ريمون وجيه يكتب: “إعادة صياغة مؤسسات الدولة”.. مشروع السيسي بين التصويب والإحكام

منذ أن طرح الرئيس عبد الفتاح السيسي مشروعه الذي حمل عنوان “إعادة صياغة مؤسسات الدولة”، بدا واضحًا أن الدولة تتجه نحو مرحلة جديدة من إعادة التنظيم الإداري والسياسي.
لكنّ المشروع، في جوهره، لا يقتصر على الإصلاح الإداري كما يظهر في العناوين الرسمية، بل يبدو محاولة لإعادة إنتاج البنية المؤسسية للدولة بما يتجاوز الهياكل إلى طبيعة العلاقة بين السلطة والمؤسسات.
بين الإصلاح والانضباط
يقول الخطاب الرسمي إن الهدف هو تصويب الخلل من الداخل وبناء مؤسسات الدولة بصورة منضبطة ومدروسة.
لكن حين يصرّ التصور الجديد على أن ضخ “دماء جديدة” لن يتم إلا بعد اختيار وانتقاء دقيق، تظهر تساؤلات حول حدود هذا الانضباط:
هل هو وسيلة لبناء مؤسسات كفؤة؟ أم أداة لتقييد التجديد داخل الجهاز الإداري؟
إعادة الصياغة أم إعادة السيطرة؟
من الواضح أن المشروع لا يستهدف تغيير الأشخاص فقط، بل تغيير آلية إدارة الدولة.
فالحديث عن تصويب “العوار داخل الأشخاص” يعني مراجعة شاملة للأداء والسلوك المهني، لكن دون تفاصيل واضحة عن آليات المراجعة أو معايير التقييم.
ويخشى بعض المهتمين بالشأن الإداري أن تتحول فكرة الانضباط إلى مركزية جديدة، تُعيد إنتاج البيروقراطية القديمة بثوب حديث.
الفرز والانتقاء.. خطوة إلى الأمام أم قيد جديد؟
إعادة هيكلة التوظيف تبدو منطقية في ظل تضخم الجهاز الإداري، لكن التجارب السابقة أثبتت أن المعايير الصارمة يمكن أن تتحول إلى آليات انتقائية إذا غابت الشفافية.
فمن سيحدد الكفاءة؟ ومن سيضمن أن لا يكون “الاختيار الدقيق” مرادفًا للولاء لا للجدارة؟
التقييم والمساءلة
لا خلاف على أهمية تقييم الأداء بشكل دوري، لكن أي تقييم بلا هيئات رقابية مستقلة قد يتحول إلى أداة ضغط إداري أو سياسي.
فالمؤسسات لا تنضبط بالخوف، بل بالثقة والمساءلة العادلة، وهذا ما يحتاجه الجهاز الإداري المصري أكثر من أي وقت مضى.
القطاعات الحيوية.. المعيار الحقيقي للنجاح
الصحة والتعليم والإعلام هي ما يسميه الرئيس “أوعية الدولة”.
لكن هذه الأوعية مهترئة منذ عقود.
فما لم يُصاحب “إعادة الصياغة” استثمار حقيقي في البنية والخدمات والموارد البشرية، ستظل الشعارات الإدارية تدور في حلقة مفرغة من الخطط دون نتائج ملموسة.
الخلاصة
مشروع “إعادة صياغة مؤسسات الدولة” يمثل محاولة جديدة لتصويب الداخل وبناء جهاز إداري أكثر انضباطًا، لكنه يحمل في الوقت نفسه مخاطر التحول إلى مركزية جديدة تُحكم قبضتها على القرار داخل المؤسسات.
فالإصلاح الحقيقي لا يبدأ من الهيكل، بل من البيئة السياسية والإدارية التي تسمح بالمحاسبة والشفافية والمشاركة.
وحتى تتحقق “إعادة الصياغة” بمعناها الحقيقي، لا بد أن تكون صياغة جديدة لعلاقة الدولة بمواطنيها قبل مؤسساتها.
– إن إعادة صياغة مؤسسات الدولة ليست مجرد خطة تنظيمية، بل اختبار لطبيعة العلاقة بين السلطة والإدارة.
فكلما زاد الانضباط دون عدالة، تراجعت الكفاءة، وكلما غابت المشاركة، تراجعت الثقة.
وما بين الرغبة في التصويب وميل السيطرة، يبقى نجاح المشروع مرهونًا بقدرة الدولة على تحقيق توازن دقيق بين السلطة والمسؤولية، وبين الإصلاح الحقيقي والإحكام الإداري.




