د. أماني فؤاد تكتب .. قصصه التي تطايرت
.
منذ أن استيقظ في السابعة وأنزل قدميه على أرض الغرفة، يشعر بالوجود من حوله رخوًا بشكل ما، لم يتوقف أمام الأمر طويلا، شرع يمارس طقوس يومه العادية، وهو يفرِّش أسنانه، لمح طيف امرأة يمر بالمرآة، كانت ترتدي بلوزة بيضاء من الدانتيل وجينزا سماويًّا، شاهدها تسقط على الأرض مرة، ثم تقوم سريعا لتقع ثانية، من المحتمل أنه كان بجوارها في هذا المشهد، ربما شاهَد لهما معا بعض الصور من قبل، سمع زوجته تنتقد رداءها، الذي يشف عن حمالة صدرها، دقَّق النظر؛ فلم يجد الذي يشف هذا، ولا المرأة ذاتها.
رآها من قبل، كأنها تأتي من إحدى بوابات الزمن، من بهو سحيق، لاحظ أيضا أن مساحات صلبة تتوزع أرضية الغرفة، وأخرى كأنها من مادة مطاطية تتحرك من تحت قدميه، فشعر أنه يغوص في وجود لا يحدده، قال يحدِّث نفْسه: هي بلا شك أوهامنا التي تنتعش أحيانا.
ربما كانت حبيبته ذات يوم!! كلما لمح طيف هذه المرأة انتابه شعور بأنه خذلها. ربما جز رقبتها كأي متطرف، تجرع كوب الليمون بالنعناع على دفعة واحدة؛ ليذهب، تذكَّر ما قرأه أمس عما يُسمى بمتلازمة الكوخ، تلك التي تصيب الإنسان من المكوث وحيدا لمدة طويلة.
كان قد قرر أن يكتب قصة عن هذه المرأة منذ زمن، وأن يعنونها بــ “المرأة التي لم يحبها قَط”، ربما كتب منها أربعة أسطر، ثم تركها دون أن يكملها.
“2”
تأتيه رائحة البحر من بعيد، يُسرع فوق طريق يشعر بسيولته، ربما يقود عربته فوق الموج الذي يعلو ثم ما يلبث يتلاشى، رأى أمامه الشابين اللذين سمعهما يسأل أحدهما الآخَر: لماذا انصاعا وذهبا دون أن يتمسكا بحقهما في البقاء داخل البحر كما يحلو لهما، لماذا أطاعا فرد الأمن الذي استدعاهما ليخرجهما فور نزولهما، قال الحارس: إنه شاطئ خاص، وأصحاب القصور يستاؤون من وجود الغرباء، عليهما أن يغادرا على الفور. همس أحدهما للآخَر: لا تحزن، التقطتُ لك عدة صور وأنت تقف داخل البحر، أرسلها لفتاتك، ولا تقل لها إن ثقيل الظل هذا قد أخرجنا منه بمجرد أن نزلناه، لا تقل لها إن أصحاب القصور قد صادروا رغباتنا البسيطة أيضا مع البحر.
تذكر الآن؛ رأى هذا المشهد أمامه في الصيف الماضي، قرر أن يكتب ما لم تسمعه أذناه من الشابين، لقد شاهدهما من شرفته البعيدة، رأى أحدهما يسأل الآخَر وهو يضحك، هل ظهرت ساعته الجديدة في الصور التي سيرسلها لفتاته، حكى لصديقه أنه وفر نصف يوميته لأكثر من ستة أشهر؛ ليشتري هذه الساعة التي يستطيع أن يسبح بها ولا تفسدها المياه؛ كما اشترى لحبيبته خلخالًا ذهبيًّا؛ ليزيِّنَ ساقها البضة وكعبها الوردي. أحبها حين رأى ساقيها، كان ممددا على الأرض يُصلح إحدى العربات، أول ما رأى منها كانت قدماها، فعشقها على الفور.
لماذا لم يكتب تلك القصة وينهيها، فلقد أتم صياغتها في ذهنه كاملة في إحدى مرات استيقاظه المبكر. كأن خزانة الزمن قد انفتحت؛ ما تبخر ولم يفعله، يعاود حضوره.
“3”
حين وصوله لمكتبه بالمركز باغته وجه الشابة، التي سمعها تحكي لزميلتها أنها لم تعد تطيق رائحة فم زوجها المنفِّرة، وأنها تريد الطلاق، ذكَّرته ــ حين استرق السمع لهما وقتها ــ ببطلة رواية “النبطي” لــ”يوسف زيدان”، المرأة التي لم يعد يتذكر اسمها الآن، لا، تذكَّرها في التوِّ، اسمها “مارية”.
“أزاهيج” تلميذته، ومنذ زمن قرر ألا يقيم علاقة مع إحدى تلميذاته، سمع من أساتذته الأكبر إنه من غير اللائق، رغم أنه عَرِف فيما بعد أنهم في الغالب يفعلون عكس ما يقولون، عيناها الواسعتان العميقتان طالما دعتاه أن يشتري حبات النعناع قبل أن يذهب إلى لقائها، فهو أستاذها المشرف على رسالتها للماجستير حول تصميم المدن فوق الأعمدة على مياه المحيطات.
سمعها تقول لزميلتها أيضا: إن رائحة فمه تذكِّرها بالزهور التي تنبت لها أجنحة.
لوهلة برق في ذهنه أن الذي يطارده منذ الصباح قصصُه التي أراد أن يكتبها يوما ثم لم يتمها.
تُحدِث بعض النهايات خرقا في نسيج الحياة، فبمجرد أن فَتَحَ غرفة مكتبه بعد عودته إلى البيت؛ وجد جميع من شاهدهم اليوم، ومعهم شخوص آخرون، بادروه بأن البشر كائنات منذورة للموت، وأنه للحظات أشعرهم بأنهم أرواح نافذة في نسيج الوجود، أتاح لهم فرصة بقاء آخَر، احتشدوا حوله يريدون بعثا؛ فجلس على مقعده، وبمجرد أن فتح حاسوبه؛ تجمعت الحروف والجُمل، وكلما توغل في الحكي عن أحدهم؛ تطايرت أعضاؤه، وازدادت مسام الوجود من حوله تفتُّحا، حين انتهى ورفع عينيه لم ير أحدا.. هي فقط، لمحها تقف بعيدة.