منى النشار تكتب..خمسة وأربعون عاما على زيارة السادت للقدس . . . وعودة لفرصة تاريخية ضائعة

مرت خمسة وأربعون عاما على الزيارة التاريخية التى قام بها الرئيس أنور السادات إلى القدس , تلك الزيارة التى لازالت تثير جدلا وما ترتب عليها من توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية .
وعلى الرغم من مأساوية الأوضاع الخاصة باستمرار الإحتلال الإسرائيلى للجولان السورية والدولة الفلسطينية , خاصا تلك القضايا المتعلقة بالقدس – جوهر الصراع العربى الإسرائيلى – وتآكل آراضى الدولة الفلسطينية بفعل الإستيطان الهمجى , وذلك بالمقارنة للأوضاع التى كانت عليها الأمور وقت إتفاقية السلام , إلا أنه لازالت هناك أصوات غير عاقلة لم تفهم بعد ما الذى حدث , تلك الأصوات الصادرة عن أصحاب التفكير الإنفعالى العاطفى من يطربون إلى ضجيج الميكرفونات ويفتنون بالخطب التى تلهب المشاعر .
هذ السطور تحاول مناقشة الأمر بقليل من التحيز وكثير من الموضوعية والتفكير المنطقى العاقل .
فكل حدث هو بالضرورة إنعكاس لسياقه الزمنى ولابد من فهم منطقى وعميق – بعيدا عن التفسيرات العاطفية – لطبيعة اللحظة الزمنية والعوامل التى أدت إليها كى يتسنى لنا الوقوف بدقة ومنطق على ماذا حدث ولماذا حدث .
إن هذا الأمر هو لصيق الصلة بالعلاقات السوفيتية الأمريكية التى هى جزء لا يتجزأ من تطورات النظام الدولى وموازين القوى ,
لذا نستعرض مع سيادتكم فى عجالة التطورات التاريخية وصولا إلى اللحظة الزمنية المبتغاة .

مرت العلاقات الأمريكية السوفيتية بمراحل عدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى إنهيار الإتحاد السوفيتى . وليس صحيحا أن الحرب الباردة على مسطرة واحدة من الخصائص , بل عمل السياق الزمنى المتغير بعوامله المختلفة على صبغ كل عقد تقريبا بخصائص مميزة , جعلت له تأثيرا خاصا على الأحداث التى حدثت خلاله , بحيث لا يمكن تفسير تلك الأحداث فى اطار الحرب الباردة ككل.

بدأت الحرب الباردة منذ انتهت الحرب العالمية الثانية , كما بدأت الحرب العالمية الثانية منذ انتهت الحرب العالمية الأولى ,
إنه صراع النفوذ .
فى البداية نظرت المانيا إلى نفسها بعد هزيمة فرنسا فى المواجه العسكرية الأولى والتى انتهت عام 1871 وتوقيع معاهدة فرساى الأولى , باعتبارها قوة تستحق أن يكون لها مكانا خاصا تحت الشمس بجانب القوى العظمى التقليدية بريطانيا وفرنسا , ومن ثم لم تكن المانيا راضية عن وضعها , حيث تستحوذ القوتان المتنافستان على عجلة قيادة العالم , هنا مكمن الحربين العالميتين والسبب الرئيسى لاندلاعهما , فالمانيا كانت تحاول بالطرق الخشنة انتزاع المكانة الدولية التى تراها مستحقة لها , والقوتان الكبيرتان لم يسمحان لها بذلك – دائما هناك قوى عظمى قائمة تستميت من أجل الحفاظ على تلك المكانة الدولية – وغالبا هناك صراع بين الكبار يتم تجاهله حال شعورهم بتهديد طرف ثالث يهدد وضعهم , هذا ما حدث حينما إتحدت بريطانيا وفرنسا ضد ألمانيا فى الحربين العالميتين .

تطورت الأمور بين الخندقين , وانتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة نكراء لألمانيا , وكما ساق الألمان الفرنسيين المنهزمين فى عام 1871 إلى قاعة المرايا فى قصر فرساى بمدينة ستراسبرج لتوقيع فرساى الأولى , ساق الفرنسيون الألمان المنهزمين إلى ذات القاعة لتوقيع فرساى الثانية ” اتفاقية سلام ” ولكنها فى ذاتها السبب الرئيسى للحرب العالمية الثانية , فلم تكن ألمانيا لتقبل هذة الإهانة لكبريائها القومى – دائما يحتاج المنهزم لحماية ماء وجهه – فكانت ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية كالوحش الكاسر
للحد الذى جعل الفرنسيين يركعون أمام الجيش الألمانى الذى احتل فرنسا ” قوة عظمى ” بلا حرب .

فى بداية الحرب العالمية الثانية كان الزعيم الألمانى ادولف هتلر منتصرا انتصارا ساحقا حتى هاجم بغباء الإتحاد السوفيتى الذى كان يقف بعيدا مكتفيا بمشاهدة حرب لا تخصه , حتى اضطر للإشتراك فى الحرب والتخندق مع أعدائه الليبراليين فى خندق الحلفاء , أيضا وبسبب الهجوم اليابانى على بيرل هاربرد اضطرت الولايات المتحدة للإشتراك فى الحرب بجانب الحلفاء , هنا انهزم هتلر .
ومع نجاح الحلفاء فى عملية إنزال النورماندى فى 6 يونية 1944 , اصبحت هزيمة هتلر مؤكدة والوصول إلى برلين مسألة وقت , وهنا بدأت الحرب الباردة , منذ وعى أو لنقل انتباه الحلفاء لتناقض بعض الأمور الخطيرة فيما بينهم , بينما هتلر كان لايزال يقاتل .

وكان هناك ثلاثة محاور متصارعة داخل خندق الحلفاء , البريطانى الفرنسى أو لنقل القوى التقليدية التى انهزمت على الصعيد الإقتصادى والديموجرافى والسياسى ولم يعد فى مقدورها الإستمرار فى قيادة العالم , والإتحاد السوفيتى الذى كان متوليا الجبهة الشرقية من أوروبا لإحكام الكماشة الجيوبولتيكية على هتلر , والذى نظر إلى الأمر باعتباره الفرصة التاريخية لتبوأ المكانة الدولية التى حرم منها كقوة عظمى , والولايات المتحدة التى تخلت عن مبدأ مونرو أو الحياد الأمريكى واصبحت ترغب فى الصعود كقوة عظمى , وأيضا نظرت للأمر باعتباره الفرصة التاريخية لإزاحة خصومها من القوى التقليدية “حلفائها الأوروبيين” والصعود كقوة عظمى .

كلا الطرفين السوفيتى والأمريكى نظرا إلى الأمر باعتباره فرصة تاريخية لتغيير النظام الدولى , أما الطرف البريطانى والفرنسى , كان الطرف الأضعف والذى ادرك أيضا أن لحظة التغيير قد حانت , وهذا هو الجانب المضحك من الأمر , فبريطانيا وفرنسا حاربتا المانيا من أجل الإحتفاظ بالقيادة الدولية , ولكنهما انهزما أمام العدو الألمانى الذى انتصرا عليه , ليجدا تفسيهما أمام الأعداء الجدد ” الحلفاء “ولنفس السبب , وبدلا من الإحتفاظ بوضعهما تقهقرا خطوات عنيفة إلى الوراء بلا أية مقدرة على التغيير , ففى عالم السياسة أن تحصل على ما تستطيع وليس على ما ترغب أو تستحق .

فى نهاية الأمر وجد الطرفان السوفيتى والأمريكى نفسيهما فى مواجهة بعضهما البعض , بينما كان لايزال هتلر يقاتل فى حرب لا انتصار فيها , واصبحت المعركة الجديدة بين الحلفاء على من يصل برلين أولا ,والمنهزم حقيقا كانت أوروبا التى خرجت من التاريخ ليبدأ نظام دولى جديد عنوانه الحرب الباردة بينما الحرب العالمية الثانية لم تكن قد اسدلت ستارها بعد .

فى 4 فبراير 1945 عقد مؤتمر يالطا بشبه جزيرة القرم بالبحر الأسود حضره الحلفاء فرانكلين روزفلت ووينستون تشيرشل وبإستثناء شارل ديجول حيث كانت فرنسا تحت الإحتلال , بدعوة من الزعيم السوفينى جوزيف ستالين , هذا المؤتمر رسم حياة الإنسانية لعشرات الأعوام وانبثقت منه الحرب الباردة , حيث التقى الجميع للتوافق على ملامح النظام الدولى الجديد الذى اصبح كالجنين الذى حان ميعاد ولادته .

لم تمض إلا شهور قليلة حتى سقطت برلين فى 2 مايو 1945 , وكان السوفيت أول من وطأت أقدامهم أرض المعركة
” الجائزة الذهبية ” ورفع العلم الأحمر أعلى مبنى الرايخ ستاج ” البونتستاج حاليا ” فى صورة تناقلتها الصحافة العالمية كلحظة فارقة فى حياة الإنسانية , ثم وقعت الهدنة أو وثيقة استسلام المانيا فى 9 مايو 1945 بتوقيت موسكو .

غضب الأمريكيون من وصول السوفيت إلى برلين أولا , لأن موازين القوى مالت تجاههم , واصبحت واشنطون فى حاجة لإرسال رسائل سياسية لأكثر من إتجاه , تجاه القوى التقليدية مفادها نحن الأقوى وأنتم انتهى زمانكم , وتجاه الإتحاد السوفيتى نحن الأقوى والأقدر بالتفرد بعجلة قيادة العالم وعليكم إحترام قوتنا والتراجع بما يناسب حجمكم الأقل شأنا منا , تجاه اليابان مفادها نحن سننهى حربكم علينا , هنا كانت القنبلتان الذريتان على هيروشيما ونجازاكى فى 6 و9 أغسطس 1945, وهنا عدلت موازين القوى إتجاهها نحو واشنطون , وفى 2 سبتمبر 1945 وقعت وثيقة استسلام اليابان , وقالت الحرب العالمية الثانية كلمتها الأخيرة .

لم تكن موسكو لتقبل رسالة واشنطون , أو لتقبل إعاقتها فى إعتلاء قمة العالم , بعدما تكبد الملايين من الأرواح من أجل تحرير أوروبا الشرقية من النازية – دائما هناك قادة مهذبون لديهم أسبابهم الأخلاقية لفرض سيطرتهم على الدول –
وبالتزامن مع ذلك كان العديد من علماء الذرة يتبنون وجهة نظرمفادها أنه ليس من العدالة أن تمتلك قوة معينة سر القنبلة الذرية , وكان على رأسهم عالم الذرة الألمانى كلاوس فوكس الذى تعاون مع السوفيت .
وفى 29 أغسطس 1949 أجرى الإتحاد السوفيتى تجربته النووية الأولى فى عملية سميت البرق الأول .
فتوازنت القوة بين السوفيت والأمريكيين , وهنا أصبحت الحرب الباردة أمراواقعا .

لم تمض إلا سنوات قليلة حتى تفاقمت الخلافات بين الإتحاد السوفيتى الشيوعى وباقى الحلفاء الليبراليين , ووصلت ذروتها أغسطس 1961 حيث قام ستالين ببناء سور برلين للتعبير عن سياسة وصفها الليبراليون بالستار الحديدى , وهنا وصلت الحرب الباردة إلى ذروتها .

اتسمت الفترة التى اعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1962 وهى المرحلة الأولى من العلاقات السوفيتية الأمريكية بمنتهى التوتر , بدأت الحرب الباردة عنيفة وصاخبة , وشعارها لا تعايش بين القوتين الكبيرتين , وانقسم العالم إلى أربع مجموعات , شرقية وغربية , ومجموعة لم يكن إتجاهها صريحا أو نأت بنفسها عن هذا الصراع , فكانت بيئة مشهية للقوتين المتحاربتين لفرض النفوذ واستمالتها , أما المجموعة الرابعة فلم تكن تضم إلا بريطانيا وفرنسا , القوتين البائدتين التى اجبرتا على الإنسحاب بعد هزيمتهما بنكهة الإنتصار فى الحرب العالمية الثانية , فلم يرق لهما خروجهما من المشهد , وهنا حدث العدوان الثلاثى الهمجى على مصر 29 اكتوبر 1956

هذا هو الإطار الذى يفسر فيه العلاقات المصرية مع السوفيت والأمريكيين , ومواقفهما تجاه العدوان الثلاثى وبناء السد العالى .
فقد سال اللعاب السوفيتى والأمريكى على مصر , ومع العدوان الثلاثى الهمجى , أصدرت القوتان الكبيرتان إنذارين للقوى المعتدية , بريطانيا وفرنسا , اللتين كانتا فى محاولة يائسة لإيصال رسالة إلى الكبار مفادها نحن هنا , ولم ينتهى زماننا بعد , ولا يمكنكما أن تحددا مصير هذا العالم بدوننا , ولكن هيهات , كانت بريطانيا وفرنسا كالولايات المتحدة اليوم , غير قادرتين على تحمل فكرة تغير النظام الدولى , ولكن الزمن أقوى من أن يعانده أحد , فكان سهلا عليهما مهاجمة مصر , ولكن لم يستطيعا فرض كلمتهما , وسارعت واشنطون لمهاجمة القوى البائدة الرجعية التى استعبدت الشعوب وذلك من أجل القضية المصرية العادلة وتحررها الوطنى – دائما يحتاج المعتدون لارتداء الملابس الأنيقة لإخفاء تشوهاتهم الجسمانية –
اجبرت بريطانيا وفرنسا على الإنسحاب وكأن ممثلا محترفا يؤدى فيلمه الأخير لأن لم يعد لديه جمهور يحتفى به , فاضطر إلى فسخ علاقتة بالكاميرا ليتخذ من أريكة أنيقة صديقا ومؤنسا يجلس عليها كمشاهد بينما يعرض فيلم الحرب الباردة على الشاشة أمامه من تأليف وإخراج وتمثيل النجوم الجديدة , لهذا انتهى العدوان الثلاثى , والمنتصر الحقيقى فيه هو الأمة المصرية الأبية .

كان الكبار الجدد يحاولون استمالة مصر ذات الرائحة الشهية أو COR STATE بمعنى دولة إرتكاز إقليمى , ولكن لعبت التوجهات الشخصية للرئيس جمال عبد الناصر دورا فى حسم التنافس السوفيتى الأمريكى , هنا تم بناء السد العالى .

فى هذة الأثناء على مستوى مصر , نظر عبد الناصر إلى الواقع الدولى كما نظرت المانيا سابقا ولم يتعلم الدرس , فكما اعتبرت برلين النظام الدولى غير عادل , اعتبره ناصر كذلك , حيث يتصارع الكبار على العالم كفريسة يتعين عليها الإختيار بين أيهما ويتقلص أمامها هامش المناورة , فحاول عبد الناصر تغيير الواقع الدولى ليصبح أكثر عدلا بتأسيس كتلة عدم الإنحياز , فنظر إليه السوفيت والأمريكيون كما نظر البريطانيون والفرنسيون إلى ألمانيا , واعتبروها تمردا على ما توافقا عليه وإخلالا بالقواعد التى تحمى العالم من الفوضى كما يرونها , وإعاقة لتمدد نفوذهما معا , فكانت مصر ألمانيا الجديدة , الطرف الثالث الذى يهدد استقرار النظام الدولى ويتعين على المستفيدين من الأوضاع القائمة الإتحاد ضده .

مرت الحرب الباردة فى طريقها ومضت سنوات ثقال لم يحقق أي طرف من الكبار إنتصارا على الآخر وظلت الأوضاع كما بدأت وعلى مدار سبعة عشر عاما حتى أزمتى الخنازير والكاريبى .
فى منتصف إبريل عام 1961 , دعمت واشنطون إنقلابا عسكريا مسلحا على الرئيس فيديل كاسترو رئيس كوبا ذى التوجهات الإشتراكية , اكتشف كاسترو الأمر وحدثت الأزمة الأولى أو ما يعرف بأزمة خليج الخنازير , واحبط كاسترو تلك المحاولة , ولكن الزعيم السوفيتى نيكيتا خروشوف إستغل ما تتمتع به كوبا من موقع جيواستراتيجى لوضع صواريخ محملة برؤوس نووية ردا على التهديد الأمريكى بفعل المثل فى تركيا .
فى أغسطس 1962اكتشفت المخابرات الأمريكية الأمر واندلعت الأزمة الثانية أو ما يعرف بأزمة الصواريخ الكوبية .
إنتهت الأزمة بانتصار صوت العقل , فلم يتمكن أى طرف من القوتين النوويتين إستخدام السلاح الذى لطالما تشدق به , ليكتشفا عدة أمور , أولا ضرورة فتح قنوات تواصل مباشرة على مستوى القمة وهو ما تم لاحقا كنتيجة ثرية للأزمة , ثانيا أن توازن الرعب النووى بين الطرفين يجب أن يؤدى إلى تهدأة الصراع , ثالثا تكبد الطرفان أعباء كبيرة نتيجة تلك العلاقة الملتهبة والتى لم تؤد إلى إنتصار أحدهما أو تغيير الواقع الدولى بالشكل الذى يتطلب التعايش , وهنا بدأت المرحلة الثانية من العلاقات السوفيتية الأمريكية , وهى مرحلة تتسم بالهدوء والتفاهم , واتفق الطرفان على سياسة تخفيض حدة التوتر .
كانت سنوات هادئة , عنوانها الحد من الأسلحة النووية واحترام مناطق النفوذ .

وكنتيجة لذلك خطى الطرفان خطوات فاعلة على صعيد خفض الأسلحة النووية وتوقيع مذكرات التفاهم والإتفاقات الدولية فى هذا الشأن , حتى حدث ما عد معجزة سياسية كانت حلما بعيد الآمال , فقد زار الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون موسكو مايو 1972فى أول زيارة تاريخية لرئيس أمريكى, والتقى ليونيد بريجينيف الزعيم السوفيتى , وتمخض عن تلك الزيارة توقيع الطرفين على معاهدة سالت الأولى وتعنى الحد من الأسلحة الهجومية ,وذلك فى اطار الاجراءات التمهيدية لحظرالأنشطة النووية العسكرية , لتتوج بذلك مرحلة هى الأقل صراعا والأكثر هدوءا فى تاريخ العلاقات السوفيتية الأمريكية والحرب الباردة , وهنا حدثت نكسة 67 .

لم ينتبه الرئيس جمال عبد الناصر بسبب إنشغاله الكبير بالميكرفون والخطب العاطفية للتطورات التى تجرى بين الكبار , وغرق فى تصوراته غير العاقلة عن ” الود ” الكبير الذى يكنه السوفيت له , لم يدرك عبد الناصر بمحدودية ذكائه التغيرات النوعية التى طرأت على الواقع الدولى بعد أزمة الكاريبى والتى كانت تحولا نوعيا كبيرا فى المسرح الدولى , وأخد عبد الناصر يخطب ويزأر مطمئنا أن خلفه السوفيت ولم يدرك أن السوفيت يجلسون فى هدوء مع الأمريكيين , وتخيل أن السوفيت فى الستينات كما كانوا فى الخمسينات , وتصور أن السوفيت – أول من اعترف بقرار 181 لعام 1947 الصادر من مجلس الأمن المنشئ لدولة إسرائيل – سيعوقون إسرائيل من أى عمل هجومى على مصر .

والحقيقة أن عبد الناصر المعادى للشيوعية , والمؤسس لكتلة عدم الإنحياز – التى اخلت بالقواعد التى اتفق عليها الكبار – لم يكن مرضيا عنه لدى السوفيت كما تصور , كما أن طبيعة الواقع الدولى ما بعد أزمة الكاريبى كانت لها بصمتها على نظرة موسكو إلى القاهرة , هذا بخلاف إنهاك الجيش المصرى فى حرب اليمن , كل هذة العوامل قرأها العدو الإسرائيلى بدقة وتعقل بينما كان عبد الناصر مشغولا بإلهاب مشاعر الحماهير , هنا وجدت إسرائيل اللحظة قد حانت لمهاجمة مصر وهى مطمأنة أن موسكو لا ترغب فى تحمل أعباء أزمة مع واشنطون وتل أبيب من أجل القاهرة التى تعيق تمدد نفوذها بتحريض الدول على عدم الإنحياز , وقد منح ناصر بيديه بكل غباء الفرصة الذهبية لإسرائيل لمهاجمة مصر بإغلاق مضيق تيران .

بناء السد العالى كان تعبيرا عن العلاقة الصراعية بين الكبار فى الخمسينات , ومعاقبة واشنطون التى اعاقت تمويل البنك الدولى بالإتجاه إلى موسكو كان الخيار الأمثل فى هذا العقد من الحرب الباردة , أما الستينات فمختلفة , والقوتان الكبيرتان بينهما تفاهم وهدوء وشعور مشترك بالتهديد الذى مثلته كتلة عدم الإنحياز .
وكما تناست بريطانيا وفرنسا خلافاتهما وإتحدتا ضد ألمانيا , فعل السوفيت والأمريكيون المثل مع مصر – دائما يمارس الكبار صراعاتهما بينما يجلسون على ذات المائدة المتخمة بأصناف الأطعمة اللذيذة ولا يقبلون مشاركة الآخرين التهام ذبائحهم – ولكن عبد الناصر لم ينتبه , ودفعت مصر الثمن .

حافظت القوتان الكبيرتان على العلاقة الهادئة حتى بدأت نتائج السياسات بعيدة الأمد التى وضعتها واشنطون لتفكيك الإتحاد السوفيتى تؤتى ثمارها , فنتيجة لمجموعة من العوامل أصاب الوهن الجسد السوفيتى , وأبرز تلك العوامل هى إجبار موسكو على تغيير سياساتها بجعل السلاح قبل الخبز , واخذ السوفيت يجارون الأمريكيين فى الإنفاق العسكرى على الرغم من عدم قدرتهم الإقتصادية , حتى توجت تلك الإستراتيجية بما يعرف Strategic Defense Initiative وتعرف اختصارا ب SDi , وذلك كان فى إطار ما يعرف بحرب النجوم .
ومضمون تلك الإستراتيجية هو التفوق العسكرى الأمريكى على السوفيت فى مخالفة كبيرة لوضع الواقع الدولى وقت أزمة الكاريبى , فالتوازن بين الطرفين أدى إلى الهدوء , أما الإختلال فأدى إلى عودة الصراع .

عد الأمر كإختلال كبير فى موازين القوى بين القوتين الكبيرتين لصالح واشنطن , وافتقدا للتوازن الذى ظل قائما بينهما طول الفترة التى اعقبت الحرب العالمية الثانية , واتسمت السبعينات ولأول مرة بتراجع ملموس للإتحاد السوفيتى , وتنامى الفجوة بينه وبين واشنطون مع عدم قدرته على تقليص تلك الفجوة , بالشكل الذى جعل المتخصصين يتنبأون بإنهيار الإتحاد .
وبسبب هذا الإختلال دخل الطرفان مرحلتهما الثالثة فى العلاقات , وهى مرحلة عودة حدية الصراع مجددا , هنا وقعت إتفاقية السلام .

قرأ السادات بأفقة الواسع وبعد نظره جميع المؤشرات عن تنامى فجوة التوازن بين موسكو وواشنطون , كما قرأ عدم قدرة الإتحاد على تقليص تلك الفجوة , مما جعله يشعر ببدء العد التنازلى لإنهيار الإتحاد – وهو ما تم فعليا بعد بضع سنوات – وهنا قال السادات كلمته المشهورة 99% من أوراق اللعبة فى يد الأمريكيين , لم تكن كلمة عن انبطاح كما يصفها البعض , بل كلمة واعية تبلور الواقع الدولى وموازين القوى وفقا للمتغيرات التى طرأت .
أضف إلى ذلك فالسوفيت أثبتوا أنهم ليسوا الحليف الذى يؤتمن , علاوة على ذلك فهم الطرف الذى يغرق فى مشاكله ولم يعد قادرا على مهاجمة الأمريكيين , وهم الطرف الذى يجلس فى هدوء مع أصدقائهم الإسرائليين , بينما يضن بالسلاح على المصريين ,
ليطرح سؤال منطقى , كيف كانت ستحرر مصر كامل ترابها الوطنى ” بالسلاح ” بدلا اللجوء إلى إتفاقية السلام ؟ والحقيقة أن الرافضين للسلام ليس لديهم إجابات منطقية واقعية عن ما يصيحون من أجله , فعليهم إذا أن يغلقوا فوهات قنابلهم العاطفية , فالسياسة فن الممكن والمناح لا فن تحقيق المشاعر الساذجة – فى السياسة أنت تحصل على ما تستطيع لا على ما تستحق –

قرأ السادات كل تلك الأمور بعمق وبعد نظر , فوجود السوفيت يمنح مصر أوراقا ثرية فى مفاوضاتها مع الولايات المتحدة , فقدم السادات لواشنطون ما يسيل لعابها عليه ولا تستطيع رفضه , الإنقضاض على الإتحاد السوفيتى المترنح وإخراجه من مصر والمنطقة مقابل إخراج المحتل الإسرائيلى من سيناء .
نجح السادات فى مخاطبة واشنطون بلغتها وقدم طرحا واقعيا منطقيا يحقق أولويات من بيده الأوراق , فى الوقت الذى لم يكن العدو الإسرائيلى ولأسباب ديموجرافية قادرا على خوض حرب طويلة الأمد مع دولة مثل مصر لن تعود إلا وكامل ترابها الوطنى تحت سيادتها , وهنا تحققت مصالح الثلاثة أطراف , وكل حصل على مكاسب وإن تفاوتت أحجامها – دائما تجرى الأمور فى عالم المفاوضات هكذا , أنت تحصل على مكاسب بقدر ما لديك من أدوات وحيل وإدارة لمصادر قوتك لا بقدر ما تستحق أو تراه عدلا –

كانت إسرائيل أقل الأطراف تحقيقا للمكاسب , فقد إنتهت الحرب بفضيحة عسكرية وهزيمة لن تمحى من التاريخ , ولكنها حصلت فى المقابل على السلام , فشعبها الذى يمثل تعداد قرية صغيرة فى مصر سيفنى أمام الجيش المصرى الذى لن يضن بإستشهاد الملايين إذا لزم الأمر مقابل ترابه الوطنى .
وقد منح السادات إسرائيل فرصة حماية ماء وجهها , فلم يكن يريد أن يجعل من العدو الإسرائيلى ألمانيا الحرب العالمية الثانية
– دائما يوقع المنهزم على ما يمليه عليه المنتصر ولكن السؤال ما الذى سيفعله لاحقا ؟ –
أما الولايات المتحدة فحصلت على عصا مرصعة بالماس لضرب عدوها اللدود وإخراجه من المنطقة .
أما مصر فقد حصلت على الجوهرة الأغلى ثمنا , وحققت المبتغى القومى الأسمى بعودة كامل سيناء المباركة إلى السيادة الوطنية .

لم تمض إلا سنوات قليلة وحدث ما كان متوقعا , فقد تفكك الإتحاد السوفيتى وتشرزمت دوله , حدث جلل أعاد تشكيل النظام الدولى بل حياة الإنسانية قاطبة , ودخل الطرفان الروسى والأمريكى مرحلتهما الرابعة , وهى مرحلة اتسمت بعودة الهدوء , إلا أن الشيطان الأمريكى أحال حياة الإنسانية إلى جحيم مستعر بتفردها بقيادة العالم فيما يعرف بالأحادية القطبية , عاثت خلالها واشنطون فسادا فى الأرض , وانكوى العالم العربى بنيران البلطجة الأمريكية , هنا وقعت اتفاقيتا أوسلو ووادى عربة .

فرق كبير بين اتفاقية السلام المصرية واتفاقيتى أوسلو و وادى عربة , أنه السياق الزمنى الذى لا تقيم الأمور إلا فى إطاره , فى السبعينات وجود السوفيت كان فرصة تاريخية لإرساء علاقات ندية بين القاهرة وواشنطون ومقابلا اجبر الولايات المتحدة على تقديم التنازلات , أما التسعينات فمختلة جذريا , ماذا كان لديك من أوراق ضغط ؟ لقد ذهبت مثقل خطوات بعدما ملأت الدنيا ضجيجا وعويلا عن ما اسميته باللاءات الثلاثة إلى القطب الأوحد الذى يجلس منفردا على عجلة قيادة العالم فى أكثر لحظات النظام الدولى إختلالا بلا أوراق لتحصل على ما يجود لك به القطب الأوحد , فأنى لك أن تحصل على حقوق ؟ ماذا قدمت لتحصل على مقابله ؟ أتظن أن الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن مسائل تحسم المفاوضات ؟
آفة العرب عاطفية تفكيرهم وشهوة الميكرفون والولع بالمشاعر الملتهبة , من السهل القاء الخطب الصاخبة ولكن من الصعب تحقيق الأهداف القومية وجعلها واقعا معاشا .
جميع زعماء اللاءات الثلاثة ماتوا , وماتت معهم أصواتهم وبقيت لشعوبهم النكبات , وحده الرئيس السادات من تكفل التاريخ بإنصافه
– دائما هناك عباقرة يتعذر على الأقل ذكاءا منهم فهمهم ثم يكتشفون الأمر فى الوقت المتأخر-

لم ينتبه العرب إلى اللحظة الزمنية ” الفرصة التاريخية ” التى كانت وقت اتفاقية السلام , لم ينتبهوا إلى مؤشرات تفكك الإتحاد السوفيتى , وتصوروا أنه باق إلى الأبد , وأنه الصديق ” المخلص” الذى سيحميهم من أمريكا , صالوا وجالوا حتى وجدوا أنفسهم وحدهم فى مواجهة القطب الأوحد الذى أملى عليهم شروطه وهو غير معنى بما يقدمه لهم فلا حاجة له بذلك , ليس هناك غيره حتى يخاف خسارة ذبائنه .
– فما أخذ بالقوة من اتفاقية السلام والسوفيت موجودون , لن يعود بالمفاوضات من أوسلو والأمريكان وحدهم –

ماذا عن الآن ؟ نحن نعيش لحظة زمنية جديدة تماما , ومنذ عام 2008 عندما إجتاح الرئيس الروسى ” فلادمير بوتين ” جورجيا وانتزع إقليمى أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية واعترف بهما كدولتين ذات سيادة مع عدم مقدرة الغرب على الرد , شهد العالم الجديد مرحلة المخاض حتى ولد مع الإجتياح الروسى لأوكرانيا منذ عام 2014 , علاوة على تنامى الصين كقطب ذى شأن على المسرح الدولى , مع الأخذ فى الإعتبار عدة مؤشرات أخرى على رأسها , إنسجام موقفى الصين وروسيا فى مجلس الأمن , منظمتى بركيس وشنغاهاى , كلها أمور تدل على ما يمكن إعتباره إعادة تدوير الحرب الباردة بين الشرق والغرب , وتقلص الفجوة بين واشنطون فى جانب وبكين وموسكو من جانب ثانى , بالشكل الذى عصف بتفرد الولايات المتحدة على عجلة قيادة العالم , الآن لحظة زمنية هى أكثر توازنا من ذى قبل , الآن وإن كنا نعيش الأسوأ على مستوى المنطقة العربية , إلا أننا نعيش الأكثر عدالة على مستوى المسرح الدولى , الآن لا تتحكم قوة بعينها فى مصير العالم , الآن نستطيع تحقيق من عجزنا عنه سابقا – لولا الإنقسام الفلسطينى وعدم التنسيق العربى ولكن هناك فرصة تاريخية متاحة –

والعدو الإسرائيلى مرتبك , فالحليف والسند الأمريكى تهاوت أعمدته كقطب أوحد , والصديق الروسى تدب الأزمات بينهما , نجحت إسرائيل فى اغتنام الهوة التى وقع فيها النظام العربى منذ بدء موجات ما يسمى بالربيع العربى , إلا أنها فشلت فى صياغة إستراتيجة جديدة تتناسب ومتغيرات الواقع الدولى , إسرائيل تحتاج إلى الكثير من الأفكار والجهود لوضع دعائم جديدة لعلاقتها مع روسيا تتناسب والواقع الدولى , ولكن الحرب الروسية على أوكرانيا حساباتها معقدة , وإسرائيل ليست جاهزة .

أما الولايات المتحدة فمفلسة ومرتبكة , ظنت أنها ستعيش إلى الأبد كقطب أوحد وسجنت نفسها خلف قضبان مرصعة بالماس صنعتها بأفكار فرانسيس فوكاياما , تراجع هو واستمرت هى , والإنسانية قاطبة تنتظر ماذا ستسفر عنه الحرب الأوكرانية والصراع فى تايوان ,
لقد تبلور العالم الجديد ولكنه لازال يخبئ التفاصيل .

فتحية تقدير إلى الجيش العربى السورى الذى صنع معنا النصر , سدد اللة خطاه وأعانه على المحتلين الجدد .
وتحية تقدير إلى أشقاء وأصدقاء مصر الأعزاء , الملك فيصل ابن عبد العزيز والرئيس هوارى بومدين , والشاة محمد رضا بهلوى .
وتحية تقدير إلى الجيش المصرى الباسل وقائده بطل الحرب والسلام , الرئيس أنور السادات , سلام قائم على الحق الذى انتزعته القوة وفرضته غلابا , سلام صنعته الحرب العادلة وفرضت قواعدة بقوة السلاح ثم جلست على مائدة المفاوضات لاحقا ,
سلام الضرورة – إلى حين – فرحم اللة السادات رجل أعاد أرضه وأعز جيشه وسبق عصره .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار