المصري في الخارج… مواطنة على الورق فقط

رغم أن الدولة تحرص في كل استحقاق انتخابي على التأكيد أن المصريين في الخارج جزء من العملية السياسية، وأن لهم حق التصويت في انتخابات مجلس النواب شأنهم شأن أي مواطن داخل البلاد، فإن هذا الاعتراف يظل ناقصًا بطبيعته، لأن المشاركة المتاحة لهم لا تتجاوز حدود الإدلاء بالصوت، دون أن تمتد إلى التمثيل البرلماني المباشر أو التأثير التشريعي الحقيقي. فالمصريون في الخارج، البالغ عددهم ما بين عشرة إلى اثني عشر مليونًا، يُستدعون إلى مشهد التصويت باعتبارهم دليلًا على اتساع دائرة المشاركة وامتداد الدولة خارج حدودها، لكنهم لا يُعاملون كقوة سياسية لها وزن داخل البرلمان، ولا ككتلة مواطنين لها مصالح خاصة تستحق مقاعد واضحة ونوابًا مكلفين بمتابعة شؤونها.

وبذلك يصبح المصري في الخارج ناخبًا بلا نائب، حاضرًا في الصورة وغائبًا في القرار، يصوّت داخل سفارة أو قنصلية، لكنه لا يصنع نائبًا يتحدث عنه داخل قبة البرلمان. بل إن المفارقة تبدو أكثر عمقًا حين نعلم أن القانون لا يمنحهم دوائر انتخابية خاصة، ولا يخصص لهم مقاعد محددة، بل يدمجهم داخل قوائم انتخابية داخلية لا علاقة لها بظروفهم أو مشكلاتهم أو طبيعة حياتهم خارج مصر. فالمصري المقيم في ألمانيا أو قطر أو كندا يُطلب منه التصويت لقائمة أو مرشح في بني سويف أو الشرقية، وهي علاقة انتخابية لا تقوم على معرفة ولا تمثيل حقيقي، بقدر ما تقوم على استكمال نسبة المشاركة لا أكثر.

ورغم أن القانون يسمح نظريًا بترشّح “المصريين المقيمين بالخارج”، فإن الشروط الموضوعة تجعل هذا الحق أقرب إلى الشكل القانوني منه إلى الإمكانية الواقعية، إذ يشترط إقامة تمتد لعشر سنوات خارج البلاد أو امتلاك تصريح إقامة دائم، وهو شرط يبدو تنظيميًا في ظاهره، لكنه يستبعد في جوهره أغلب المصريين العاملين بالخارج، لأن الغالبية يتحركون بين دول، أو يعملون بعقود قصيرة أو متوسطة، أو لا يحملون إقامة دائمة بالمعنى الرسمي. وحتى إذا توفرت الشروط، فإن غياب الدوائر الخاصة بالخارج وغلبة النفوذ المحلي داخل الدوائر الداخلية يجعل فرص نجاح أي مرشح من الخارج شبه معدومة، لأنه ببساطة لا يمتلك القاعدة الاجتماعية داخل مصر التي تُصنع منها الانتخابات، ولا يملك الأدوات التي تمنحه فرصة عادلة للمنافسة.

وبذلك يتحول “حق الترشح” إلى ورقة تجميل لعدم المنع لا أكثر، ويتحوّل “حق التصويت” إلى إجراء رمزي لا يخلق تمثيلًا. القانون لا يمنع، لكنه لا يمكّن. يقول لك: تفضّل، الباب مفتوح، لكنه يترك وراءه حائطًا لا يمكن عبوره. يسمح لك بالصوت، لكنه يمنع وصول هذا الصوت إلى مقعد تحت القبة. فيصبح المصري في الخارج مواطنًا مُعترفًا به في الدستور، ومُستدعى إعلاميًا في الانتخابات، ومُستثمرًا اقتصاديًا في تحويلات العملة، لكنه مُعلّق سياسيًا خارج البرلمان.

والحقيقة أن الدول التي احترمت جالياتها لم تكتف بمنحهم حق التصويت، بل اعتبرت وجودهم امتدادًا طبيعيًا للوطن، فخصّصت لهم مقاعد في البرلمان، وأنشأت دوائر انتخابية للخارج، وربطت نوابًا بملفاتهم، كما فعلت تونس والمغرب وإيطاليا وفرنسا. أما في الحالة المصرية، فما يزال الخارج مجرد “صورة مشاركة” لا “قوة تمثيل”، وما تزال الدولة تنظر إلى المصري بالخارج باعتباره مصدرًا للتحويلات أكثر من كونه مواطنًا كامل الحقوق.

وإذا كان النظام السياسي يتحدث عن “جمهورية جديدة” و”مواطنة حديثة” و”دولة شاملة لكل أبنائها”، فإن أول اختبار جاد على صدق هذه الشعارات يبدأ من سؤال بسيط: هل يملك المصري في الخارج حق أن يكون مُنتخَبًا كما يملك حق أن يكون ناخبًا؟ هل يمكن أن يرى نائبًا يتحدث باسمه كما يرى ورقة يضع فيها صوته؟ أم أن دوره سيبقى محصورًا في حدود الطوابير أمام السفارات، لا في مقاعد القاعة البرلمانية؟

المصريون في الخارج لا يطالبون بامتياز، بل بتكافؤ. لا يريدون أن تكون مواطنتهم مقاسة بعدد الدولارات التي يحوّلونها، ولا بعدد الصور التي تُلتقط لهم يوم التصويت، بل بعدد المقاعد التي تعبّر عنهم، وعدد المرات التي يُذكر فيها اسمهم في جلسة تشريعية، وعدد المواقف التي تُبنى على مصالحهم كمواطنين، لا على دورهم كدافعي عملة صعبة.

وهنا تظهر الحقيقة كما هي: المصري في الخارج ليس غائبًا عن الدولة، لكنه غائب عن البرلمان. ليس خارج العملية الانتخابية، لكنه خارج العملية التمثيلية. هو مواطن كامل على الورق… وناقص في الواقع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!