكاميرات .
– التدهور الإقتصادى الذى تعانى منه الولايات المتحدة وأوروبا وعدم جدوى العقوبات الإقتصادية التى فرضوها على روسيا , بل على العكس كانت أوروبا أكثر الخاسرين جراء تلك العقوبات .
– عدم تمكن الدول الأوروبية من ايجاد بدائل للغاز الروسى كما زعموا بداية الحرب ,وقد فشلت كل محاولاتهم فى إيجاد حل سريع لأزمة الطاقة وقد داهمهم الشتاء واصبحوا على شفا كارثة إنسانية محققة .
– نتائج انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى ,فالجمهوريون المعارضون لإستمرار الحرب الأوكرانية قد سيطروا على مجلس النواب بما يمثل قيودا على الرئيس الأمريكى الديموقراطى فى تمرير قراراته حول المساعدات الضخمة إلى أوكرانيا .

كل هذة الأمور تغل يد الناتو لمواجهة عسكرية مفتوحة مع روسيا , قد يتبنون خطابا عدائيا ضد موسكو , قد يغالون فى فرض عقوبات عليها , قد يقدمون دعما عسكريا وإقتصاديا إلى كييف , إلا أنهم غير قادرين على التصعيد لحد المواجهات العسكرية فى حرب وصفتها واشنطون بنهاية العالم .

والحقيقة أن منذ بداية هذة الحرب توافق الجميع بطريقة ما على القواعد التى يتحتم على كل الأطراف الالتزام بها وإلا فستخرج الأمور عن السيطرة , تلك القواعد هى ما نستطيع أن نسميها المحظورات الثلاث ,أو اللاءات الثلاث الغربية , لا للسلاح النووى , لا لاتساع دائرة الاشتباكات العسكرية خارج آراضى اوكرانيا أو العدوان على أى دولة ضمن حدود الناتو , لا للمواجهة العسكرية المباشرة بين روسيا والناتو .
وكل طرف وضع نصب عينية تلك المحظورات بحيث لم يتعداها حتى فى أقصى لحظات التصعيد والتوتر , هناك بعض الإستثناءات التصعيدية كتفجير جسر القرم والهجوم الأوكرانى المضاد على خاركييف واستهداف آراض روسية والقيام بعمليات إرهابية داخل روسيا كاغتيال إبنة الفيلسوف الروسى الكسندر دوجين ,إلا أن الأمور ظلت تحت السيطرة .

ومن جانب روسيا فهى تعى جيدا أن استخدام السلاح النووى سيكون خيارها الأخير حال انغلقت الأبواب أمام تحقيق أهدافها مما تسميه عملية خاصة , ومن ثم لازال هناك مجال للأسلحة التقليدية , علاوة على عدم رغبة روسيا وعدم قدرتها أيضا على تشتيت نفسها لتوسع عملياتها لتشمل دولا أخرى بخلاف اوكرانيا , ويجتهد الرئيس الروسى فى التركيز على تحقيق الأهداف التى وضعها لعمليته الخاصة فى اوكرانيا وهى ارضاخ كييف بالطرق الخشنة لعملية تفاوضية وفق الشروط التى تعبر عن الوضع الميدانى القائم وتنتهى بالسلام من وجهة نظره وهو حياد اوكرانيا وتأمين حدوده وفقا لما يراه مناسبا .
علينا أن نأخذ فى الاعتبار أيضا المحظروات التى يتشبث بها حلفاء موسكو وعلى رأسهم الصين والهند , فلن يقبل أحد استخدام سلاح نووى أو اتساع دائرة الحرب ,فضلا على أن هذة الأطراف تشعر وتعبرعن الضجر الذى اصابها نتيجة استمرار هذة الحرب بلا أفق للتسوية , وموسكو غير قادرة على القيام بأى عمل يتسبب فى خسارة حلفائها أو الداعمين لها .
أما من جانب الناتو فكان الموقف واضحا وصريحا منذ بداية الحرب , لن تكون هناك أية مواجهات عسكرية مباشرة بينه وبين روسيا وهو ما تم حتى الآن ,علاوة على عدم قدرتهم على ذلك الأمر وفقا لما سبق شرحه .

وإذا ما خرجت الأمور عن السيطرة فهناك سؤال يفرض نفسه , من الذى سيتحمل المواجهة العسكرية مع روسيا ؟ بالطبع فى ظل الوضع العسكرى المتدهور لأوروبا ,لن يكون هناك إلا الولايات المتحدة , وهذا مخالف للخبرة التاريخية مع واشنطون ,
ففى الحربين العالميتين السابقين تدخلت الولايات المتحدة متأخرا بعدما انهك الجميع , واشتركت فى الحرب كشابة قوية اعادت تشكيل الواقع الميدانى وانهت الحرب لصالح دول الحلفاء , فكانت واشنطون أقل الخاسرين وأكثر الذين حققوا المكاسب .
أما الآن فأوروبا كسيحة بينما روسيا لازالت شابة لم تستخدم بعد كل طاقاتها العسكرية ولديها مخزون هائل من الغاز والقمح والمعادن واستعدت جيدا للعقوبات ,ولها علاقات دولية واسعة النطاق ومؤثرة .

إذا الجميع مصر على التشبث بتلك المحظروات ,مهما بلغ مدى الاستفزازات , أما الجديد وللأسباب السالف ذكرها فإن البدء فى عملية تفاوضية اصبح مطلبا لجميع الأطراف سواء المباشرة وهم المنخرطون فى الصراع روسيا والناتو , وغير المباشره وهم المجتمع الدولى الذى لم يعد فى مقدوره تحمل استمرار هذا الوضع ويمثل ضغطا عنيفا على الأطراف المنخرطة .

الطرف الوحيد الذى يشذ عن هذا الاتجاه الغالب والتهدأة والعملية التفاوضية لا تمثل مصلحته هو اوكرانيا ,
فهى حتى الآن لم تحرر إلا بضع كيلومترات من آراضيها ويبدو أنها لن تحرر أكثر من ذلك مع بدء فصل الشتاء وتجمد الوضع
ووصوله إلى طريق مسدود كما وصفه الجنرال مارك ميلى رئيس أركان الجيش الأمريكى , والذى يصر على موقفه مؤكدا أن تحقيق نصر عسكرى صريح أمر بعيد المنال .

ويدرك زلينسكى جيدا أنه لن يحصل من أوروبا على أكثر مما حصل عليه وأن الدعم الأمريكى لن يكون كالسابق فى ظل نتائج انتخابات الكونجرس , وأن الجميع يطلب منه أو ربما يجبره على الجلوس فى مذلة على مائدة المفاوضات مع خصمه اللدود الرئيس بوتين ليوقع غالبا على وثيقة استسلام محلاه ببعض المكاسب التى تحمى ماء وجه الناتو لا وجهه هو والتى لا ترقى لمستوى تطلعاته غير العاقلة التى تشدق بها ,ويبدو أنه يتحايل حتى لا يساق إلى الموت .

وهنا يفرض سؤال نفسه ,هل هناك تعارض بين مصلحة وأهداف واشنطون وبين كييف ؟
للإجابة على هذا السؤال علينا أن نسأل أنفسنا ما الذى كانت تريده واشنطون من هذة الحرب بالأساس ؟ ولماذا لم تعط واشنطون كافة الأسلحة التى كانت تحددها كييف ؟ بل كانت تقول أنا اعطيكم السلاح الذى أراه مناسبا ,وهو سلاح كان ضمانة لاستمرار الحرب ,ولكنه لم يكن السلاح الذى يضمن تفوق اوكرانيا فى الحرب .
منذ البداية وأهداف واشنطون تتعارض مع كييف , فالولايات المتحدة منذ البداية لم تكن تريد الحرب مع روسيا وإنما كانت تريد إضعاف روسيا وأوروبا , الرئيس بايدن لم يكن من أهدافه تحرير أراضى أوكرانيا , وإنما امتطاء أوكرانيا لتحارب روسيا نيابه عنه , وخلق الييئة السياسية والإقتصادية التى تتسبب فى استنزاف أوروبا , علاوة على تحقيق أهداف إقتصادية ببيع الغاز الأمريكى بأسعار خيالية , ولكنه ادرك متأخرا سوء تقديره للموقف , فقد واجه ما لا يتمناه وهو تنامى العلاقات الحميمة بين روسيا وعدوه الأول الصين , ووجد نفسه يحارب على جبهتى قتال فى آن واحد , موسكو وبكين , وهو مالاقبل لواشنطون به , هذا فضلا عن انفلات علاقاته التقليدية مع حلفائه المؤثرين وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية .
ومن ثم أفرز الواقع الميدانى والنجاح الروسى أهدافا تكتيكية جديدة لواشنطون , وهى افساد العلاقة بين موسكو وبكين وبين موسكو والمنطقة العربية أو على الأقل تحجيم التنامى والتهدئة مع الجميع لدراسة الموقف لبناء استراتيجية هجومية جديدة .

وقد بدأت مسيرة التهدئة باللقاء المباشر بين بايدن والرئيس الصينى شى جين بينج خلال قمة العشرين التى عقدت فى بالى بأندونسيا ,والتأكيد على المؤكد حول مبدأ صين واحدة بعد عاصفة التوتر التى تسببت بها الزيارة الخرقاء التى قامت بها رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسى بيلوسى إلى تايبيه مطلع أغسطس الماضى ,ومن ثم فالتغير الجذرى فى الموقف الأمريكى حول حث زلينسكى فى البدء فى عملية تفاوضية بين موسكو وكييف لا ينفصل عن التهدئة مع بكين , وأيضا الزيارة الودية التى قام بها بايدن منتصف يوليو الماضى إلى السعودية , واتصور أن لدى بايدن الآن خطة فى التهدئة مع الرياض أيضا رغم عاصفة القرار التاريخى لاوبك + بخفض الإنتاج 2 مليون برميل يوميا .

لقد تغطرست الولايات المتحدة أكثر مما تحتمل , وبالشكل الذى لا يتناسب ومتغيرات الواقع الدولى , وراحت تزأر كأسد عجوز لعبت الخمر برأسه فتصور أنه لازال فى أوج شبابه يستطيع مطاردة جميع فرائسه الذين يفرون منه فى اتجاهات متعددة وتذوق لحومهم الشهية .
وبعدما امضى بايدن عامين من حكمه قضاها فى التهديد والعجرفة واشعال الأزمات على الجبهات المختلفة , سيقضى البقية فى التهدئة لمعالجة الآثار المترتبة على الحرائق التى أشعلها بنفسه ,ولكن الأمر يحتاج لتقديم قرابين , تلك القرابين التكتيكية ستكون تايوان واوكرانيا ولكن بالشكل الذى يحمى ماء وجه واشنطون وبالشكل الذى يخفف من تكريس الفكرة المزعجة المتنامية باعتبار واشنطون الحليف الذى لا يؤتمن .

لقد ادرك زلينسكى أنه هو القربان الذى يتعين تقديمه لبوتين من أجل واشنطون لا من أجل السلام , ويبدو أنه يحاول التملص بإحداث متغير قوى يفسد التهدئة المبتغاة من الجميع بتوريط روسيا باستهداف أرض للناتو .
لم تنطل تلك الخدعة على دول الناتو التى سارعت بوأد الأزمة بالشكل الذى يحمى ماء وجهها . لتطرح أسئلة أخرى ,
ما هو مستقبل حلف الناتو فى ظل هذا التشرزم بين أعضائه ؟وما هى تفاصيل الصفقة السرية بين موسكو وواشنطون ؟
وما هى سيناريوهات الحرب الأوكرانية فى ظل الواقع السياسى والعسكرى القائم ؟ وما هى حدود التنازلات المقبولة التى يتعين على الطرفين الروسى والأمريكى تقديمها خلال العملية التفاوضية المزعومة ؟ وهل يمكن أن تؤدى تلك العملية إلى نتائج
مرضية ؟ وما هى فرص نجاحها ؟ وهل ستستمر العقوبات الغربية على روسيا ؟وهل يمكن أن تعود تدفقات الغاز الروسى إلى أوروبا مجددا ؟
كلها أمور ستنجلى مع كشف النقاب عن الصفقة السرية بين موسكو وواشنطون , وقد يكون اجتماع القاهرة ضوءا لما ستئول إليه الأمور .

يبدو أننا مقبلين على مرحلة من الهدوء بالقياس إلى الضوضاء الصاخبة التى عاشها العالم منذ الإجتياح الروسى لأوكرانيا ,
فمن جانب روسيا , حقق بوتين الكثير من أهدافه العسكرية , ويحتاج لتثبيت إنتصاراته وفرض كامل السيطرة على اقليم الدونباس ,وقد يكون الإنسحاب الروسى غير المؤثر من شمال خيرسون مع الإحتفاظ بأهدافه الجيوسياسية فى الضفة الشرقية من نهر دنيبرو , هدية مشهية للجانب الأمريكى لحماية ماء وجهها أمام المجتمع الدولى وللتغطية على الفشل العسكرى والسياسى الكبير الذى منى به بايدن , وكستار أنيق لقبول أمريكى للوضع العسكرى الراهن ,إلا أن بوتين يحتاج لحسم عدة أمور مع واشنطون ليتوقف عند هذا الحد وهى مسألة حياد أوكرانيا والعقوبات وضمانات لسياسات غير عدائية من الناتو تجاه محيطه الاستراتيجى.
وإذا تم لبوتين هذة الأمور فستتوقف الحرب ,وليس من المتصور أن يستهدف بوتين انتزاع اعتراف الناتو بالوضع الميدانى القائم , كما أنه ليس من المتصور أن يتساهل الناتو مع بوتين للحد الذى يمنحه انتصار كهذا , وهنا تكمن المفاوضات وتتحدد التنازلات , ولكن بوتين الطرف الذى ليس مضطرا لتقديم تنازلات أكثر مما ينبغى .

أما الجانب الأمريكى فكل ما يبتغيه الآن هو تجميد الوضع ووقف التدهور بالشكل الذى يحمى ماء وجهه لإعادة تقييم موقف الولايات المتحدة ككل فى كل الملفات أو لنقل الحرائق التى أشعلتها , لا بغرض التهدئة المستدامة , وإنما بغرض تقييم الموقف وإعادة تحديد الأولويات والاستعداد للهجوم على المدى المتوسط بخطة أكثر عقلانية وبالشكل الذى يجعل واشنطون فى منأى عن الصراع فى جبهتين فى آن واحد .

أما الجانب الأوروبى فهو الطرف الأكثر خسارة وتشرزما وارتباكا ,وأمام أوروبا سنوات ثقال لتعويض خسائرها الإقتصادية الفادحة نتيجة العقوبات التى فرضتها بنفسها على روسيا , ولبناء قوة عسكرية أوروبية خالصة قادرة على تحقيق الأمن الجماعى داخل القارة الأوروبية , ولكن هذة الأمور محل تساؤلات فى ظل تشرزم المواقف والأنا القومية المتنامية , وحتى تتحقق تلك الأمور فأوروبا الآن لا تنشغل بأوكرانيا وإنما بالشتاء القارص الذى يدق أبوابها ,وبالمصانع المغلقة نتيجة شح الطاقة ,وبشعوبها الغاضبة التى اسقطت ما يزيد على الثلاث حكومات حتى الآن .
لذا فأوروبا أكثر الأطراف طلبا لبدء المفاوضات وتوقف الحرب ورفع العقوبات على روسيا ,ولن تعبأ كثيرا بما انتزع من أوكرانيا من آراض .

أمامنا الآن سيناريوهان , فشل المفاوضات أو عدم البدء فيها بالأساس ومن ثم استمرار الحرب مع انسحاب أوروبا , لتبقى واشنطون وحيدة فى مواجهة موسكو ودعم كييف , وذلك حال فشل الطرفان فى التوصل لصيغة مشتركة مرضية .
أما السيناريو الآخر واتصور أنه اكثر ترجيحا هو البدء بعملية تفاوضية تنتهى إلى إما تجمد الوضع , أو بصيغة تنتصر فيها الإرادة الروسية مع قليل مما يحمى ماء وجه واشنطون , ليدخل العالم مرحلة جديدة من النظام الدولى وموازين القوى تشهد مزيدا من تقلص النفوذ الأمريكى ومزيدا من التعاون بين موسكو وبكين والدفع بعالم متعدد الأقطاب وفقا لرؤية كليهما .

أما أوروبا لن تستمر فى الحرب ف جميع الأحوال , قد تقدم دعما شكليا لأوكرانيا , إلا أنها سترفع العقوبات على روسيا لإعادة تدفقات الغاز ,وستعيد تقييم علاقاتها مع الولايات المتحدة , مما يفتح المجال لسيناريوهات كانت بالأمس القريب مستحيلة .

أما أوكرانيا فهى جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب , أو كسوريا تخوض حرب الآخرين على أرضها , ويبدو أن زلينسكى اصبح عقبة أمام بايدن الذى يتنسم رائحة المفاوضات , وإذا استمر زلينسكى فى موقفه المتعنت الرافض للمفاوضات أو إعاقتها بشروطه المبالغ فيها غير العاقلة فسيتم التخلص منه , لاعلى يد يوتين بل على يد بايدن إذا وجده حائلا للصفقة المبتغاة , ليصدق قول هنرى كسينجر وزير الخارجية الأمريكى الأسبق والداهية السياسى , أن تكون عدوا للولايات المتحدة فهذا أمر خطير , أما أن تكون صديقا فهذا هو الأخطر .

أما بولندة فلن تحميها واشنطون إلا بالقدر الذى تحمى به واشنطون نفسها ,ولن تتورط فى حرب من أجلها كما تورطت بريطانيا وفرنسا من قبل حينما تذرعت بهجوم هتلر علي دانزنج , فواشنطون تشعل الحروب التى لا تخوضها , وبايدن يقوم الآن بما قام به سلفه فرانكلين روزفلت , حينما طرب لصوت المدافع بين الأوروبيين وظل بعيدا يشاهد أوروبا
– الخصم الصديق- وهو يمزق نفسه بيديه دفاعا عن بولندة , ليدفع القوى التقليدية بريطانيا وفرنسا بعيدا عن عجلة قيادة العالم ليتربع هو .
يبدو أن واشنطون تحتاج لبولندة جديدة , تهوى أوروبا فى مستنقعها , ولكن هذة المره لن تكون بسبب النازية , وإنما من أجل الديموقراطية , الجديد أن المدافع الآن تنطلق بما لا يشتهى البيت الأبيض .
فبولندة تذرعت بها بريطانيا وفرنسا لكبح التطلعات الألمانية فى فرض نفسها كقوى عظمى ومزاحمتهما , وبدلا من أن تحافظ الدولتان على مكانتهما الدولية , عادا مئات السنين إلى الوراء كسيحتين , هزما هتلر بجبروته , وهزمهما الزمن بتطوراته , ليجلس على عجلة قيادة العالم حلفاؤهما , وها هى الولايات المتحدة تخوض نفس الحرب ضد روسيا والصين , وستلقى مصيرا مشابها , فلا أحد يقدرعلى معاندة الزمن .

وفى جميع الأحوال أسفرت الحرب الأوكرانية حتى الآن على هزيمة جديدة ساحقة للولايات المتحدة تضاف إلى سلسلة هزائمها أمام بوتين والتى بدأت منذ عام 2008 , حينما اجتاح الجيش الروسى آراض جورجية وانتزع منها الأقليمين الإنفصاليين أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية واعترف بهما كدولتين ذات سيادة ,وذلك فى أوج قوة الولايات المتحدة كقطب أوحد , لم يستطع الناتو فعل شئ لجورجيا سوى الضجيج والشجب , ولم يجد نفعا لرئيس الوزراء الجورجى وقتها ميخائيل سكاشفيلى نفعا علاقاته القوية مع الناتو .
ثم أعاد بوتين الكرة مع شبه جزيرة القرم عام 2014 , ثم أعادها للمرة الثالثة بانتزاع الأقاليم الأربع الأخيرة من اوكرانيا , وفى كل مرة ينجح بوتين فى فرض إرادته , صحيح أن هذة المرة لم تكن سلسلة , إلا أن الغرب ليس لديه أدوات , وواشنطون تزداد ضعفا يوما بعد يوم ,وهى مثقلة بتصورات غير عاقلة عن قدرتها فى وقف الزمن لتعيش إلى الأبد كقطب أوحد .

لا أحد يستطيع معاندة الزمن , جاءت حرب أوكرانيا لتكشف لنا الإهتراء بين الغرب , وهشاشة أقوى حلف عسكرى فى العالم ,ولتكرس فكرة الولايات المتحدة الأسد الجريح الذى خارت قواه , والحليف الذى لا يؤتمن , والمرأة المتصابية التى لم تعد تسعفها مساحيق التجميل , والمحارب الهائج الذى يخون أصدقائه ويقاتل من أجل أموال تجار النفط والسلاح ويشهر سيفه لينتصرعلى أنقاض الإنسان , والفتاة العارية التى ظهرت عورتها بعدما سقطت عنها ثياب الديموقراطية الأنيقة .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار