د. محمد حسين يكتب..عندما تكون الإدارة رشيدة

دُمر معظم أوروبا بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، فلقد ترتب على الحرب تدمير الاقتصاد الأوربي وانهياره وكساده إلى حدٍ كبير وعميق؛ مما ادى إلى انتشار الفقر والبطالة بشكل واسع. ألحق القصف الجوّي المستمر خلال الحرب أضرارًا بالغةً في معظم المدن الكبرى، إذ تضرّرت المنشآت الصناعية بشكل خاص. توقّفت التدفّقات التجارية في المنطقة بشكل كامل؛ عاش الملايين من الناس في مخيمات اللاجئين معتمدين على المساعدات الأمريكية، التي قُدّمت تحت غطاء إدارة الأمم المتّحدة للإغاثة والتأهيل وغيرها من الوكالات. اعتُمدت الأمم المتّحدة بموجب المؤتمر الذي استمرّ لثلاثة أشهر وأعلن النصر في أوروبا، انتشرت حالات نقص الغذاء بشكل شديد وخصوصاُ في فصل الشتاء القاسي في الفترة بين عامي 1946-1947.
تضرّرت البنية التحتية للنقل بشكل خاص، إذ استُهدفت السكك الحديدية والجسور والأرصفة بالغارات الجوّية على وجه التحديد، بينما غرقت الكثير من الشحن التجارية. أسفر تدمير وسائل النقل عن عزل معظم البلدات والقرى الصغيرة اقتصاديًا. كيف يعالج هذا الوضع!!!
تمحور العلاج في مشروع مارشال “Marshall Plan” وهو المشروع الاقتصادي لإعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية الذي وضعه الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي أثناء الحرب ووزير الخارجية الأميركي منذ يناير 1947 والذي اعلنه بنفسه في ذات العام في خطاب امام جامعة هارفارد بتكلفة مالية 12.9925 مليار دولار أميركي وكانت الهيئة التي اقامتها حكومات غرب أوروبا للإشراف على إنفاق هذا المبلغ قد سميت «منظمة التعاون والاقتصادي الأوربي» ” “Organization for European Economic Cooperation” وقد ساهمت هذه الأموال في إعادة اعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الأوربية.
عامل مشروع مارشال (برنامج التعافي الأوروبي) مع جميع العقبات التي وقفت في وجه التعافي بعد الحرب. تطلّع المشروع إلى المستقبل ولم يركّز على الدمار الذي نجم عن الحرب. أمّا الأمر الأكثر أهميّة فهو الجهود المبذولة في سبيل تحديث الممارسات الصناعية والتجارية الأوروبية وفقًا للنماذج الأمريكية عالية الكفاءة، إضافةً إلى الحدّ من العوائق التجارية الاصطناعية وبثّ الشعور بالأمل والاعتماد على الذات.
تجاوز اقتصاد كلّ دولة مشاركة مستوياته قبيل الحرب مع حلول عام 1952 وانتهاء التمويل؛ إذ ارتفع الإنتاج في كلّ دولة مستفيدة من مشروع مارشال بنسبة 35% على الأقل في عام 1951 عن الحالة التي كان عليها في عام 1938. وعلى مرّ العقدين القادمين، تمتّعت أوروبا الغربية بنمو وازدهار لم يسبق لهما مثيل، لكنّ الاقتصاديون لم يتأكّدوا من حجم الدور المباشر وغير المباشر الذي لعبه برنامج التعافي الأوروبي في هذا النمو، ولم يعرفوا ما كان سيحدث لولا هذا البرنامج. أعرب رئيس إدارة التعاون الاقتصادي بول هوفمان في عام 1949 عن دور البرنامج في التعافي الأوروبي من وجهة نظر التفسير الأمريكي الشائع، إذ أخبر الكونغرس أن مساعدات مارشال قد قدّمت «الإطار الحاسم» الذي اعتمدت عليه الاستثمارات الأخرى اللازمة للتعافي الأوروبي. اعتُبر مشروع مارشال واحدًا من العناصر الأولى المساهمة في التكامل الأوروبي، إذ استطاع إلغاء العوائق التجارية وإنشاء مؤسسات هادفة إلى تنظيم الاقتصاد على المستوى القارّي، وبالتالي شجّع على عملية إعادة الإعمار السياسي الكامل لأوروبا الغربية.
استنتج المؤرّخ الاقتصادي البلجيكي هيرمان فان دير وي أنّ مشروع مارشال حقّق «نجاحًا باهرًا»: لقد أعطى زخمًا جديدًا لإعادة الإعمار في أوروبا الغربية، وقدّم إسهامًا حاسمًا في عملية إعادة تجديد نظام النقل وتحديث المعدّات الصناعية والزراعية، إضافةً إلى استئناف الإنتاج الطبيعي وزيادة الإنتاجية وتسهيل التجارة البينية الأوروبية.
قارة مترامية الأطراف أُبيدت في حربٍ ضروس أتت على الأخضر واليابس تعافت وعادت لسيرتها الأولى في بِضع سنين كقارة متقدمة دولها من دول العالم الأول بتكلفة 12.9925 مليار دولار، أقل من ثلاثة عشر مليار دولار في خمس سنوات – بالطبع مبلغ ضئيل ومدة زمنية صغيرة على هذا الإنجاز. والشاهد هنا أن قضية الإصلاح الاقتصادي والبناء ليست مرتبطة بحجم الأموال أو الموارد المتاحة للإدارة المعنية، بقدر ارتباطها برشاد الإدارة، فالإدارة الأمريكية الأوروبية لعملية الإصلاح هذه وإعادة الإعمار لا يمكن أن نفصلها عن طبيعة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية القائم على قيم الديمقراطية التي تؤدي بطبيعة الحال إلى رشاد الإدارة تحت وطء المحاسبة والمسائلة الشعبية، وحضور الشعب في المعادلة السياسية، تحية للشعوب المراقبة لحكوماتها، المدافعة عن مصالحها وحقوقها، تحية للنظم الديمقراطية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار