د. كريمة الحفناوى تكتب : الممر”لسه جى من وسط ليل العتمة ضى”
منذ الإعلان عن نزول فيلم الممر وعرضه فى دور السينما فى الخامس من يونيو فى أول أيام عيد الفطر قررت أنا وزوجى الذهاب لرؤية الفيلم لعلنا نجد بعد أكثر من خمسين سنة فيلما يعبِّر عن نكسة أو هزيمة 1967 ويتناول بطولات سطرها ضباط وجنود من أبناء الشعب المصرى بدمائهم فى حرب الاستنزاف ضد العدو الإسرائيلى أثناء إعادة بناء الجيش المصرى من أجل استرداد الأرض والشرف والعزة والكرامة. وطال بيننا النقاش والحوار وتذكرنا تلك الفترة العصيبة التى أثّرت فى تفكيرنا ووجداننا وتوجهاتنا نحن أبناء جيل السبعينات بل وأثّرت فى الشعب المصرى كله وتذكرنا معا الحوارات التى دارت بين المثقفين والمفكرين هل هى نكسة أم هزيمة وتذكرنا مرارة الانسحاب على وجوه الجنود المصريين العائدين من سيناء والذين لم تتح لهم فرصة مواجهة العدو أو الحرب حتى نحملَّهم الهزيمة وتذكرنا المرارة التى شعر بها أبناء جيلنا وتهاوى الحلم العربى القومى ومشاعر الانكسار وفى نفس اللحظة تذكرنا أيضا عظمة الشعب المصرى الذى انتفض فى التاسع والعاشر من يونيو رافضا الهزيمة مطالبا فى نفس الوقت بمحاسبة ومحاكمة كل من تسبب فيها من المسئولين سياسيا وعسكريا وخرج الشعب الأصيل بجموعه الغفيرة وأطلق صيحته هنحارب هنحارب رافضا تنحى القيادة السياسية. وامتد بنا النقاش حول فيلم العصفور للقدير يوسف شاهين وتجسيده هذة اللحظة على لسان بهية (الممثلة المبدعة محسنة توفيق) فى لقطة لاتُنسى فى تاريخ السينما المصرية بهية تخرج إلى الشارع وتصرخ بصوت عال هنحارب هنحارب لتردد وراءها جماهير الشعب هنحارب لقطة فنية تقشعِّرلها الأبدان وتسيل معها الدموع.
من من أبناء جيلنا والأجيال التى قبلنا لم يشاهد فيلم “أغنية على الممر” للمخرج الرائع على عبد الخالق هذا الفيلم الذى مازالت صوره وحواراته وأغانيه فى ذهنى وملء سمعى وبصرى ومازالت موسيقاه وألحان أغانيه للعبقرى الراحل حسن نشأت تملأنى شجنا وحزنا وفرحا وبهجة ودموعا وألما وأملا.
وبرغم أننى سأتناول فى هذا المقال الحديث عن فيلم الممر إلا أننى أستاذنكم القراء الأعزاء والقارئات العزيزات فى مشاركتكم لى فى استعادة فيلم أغنية على الممر (عن مسرحية تحمل نفس الاسم للكاتب على سالم والسيناريو والحوار لمصطفى محرم وكلمات الأغانى للخال عبد الرحمن الأبنودى.والإنتاج للفنان المخرج والمنتج محمد راضى والمونتاج للعبقرى أحمد متولى ومدير التصوير رفعت راغب) واستعادة الفيلم ليس للمقارنة ولكن لأهميته عند عرضه فى دور السينما عام 1972 مواكبا الحركة الطلابية المصرية فى السبعينات والتى كانت مطالبها الأساسية الحرب من أجل استرداد الأرض والكرامة وحرية الصحافة وتكوين الأحزاب والنقابات وحرية التعبيرعن الرأى.قام بإخراج الفيلم المخرج القدير على عبد الخالق والذى قام بإخراج العديد من الأفلام الناجحة التى شكلّت جزءا مهما من تاريخ السينما المصرية منها إعدام ميت – بئر الخيانة – جرى الوحوش- البيضة والحجر – العار – الكيف – الوحل.
جاءت كلمات الغنوة الرئيسية فى الفيلم على لسان الجندى حمدى وهو ملحن شاب وجاد يحلم بالحب النبيل والقيم النبيلة ويؤمن بدور الفن ورسالته السامية لتقدم البشرية ورفض الفلوس والشهرة التى تجىء من وراء الكلمات والألحان الهابطة والسطحية وقام بدور حمدى الممثل الشاب الواعد والنجم الصاعد وقتها(أحمد مرعى).مازالت الكلمات والألحان عالقة فى ذهنى أرددها.
أبكى أنزف أموت وتعيشى ياضحكة مصر
وتعيش يانيل ياطيب وتعيش يا نسيم العصر
وتعيش ياقمر المغرب وتعيش ياشجر التوت.
من منا لايتذكر العملاق الرائع الفنان محمود مرسى فى دور الشاويش محمد والذى تعطل جهاز الإتصال بينه وبين قادته فى الجيش المصرى وأصرعلى الاستمرار فى التواجد فى موقعه مع بقية جنوده الأربعة (صلاح قابيل وصلاح السعدنى ومحمود ياسين وأحمد مرعى) أصر على البقاء مدافعا عن الممر لآخر طلقة والاستبسال لمنع مرور دبابات العدو الإسرائيلى وذلك رغم نفاذ الأكل والمياة وعدم إمكانية وصول أى مدد لهم من الذخيرة او المؤن لقطع الاتصال.
الشاويش محمد الفلاح المصرى الأصيل يقول لجنوده “أنا شاركت فى حرب 1956 فى القنال وكان اليهود قدامنا والانجليز والفرنساويين ورانا ومات كتير مننا ومن ساعتها اتطوعت وماسبتش الجيش، انتوا عارفين الممر ده بتاع الولاد اللى ماتوا فيه محدش يخش الممر طول ماأنا حى”.
وعندما تم إصلاح الجهاز فى آخر الفيلم وكانت الأوامر هى الانسحاب لأن جميع القوات انسحبت للخط الثانى لم يستسلم الشاويش محمد واعتبر أن الانسحاب خيانة لكل اللى استشهدوا على أرض سيناء. وفى نهاية الفيلم تتم تنفيذ وصية الشهيد حمدى بوصول الأغنية التى لحنها للإذاعة وتتردد على ألسنة الشعب المصرى ومن كلماتها “وتلاميذ المدارس والنورج اللى دارس والعسكرى اللى دايس ع الصعب عشان النصر أبكى أنزف أموت وتعيشى ياضحكة مصر”.
ولننتقل معا لنجلس فى السينما لنشاهد فيلم الممر وسط جمهور كبير من العائلات من الكبار والشباب والأطفال وبالرغم من وجود أطفال جلس الجميع فى صمت وانتباه لمتابعة الفيلم مع التصفيق الجماعى اعجابا ببطولات الجنود المصريين والضحك الجماعى للمواقف المضحكة وكتم الأنفاس فى المواقف الصعبة
فيلم الممر إنتاج ضخم يليق بالسينما المصرية ويوثق لحدث تاريخى هام.
بعد أكثر من خمسين سنة على احتلال الأراضى المصرية والعربية فى سوريا وفلسطين حرص المؤلف والمخرج وكاتب السيناريو والحوار( شريف عرفة) على توثيق ماحدث فى الخامس من يونيو 1967 واعتمد فى ذلك على عمليات عسكرية حقيقية قام بها الجنود الأبطال فى الجيش المصرى وقدم لنا البعد الاجتماعى والسياسى فى ذلك الوقت والبعد النفسى للجنود المصريين وللشعب المصرى.المخرج شريف عرفة مخرج يمتلك أدواته الفنية منذ بداياته ويعرف كيف يحرك فريق عمله من فنانين وإداريين وفنيين مخرج قدم للسينما المصرية أفلاما أعتبرها علامات مضيئة منها طيور الظلام – الإرهاب والكباب – اللعب مع الكبار – المنسى – سمع هس – الكنز – الجزيرة – والحزيرة2 – أضحك الصورة تطلع حلوة – عبود ع الحدود – أولاد العم وغيرها من الأفلام الهامة والتى تحمل صورة ولغة سينمائية جميلة وفكرة واضحة.
للمخرج شريف عرفة عدة رسائل أراد توصيلها فى فيلمه الممر سنتكلم عن مضمونها وساعده فى توصيل هذه الرسائل الموسيقار المبدع عمر خيرت بالموسيقى التصويرية المناسبة والمعبرة عن المشهد السينمائى لتكسبه الإحساس والمشاعر من هدوء أو صمت أو قلق أو عجز وانكسار أوأمل وانتصار، موسيقى تلاحق المعارك الحربية والحالة النفسية موسيقى تتناسب مع كل مشهد وترسمه مع مدير التصوير أيمن أبو المكارم.
سأبدأ كلامى بالغنوة التى قام بأدائها الممثل والمغنى الموهوب (محمد الشرنوبى) والجدير بالذكر أن كلمات الأغانى للشاعر أمير طعيمة والذى شارك فى كتابة الحوار مع المخرج.
لسه جى من وسط ليل العتمة ضى
يفرد جناح النور ويوهبلك حياة
تفتح عيونك ع الأمل وتشوف مداه
وساعتها بس هتعرف إنك لسه حى
ولسه عندك حلم وهتفضل وراه
للقمر ممر يخرج من الليل نهار
تبدأ طريقك حتى لو مشوار طويل
مين اللى قال إنك معندكش اختيار
طول مانت فيك الحيل هتقدر ع الطريق.
أراد المخرج أن يقدم لنا على لسان أبطاله رسائل عن الشعب المصرى البطل الذى لم يستسلم للهزيمة وصمم على محاسبة المسئولين عن الهزيمة وقدم صورة عن عدم استعداد الجيش المصرى قبل الخامس من يونيو للحرب وعن أنه لم يكن مدربا تدريبا كافيا كما قدم صورة عن إصرار الشعب على الثأر والانتقام من العدو واسترداد الأرض والكرامة وظهر هذا فى مشهد جسده الممثل (محمد فراج) الصعيدى القادم من سوهاج والذى رباه أبوه على الشجاعة والمواجهة فلم يستطع أن ينظر فى عين أبيه بعد الانسحاب المهين وأصر بعد ذلك على الرجوع للجيش بل وتشجيع زميله الهارب ورجعا معا لوحدتهم وبدأوا التدريب الجاد ووقف محمد فراج أمام دبابات العدو ليواجهه ويثبت له أنه ليس جبانا وأنه مستعد للموت بشرف فى سبيل استعادة الأرض الغالية.
كما عبَّرعن وقوف الأهل والزوجة والأبناء وراء ضباط وجنود الجيش المصرى من أجل تجاوز الظروف النفسية المؤلمة والعصيبة والاستعداد لبناء الجيش لمواجهة العدو وتحقيق الانتصار واستطاعت الزوجة (هند صبرى) أن تجسد هذه المشاعر بجدارة فى تشجيع زوجها الضابط بسلاح الصاعقة ومساعدته على الخروج من حالة الانكسار لمواصلة دوره مع بقية زملائه فى حرب الاستنزاف ومواجهة العدو والاستعداد للحرب.
ولم يغفل المؤلف الحديث عن مشاعر الغضب التى اجتاحت الشعب المصرى وقتها وتفريغ غضبه فى التهكم على جنود ضباط الجيش وتحميلهم مسئولية الهزيمة وجسد ذلك موظف السنترال (الممثل حجاج عبد العظيم خفيف الظل) الذى تعمد الإساءة للضابط نور(احمد عز) بل والتريقة عليه هو وبقية زملائه ورؤسائه من العساكر والضباط مما اضطر الضابط لضربه والاعتداء عليه وعلى المواطنين الذين شاركوا موظف السنترال التريقة. وانتهى المشهد فى قسم الشرطة ومع وجود ضابط شرطة (شريف منير) ذكى ومتفهم لما حدث من الطرفين استطاع حل الموقف.
وفى ثلاث مشاهد فى الملهى الليلى جمعت بين راقصتين وصحفى (أحمد رزق) طلب منه رئيسه فى الجريدة تغطية أخبار الأنس والفرفشة استطاع المخرج أن يلخص بذكاء سبب انتشار الفنون السطحية الهابطة على لسان الراقصتين (بص بقى عايزينك تكتب عنا وتطلعنا لفوق آه ماهو دايما بعد الحروب والثورات تلاقى كل الناس تعبانة وعايزة تفرفش). شكرا للفنان أحمد رزق الذى كان فاكهة الكوميديا فى الفيلم بتلقائيته وخفة دمه حتى فى أصعب المواقف على خط النار.
اختار المؤلف والمخرج بعناية شخصياته لتعبر عن أبناء الشعب المصرى بكل فئاته ومكوناته طبقيا وجغرافيا وأعطى لهم حقهم كشعب عظيم يتوحد عند الخطر للحفاظ على أرضه ووطنه فكانت الشخصيات من بحرى والصعيد المصريين من دمياط وسوهاج والنوبة من عمال وفلاحين ومهنيين
مسلمين ومسيحيين سالت دماؤهم على أرض سيناء الغالية.
وفى رسالة أخرى أراد الفيلم أن يوصلها لنا وهى رد الاعتبار لأهالى سيناء الذين شاركوا بأدوار هامة ساندت الجيش المصرى فهم أصحاب الأرض الذين يعرفون دروبها وجبالها فكانوا الدليل للجنود فى الطريق والدعم لهم بالزاد والزواد والمعلومات.
أبرز الفيلم غطرسة العدو الصهيونى وجرائمه وفى نفس الوقت الخوف والجبن أمام شجاعة واستبسال الجندى المصرى. ولكننى هنا اعتبر أن المخرج حاول إثبات ذلك من خلال حوار مباشر ومشاهد مواجهة كان يمكن اختصارها لأنها وصلت من أول الفيلم فى العديد من المشاهد. ولاننسى مشاهد الضابط الإسرائيلى التى أداها بحرفية عالية (إياد نصار).
فيلم الممر إنتاج ضخم يوجب التحية للمنتج هشام عبد الخالق ولكل من شارك فيه ومن قدم الوثائق والأفلام التسجيلية والأسلحة والمعدات وقدم هذة المعارك الضخمة الكبيرة بهذا القدر من الحرفية والجودة والتحية واجبة للفنيين فى المونتاج والميكساج والصوت ومهندس الديكور باسل حسام وتحية خاصة لمصممة الملابس ملك ذو الفقار والتى كانت دقيقة فى اختياراتها التى عبَّرت عن هذه الفترة الزمنية. والتحية لفريق العمل الأجنبى الذى تم الاستعانة به لتصميم مشاهد الأكشن والمعارك
كل التحية للممثلين والممثلات الذين شاركوا من أول من شارك فى مجموعات الجنود إلى أبطال الفيلم وأذكر منهم أحمد عز وأمير صلاح الدين وأحمد صلاح حسنى ومحمود حافظ وأحمد فلوكس وأحمد رزق وإياد نصار ومحمد الشرنوبى وأسماء أبو اليزيد ومحمد جمعة وكريم العميرى والوجه الجديد ألحان المهدى وضيوف الشرف (انعام سالوسة وحجاج عبد العظيم وهند صبرى وشريف منير) والطفل الجميل الذى أدى دور ابن الضابط نور.
فيلم الممر من الأفلام التى توثق لتاريخنا الوطنى وأحداثه الكبيرة والعظيمة التى تنمّى الوعى والانتماء.نتمنى أن نرى مزيد من الأفلا التى توثق لتاريخنا المجيد.
دكتورة كريمة الحفناوى.