محمد الجوهري يكتب: زمن “التمثيل البوتوكسي”

«أنا في انتظارك، مليت…»
أم كلثوم، كانت في انتظار حبيب، ونحن في انتظار مشهد تمثيلي واحد يُقنعنا أن الحزن لا يُحقن، وأن البكاء لا يُصنّع، وأن التجاعيد، تلك الطُهر البصري، لم تُنفَ إلى المنفى التجميلي.

في أحد مشاهد مسلسل «سيد الناس» (والتسمية تشي بالكثير، وتُخفي الأكثر)، جلست الممثلة تبكي، أو هكذا أرادت، شدّت وجهها كأن الحزن يستقرّ في زوايا الفيلر، فتحت فمها للصراخ، فخرج الصوت وحده، وبقي الوجه معلقًا في حياد تام، لا هو غضب، لا هو وجع، لا هو شيء، تلك اللحظة التي أعلن فيها شهادة وفاة للمشاعر على يد البوتوكس.

طبقات من المكياج الثقيل.. والقصص الفارغة.

في مسلسل يُفترض به أن يُجسّد آلام الناس، صرخ الجميع، الكل يصرخ، من أول مشهد حتى تتر النهاية، كأن الحياة لا تُفهم إلا بالجعير، ولكن الصراخ لا يُغني عن الصدق، كما أن البكاء لا ينجح بمجرد انهمار دمعة مُستعارة من زجاجة الجليسرين، إن المأساة ليست في النص وحده، وإنما في أدوات التعبير التي صارت تُستورد من عيادات التجميل.

هناك مشهد قديم في مسرحية “ريا وسكينة”، حين تصرخ سهير البابلي: “أنا خوفت، خوفت يا اختي!”، فترتجف معها روح المشاهد، لم تحتاج إلى فيلر، فقط احتاجت إلى أن تتنفس الخوف كما تتنفس الحقيقة، الممثلون آنذاك، لم يكونوا “يؤدون” أدوارهم، بل “يتمثّلون” الحياة بكل صدقها الفوضوي.

مشكلتنا الآن، أننا نعيش زمن “التمثُّل” الاصطناعي، لا التمثيل الإنساني، أصبح وجه الممثلة واجهة إعلان عن عيادة تجميل في المهندسين، لا مرآة لعاطفة حيّة، ونحن كجمهور، لسنا أغبياء، ندرك متى يكون المشهد حقيقيًّا، ومتى يكون قطعة بلاستيكية مغلّفة بصوت عالٍ وأداء مستعار.

أتفهم رغبة الإنسان في تأخير الشيخوخة، في خداع الزمن قليلًا، لكن، هل نُؤجل الزمن على حساب الفن؟ هل نُجمّل الموت في مشهد بكاء، فيبدو أقرب إلى مشهد من “تيك توك”؟

لا يُلام الجمهور حين يسخر، السخرية هنا ليست تنمّرًا، هي رد فعل طبيعي على مفارقة مفجعة، مسلسل اسمه «سيد الناس»، بينما لا أحد فيه يشبه الناس، لا في وجوههم، ولا في أحزانهم، ولا في صراخهم.

اليوم.. لدينا ممثلون يرفعون حواجبهم الممنوعة من الانعكاس، يصرخون بجفون لا تتحرك، يتصنّعون الغضب بحركات يد مكررة، كأنهم يخرجون من ورشة تدريب في مول، لا من معهد فنون.

هناك جملة شهيرة في رواية الحرافيش لنجيب محفوظ تقول:
“الوجوه مرايا القلوب، فلا تُحدِّق طويلًا في من لا يراك”.
والآن، نُحدّق نحن في وجوه لا تعكس شيئًا… فقط تعيد لنا صورة ملساء ميتة، كأن الفن صار سيلفي جماعي داخل لوكيشن.

“جت الحزينة تفرّح ما لقيت لهاش مطرح”
يا لها من عبارة شعبية عبقرية، تصلح لأن تكون شعارًا للمشهد التمثيلي الحالي.
الممثلة تبكي وتصرخ، بينما الكاميرا تبحث عن دمعة لم تُفرَز بعد.
تريد أن تفرّحنا بالحزن، أن تهزّنا بالمأساة، أن تُعلّمنا ما هو الفقد.
لكنها — في زحمة حقن البوتوكس، والـ contour، والإضاءة السينمائية المتورمة — نسيت أن الحزن يحتاج إلى مشاعر يحتاج إلى ملامح يحتاج إلى وجع.

مشكلة هذا النوع من الدراما أنه لا يعكس “الناس”، بل يسخر منهم.
يأخذ أحزانهم، يُجمّلها، يُطعّمها بحقن الفيلر، ويقدّمها كوجبة تمثيلية لا تُهضم.
ثم يتساءل الصناع في دهشة: لماذا لا يتفاعل الجمهور؟
وللإجابة أقول:
“الجمهور فاهم كويس إنك بتضحك عليه”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار
حزب الوعي يدعو إلى يقظة الضمير العالمي بمناسبة اليوم الدولي للضمير ويحذّر من انهيار المنظومة الأخلاقية الدولية النائب هشام سويلم: الأقصى خط أحمر وصمت العالم جريمة.. ويؤكد: لا سلام دون دولة فلسطينية مستقلة حزب العدل يفتتح أمانة جنوب المنيا بمدينة ملوي بحضور رئيس الحزب النائب عبد المنعم إمام رجل الأعمال معتز أباظة يُطلق مركز "vitamina" للجمال بشراكة إسبانية.. تعزيزًا لريادة مصر الإقليمية جميلة إسماعيل رئيسة حزب الدستور تُطالب بالإفراج عن السجناء: "رمضان مضى والعيد انقضى.. أين القرار المُنتظر؟ زفاف مبارك حزب الجبهة الديمقراطية المصرية يُدين العدوان الصهيوني الأمريكي ويطالب بقطع التطبيع ومحاسبة الاحتلال السيادة المصرية لا تُمس... رفض شعبي وسياسي لادعاءات إسرائيل بشأن سيناء حزب التحالف الشعبي الاشتراكي: نرفض التهديدات الصهيونية لمصر.. وندعو لمراجعة استراتيجية لسياسات الدولة قبل "اجتياح الطوفان" أنتبهوا ..تنمر أولادنا على مرافق وسائل المواصلات ....ناقوس خطر يدق بيوتنا