التجارة شطارة…

في مقالنا السابق عن رجل الأعمال الشريك ورجل الأعمال المالك، أوضحنا كيف غيّرت الرأسمالية طبيعة العلاقة بين رأس المال والمجتمع. واليوم نعود عبر الجملة الشعبية الشهيرة: “التجارة شطارة”، التي تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تكشف عند التأمل عن عمق الأزمة التي نعيشها.
فالأصل أن الشطارة في التجارة تعني الذكاء مقرونًا بالأمانة، والفطنة المرتبطة بالثقة. لكن الرأسمالية في نسختها المصرية حرّفت المعنى، حتى صار يُستخدم كتبرير للفهلوة والاحتكار والغش. المثل الشعبي الذي كان يُقال في سياق مدح التاجر الأمين، صار لافتة تُعلّق على أبواب الفساد.
ولعلّ من أبرز الأمثلة ما حدث منذ أعوام قليلة، حين كُشف عن استيراد وتوزيع كميات ضخمة من لبن الأطفال منتهي الصلاحية داخل السوق المصري. الواقعة لم تكن مجرد خطأ إداري، لكنها تجسيد حيّ لذهنية رجل الأعمال المالك: الذي يرى في صحة الأطفال وأمن المجتمع فرصة للربح، حتى لو كان الثمن حياة الأبرياء. هنا يبرز الوجه القبيح للشطارة كما صاغتها الرأسمالية: غش منظم يلتف حول القانون ويبرر نفسه بشعار “السوق حر”.
وعلى النقيض، هناك نماذج أخرى لرجل أعمال شريك، يفهم أن التجارة ليست افتراسًا بل علاقة متبادلة. شريك يعرف أن سمعته هي رأس ماله الحقيقي، وأن المكسب لا ينفصل عن الثقة. لذلك يستثمر في الصناعة الوطنية رغم العقبات، ويصر على تقديم منتج آمن وجودة عالية حتى لو قلّص ذلك أرباحه على المدى القصير. هذا هو المعنى الأصيل للشطارة: ذكاء يرتبط بالمسؤولية، ومكسب يبني الثقة بدل أن يهدمها.
لكن بين الشريك والمالك، هناك طرف ثالث: الحكومة. أحيانًا تدخل الحكومة السوق كمنافس مباشر، فتبيع وتشتري وتنافس بهامش ربح أقل، لكنها في النهاية تظل طرفًا يسعى وراء المكسب. المشكلة أن هذا الدور يخلط بين موقع الحكم وموقع اللاعب. فالمالك يرى في تدخلها تعديًا على “حرية السوق”، والشريك يجد نفسه عاجزًا عن منافسة طرف يملك السلطة والامتيازات، والمستثمر الجديد يهرب من الدخول إلى ملعب غير عادل. أما المواطن، فتبقى حصيلته واحدة: دفع الفاتورة في ظل انهيار القوة الشرائية للجنيه.
المشكلة لا تقف عند حدود المواطن فقط. دخول الحكومة كلاعب اقتصادي يطرد المستثمرين ويُضعف نموذج الشريك. فالمالك يصرخ مطالبًا بسوق حر ليستمر في جني أرباحه الخيالية، والشريك يتراجع لأنه غير قادر على المنافسة، والنتيجة أن الفوضى تتسيد، والثقة تنهار.
يكفينا وهم “الشطارة” الذي تحوّل إلى غش واحتكار. الدولة ليست تاجرًا، والمواطن ليس ضحية، والسوق ليس غنيمة للمالك ينهش فيها. إما أن نستعيد المعنى الأصيل للشطارة: شراكة وثقة وعدل… أو نترك البلد نهبًا للفهلوة والفساد.
التجارة شطارة؟ أيوه… بس شطارة تبني وطن، مش شطارة تسرق منه.
وهذا ليس مجرد شعار، بل رؤية وطريق وأولويات لأي حكومة جديدة بعد البرلمان القادم. وعلى البرلمان المقبل أن يتحمل مسؤوليته كاملة في اختيار الحكومة لا على أساس المجاملات أو التوازنات، بل وفق رؤية واضحة وسياسة اقتصادية واجتماعية محددة، وخطة عمل شفافة تعيد ضبط السوق وتربط الاقتصاد بمصلحة المجتمع. حكومة تدرك أن دورها ليس منافسة التجار بل تنظيم السوق، لا البحث عن أرباح بل حماية العقد الاجتماعي. حكومة تكبح جموح المالك الذي ينهب بلا حساب، وتفسح المجال أمام الشريك الذي يبني بالثقة، وتعيد للمواطن مكانته باعتباره صاحب الحق لا مجرد ضحية.
ما نطرحه ليس شعارات جوفاء، بل سياسات قابلة للتطبيق حتى ولو بشكل تدريجي. الضرائب التصاعدية ليست حلمًا بل واقعًا مطبقًا في معظم دول العالم، ويمكن البدء بها فورًا عبر تحميل الأنشطة الريعية وكبار رجال الأعمال نصيبًا أكبر من المسؤولية. استقلال النقابات لا يحتاج مليارات، بل قرار سياسي وتشريعي يعيد لها دورها الطبيعي في حماية العمال والموظفين. ربط الاقتصاد بالحقوق الاجتماعية ليس رفاهية، بل التزام يبدأ بخطوات ملموسة: تعليم جيد، رعاية صحية آمنة، وسكن كريم، باعتبارها حقوقًا أساسية لا مكرمات.
الفارق بين الشعار والرؤية أن يكون هناك طريق تدريجي واضح. وهذا ما نطالب به: بداية مختلفة، وبرلمان وحكومة جديدة يضعان العدالة والحقوق الاجتماعية في قلب السياسة الاقتصادية. عندها فقط يمكن أن نستعيد الثقة المفقودة، ونحوّل السوق من غابة تنهش الناس إلى ساحة منظمة بعدالة ترفع المجتمع بأسره



