وجوه لامعة وتمثيل زائف

مع بداية موسم الدعاية البرلمانية، تمتلئ الشوارع بلافتات ضخمة وصور لمرشحين في البدل الأنيقة والكرافتات الشيك، تتزين بابتسامات متكررة وشعارات محفوظة. ملايين الجنيهات تُنفق في أسابيع قليلة، وكأننا أمام سباق دعائي لا علاقة له بالتمثيل الشعبي. مشهد يتكرر كل دورة، لكنه يطرح السؤال نفسه: هل هؤلاء المرشحون يمثلون الناس فعلًا… أم يمثلون عليهم؟
في كل موسم انتخابي يظهر نوعان من المرشحين: الأول هو مرشح «الكرافتة الشيك»، الذي يملك المال ويجيد لغة الظهور. كلامه منمق وصورته محسوبة، يجيد الوقوف أمام الكاميرا أكثر مما يجيد الوقوف أمام الناس. هو نموذج محسوب بعناية ليبدو قريبًا من الشارع، بينما هو في الحقيقة بعيد تمامًا عنه. هذا النوع قد يصعب عليه الناس فعلًا، لكن أقصى ما يستطيع أن يفعله هو أن يحسن عليهم بما يملك؛ يوزع مساعدات هنا، أو يموّل مبادرة هناك، دون أن يقترب من جوهر مشكلاتهم أو يدافع عن حقوقهم. فالعطف عنده إحساس مؤقت، أما العدالة فهي معركة لا يعرفها. لأن من يرى الوجع من بعيد لا يمكن أن يشعر به كما يشعر به من عاشه.
كام واحد من أصحاب الصور دي وقف يومًا في طابور عيش؟
كام واحد جرب يشتري أنبوبة غاز على حسابه؟
كام واحد دخل مستشفى حكومي وقالوله: «هات كيس قطن وشاش وحقنة ودم، عشان المستشفى مفيهاش حاجة»؟
كام واحد حس فعلًا بمعاناة الناس اللي بيمثلهم؟
اللي عاشوا فوق السحاب ما يعرفوش شكل الأرض، واللي عمرهم ما احتاجوا الدولة عمرهم ما هيعرفوا ضعف المواطن اللي محتاجها كل يوم.
وفي الجهة المقابلة، هناك القيادة الشعبية الطبيعية، التي خرجت من قلب الناس وعاشت وجعهم يومًا بيوم، لكن هذا النوع بدأ يتآكل ويتلاشى، ليس لأنه فقد قيمته أو محبة الناس له، بل لأنه لم يعد قادرًا على مواجهة المال السياسي وفساد الأحزاب التي تخلّت عنه، فصارت المنافسة غير عادلة منذ بدايتها.
القيادة الشعبية الطبيعية لا تملك ميزانيات ضخمة ولا دعمًا من رجال أعمال، لكنها تملك ما هو أثمن: ثقة الناس وسجلًّا من المواقف الصادقة. هي ليست انعكاسًا لصورة أنيقة، بل امتدادًا لمعاناة حقيقية. وحين تقدّم خدماتها البسيطة، فهي لا تفعل ذلك طمعًا في الأصوات، بل بدافع إنساني نابع من إحساسها بالمسؤولية تجاه مجتمع تخلّت عنه الدولة. إنها تحاول أن تسد الفراغ الذي تركته مؤسسات ضعفت أو انسحبت من حياة المواطنين. فدورها ليس أن «تحسن» على الناس، بل أن «تحارب» من أجلهم. وقد لا تمتلك المال، لكنها تمتلك القدرة على رفع صوتها دفاعًا عنهم في كل قانون وتشريع. إنها تمثلهم لأنهم يرون فيها أنفسهم، لا لأنها تحاول تقليدهم أو تزييف ملامحهم.
لكن الكارثة الأكبر أن الأحزاب السياسية، التي يُفترض أن تكون الجسر بين الشارع والبرلمان، فقدت هذا الدور تمامًا. معظمها أصبح جزءًا من مشهد البدل الأنيقة والكرافتات الشيك، ينشط فقط في موسم الانتخابات، ويقدّم مرشحين من النوع اللامع المضمون تمويليًا، لا من النوع الشعبي الصادق تمثيلاً. الأحزاب لم تعد تبني قواعد وسط الناس، بل تبحث عن صفقات فوق الطاولة، وتتعامل مع الترشيحات كاستثمار موسمي. انفصلت عن الشارع الذي يُفترض أنها تعبّر عنه، وراحت تتاجر باسمه في موسم انتخابي لا ينتج إلا برلمانات تمثل السلطة أكثر مما تمثل الأمة.
هكذا يتحول البرلمان إلى مرآة مشوهة للمجتمع، لا تعكس نبض الناس بل صورة مطمئنة صُنعت بعناية. وحين يغيب صوت الشارع الحقيقي، تتحول القوانين إلى نصوص بلا روح، تفيد من يملك لا من يحتاج، وتخدم من فوق لا من أسفل. ومع كل دورة انتخابية، تتسع الفجوة بين المواطن والنائب، بين السياسة والحياة.
القيادة الشعبية ليست رفاهية، بل ضرورة وطنية لإحياء الثقة بين الناس ومؤسساتهم. والتمثيل الحقيقي لا يُقاس بعدد اليفط أو حجم الإنفاق، بل بصدق الموقف وقوة الانتماء. الإصلاح السياسي لن يبدأ إلا عندما تعود الأحزاب إلى الشارع، وتفسح مكانًا لقيادات خرجت من قلب الناس لا من مكاتب مكيفة. حينها فقط يمكن أن نقول إننا بدأنا نعيد للبرلمان روحه، وللسياسة معناها، وللناس صوتهم الحقيقي.




