المعارضة المروَّضة لا تمنح الأمان

في السياسة لا يُقاس استقرار الدولة بقدرتها على إسكات الأصوات، بل بقدرتها على إدارة الاختلاف دون أن تخاف منه. فالنظام الذي يتصور أن ترويض المعارضة يمنحه الأمان، إنما يخطئ فهم السياسة نفسها، لأن الصوت الذي يُسكت اليوم هو ذاته الذي كان يمكن أن يُنقذ الدولة غدًا من أزمة أكبر. والمعارضة المروّضة، مهما كانت محسوبة الكلام أو منمّقة الخطاب، لا تحمي النظام من الانزلاق، بل تحرمه من الإنذار المبكر الذي يُنبهه إلى أخطائه قبل أن تتحول إلى أزمات يصعب علاجها. فالدولة التي تطفئ كل صوت نقدي قد تربح هدوءًا مؤقتًا، لكنها تخسر البوصلة التي تقيس بها مدى سلامة طريقها.

النظام الذي يصنع معارضته بيده لا يسعى إلى توازن سياسي، بل إلى مشهدٍ محسوبٍ ومغلقٍ يؤدي فيه الجميع أدوارًا مرسومة مسبقًا. أحزابٌ تُعلن اختلافًا شكليًا، وشخصيات تُعارض بقدر ما يُسمح لها، ومنابر تُفتح فقط لإعطاء انطباعٍ بوجود تعدديةٍ منزوعة التأثير. وهكذا يصبح المشهد السياسي متوازنًا في الصورة، لكنه خالٍ من الحياة الحقيقية. المعارضة في هذه الحالة لا تُحاسب السلطة ولا تُقنع الناس، بل تخدع الطرفين معًا: تُقنع السلطة أن كل شيء مستقر لأن أحدًا لا يصرخ، وتُقنع الناس أن اللعبة منتهية فلا جدوى من المشاركة. وعندما يصدق الطرفان هذا الوهم، تدخل الدولة في أخطر مراحلها — مرحلة الصمت العام الذي يسبق الانفجار.

المعارضة المروّضة لا تولد من فراغ، بل من رغبةٍ لدى السلطة في امتلاك كل المساحات، حتى تلك المخصّصة للاعتراض. فهي تُبقي على أصوات محددة لتُكمل ديكور الديمقراطية، وتُقصي أخرى حتى لا تتحول إلى خطرٍ فعلي. ومع الوقت، تُصبح المعارضة المصنوعة جزءًا من أدوات الحكم، تُستخدم في الداخل لإيهام المواطن بأن المجال مفتوح، وتُستخدم في الخارج لإقناع العالم بأن النظام يحتمل النقد. غير أن أخطر ما في هذا النوع من المعارضة أنه يُربك وعي الناس، فيختلط لديهم الفرق بين الصادق والمزيف، وتضيع فكرة “المعارضة الوطنية” داخل زحام الأصوات التي تتكلم كثيرًا ولا تقول شيئًا.

النظام القوي لا يحتاج معارضة على هواه، بل معارضة تملك الجرأة على قول ما لا يريد سماعه. لأن النظام الذي لا يسمع إلا صدى صوته يفقد تدريجيًا قدرته على قراءة الواقع، فيتصرف كما لو أن كل شيء تحت السيطرة بينما تتآكل الثقة ببطء في أعماق المجتمع. ومع غياب النقد الصادق، تتحول الأخطاء الصغيرة إلى بنيةٍ متكررة في طريقة الحكم، فلا أحد يراجع، ولا أحد يصحح، لأن الجميع اعتاد أن يردد ما يُرضي لا ما يُنبه. وعند هذه النقطة، يصبح الخطر الحقيقي داخل النظام لا خارجه، لأن المؤسسة التي لا تواجه نفسها تفقد قدرتها على الإصلاح الذاتي وتبدأ في إنتاج الفشل بنفس الأدوات التي صنعت نجاحها سابقًا.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود أصوات معارضة حقيقية في مصر، قليلة العدد، محدودة التأثير، لكنها موجودة بإصرارٍ ووعيٍ ومسؤولية. هذه الأصوات لا تملك منابر كبيرة، ولا تستند إلى مصالح، لكنها تواصل أداء دورها الوطني في الدفاع عن الفكرة قبل المصلحة، وفي تذكير الدولة بأن الشرعية لا تُقاس فقط بقدرة السلطة على فرض النظام، بل بقدرتها على إدارة الخلاف داخله. هؤلاء، مهما كان حضورهم ضعيفًا، يمثلون ما تبقّى من نبض السياسة الحقيقية، ويؤكدون أن المجتمع لم يفقد تمامًا رغبته في الإصلاح السلمي. فالمعارضة الصادقة لا تُسقط النظام، لكنها تحميه من أخطائه، لأن وظيفتها الأولى هي إنقاذ الدولة من نفسها.

أما المعارضة المروّضة، فهي نقيض هذه الوظيفة. فهي لا تنبه إلى الخطر بل تُغطي عليه، ولا تمثل وعي الناس بل تستهلك غضبهم، ولا تقدم بدائل بل تكتفي بالاعتراض اللفظي الذي لا يوجع أحدًا. إنها معارضة تُدار بالعلاقات لا بالأفكار، وبالحدود لا بالمبادئ، تُعارض لتبقى في المشهد لا لتغيّره. وهي بهذا المعنى ليست خصمًا للسلطة بل ذراعًا من أذرعها، تُستخدم حين تحتاج إلى مشهدٍ تعدديٍّ سريع، أو إلى خطابٍ يُفرغ الغضب من محتواه. لكن الخطورة أن هذه الصيغة لا تبني استقرارًا حقيقيًا، لأنها تُسكِت السياسة نفسها، وتجعل الدولة تحكم مجتمعًا بلا صوت، فيتحول الصمت إلى احتقانٍ زمنيٍّ لا يعرف أحد متى ولا كيف سينفجر.

الشرعية في السياسة لا تُبنى على القوة وحدها، ولا على الإنجاز الاقتصادي فقط، بل على وجود آليةٍ دائمة لتصحيح الخطأ من داخل النظام نفسه. والمعارضة هي هذه الآلية، مهما اختلفت مع السلطة أو تجاوزتها في بعض الأحيان. فحين تضعف المعارضة، تفقد الدولة واحدة من أهم أدواتها للبقاء، لأن البديل عن المعارضة المنظمة هو المعارضة الفوضوية التي تأتي من خارج الإطار كله. ولهذا، فإن النظام الذي يكمم المعارضة الصادقة ويفتح الطريق أمام المروّضة يختار الطريق الأسهل الآن والأخطر غدًا. فالمعارضة التي تُريح النظام اليوم، قد تكون سبب أزمته غدًا حين يحتاج إلى من يقول له الحقيقة ولا يجد أحدًا.

إن الدولة التي تُطفئ كل أصوات النقد تُضعف مناعتها بيدها، والمعارضة التي تقبل الترويض تفقد شرعيتها من جذورها. فالسكوت ليس ولاءً، بل انتظار. والمجتمعات لا تنفجر فجأة، لكنها تتراكم فيها الأسئلة التي لم تجد من يطرحها، حتى تصبح الإجابات عبئًا لا يطيق أحد سماعه. لذلك فإن وجود معارضة حقيقية لا يهدد النظام، بل يمنحه الأمان الحقيقي؛ لأنها المرآة التي يرى فيها نفسه بلا تجميل، والبوصلة التي تمنعه من الضياع وسط تصفيقٍ لا ينتهي. أما المعارضة المروّضة، فهي التي تُقنع الحاكم بأن الطريق آمن وهو على حافة الهاوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!